في هذه المسرحية الغنائية، الصادرة [...] في ترجمتها العربية التي أنجزتْها نهلة بيضون، يستمر معلوف أمينًا للمعاني الكبرى، وكيفية تجسُّدها في التاريخ والحضارة، وعلاقة الشرق بالغرب.
مُغنَّاة الحب عن بُعد أوبرا لحَّنها كايجا ساراياهو، وأخرجها بيتر سيلار لمهرجان سالتسبورغ في آب 2000، وعُرِضَتْ على مسرح الشاتليه في فرنسا في تشرين الثاني 2001، قبل أن تجول عالميًّا. [...]
تدور أحداث أوبرا الحب عن بُعد في القرن الثاني عشر بين مقاطعة أكيتين الفرنسية ومدينة طرابلس وعرض البحر المتوسط. وقد وُزِّعَتْ الأدوار على: جوفري روديل (أمير بلاد بلاي وشاعر جوَّال، باريتون) وكليمانس (كونتيسة طرابلس، سوبرانو)، والحاج (ميتزو سوبرانو).
خمسة فصول يروي فيها المؤلِّف قصة جوفري، الأمير الذي سئم حياة الترف وبات يتوق إلى حبٍّ مختلف بعيد. يؤكد له رفاقُه أن المرأة التي يتغنَّّى بها لا وجود لها. هل ثمة أمل؟ يؤكِّد له الحاج العائد من الشرق أن تلك المرأة موجودة فعلاً وقد التقاها. فتسكن في باله. يعود الحاج إلى الشرق ويلتقي كونتيسة طرابلس، فيعترف لها بأن أميرًا وشاعرًا في بلاد الغرب يتغنَّى بها ويدعوها "حبيبته البعيدة". وتتساءل كليمانس في سرِّها هل تستحق كلَّ هذا العشق. يلتقي الحاج الأمير جوفري، ويُسِرُّ له بأن تلك السيدة باتت على علم بأنه يتغنَّى بها، فيقرِّر الشاعر الجوَّال السفر للقائها. تؤثر كليمانس أن تبقى علاقتهما بعيدة نائية. لكن جوفري يبحر متشوقًا للقائها في رهبة. يندم على قراره المتسرِّع بالسفر ويغدو عليلاً ويصل إلى طرابلس محتضرًا. يذهب الحاج ويبلِّغ كليمانس بأن جوفري وصل. وفي حضرة المرأة يستعيد الشاعر وعيه شيئًا فشيئًا. يلتقي الحبيبان البعيدان، يتصارحان، ويتعانقان ويتعاهدان على الحب. يلفظ جوفري أنفاسه في أحضان كليمانس التي تتمرَّد على قَدَرِها الإلهي. تلوم نفسها على المأساة وتقرِّر دخول الدير. وفي المشهد الأخير تظهر مستغرقة في الصلاة؛ ولكن كلامها مبهم، ولا يُفهَم هل كانت تصلِّي لربِّها أم لـ"حبيبها البعيد".
حكاية أمين معلوف الساحرة عن الحبِّ تقودنا إلى الوهم والإثارة، إلى ضفاف الأسطورة الجميلة، حيث تستيقظ في قلب العاشق رغبة الحياة ورغبة الموت. كأنما الرغبة انتهاء. فحين يلتقي العاشقان "يموت الهوى منِّي إذا ما لقيتها"، على ما يقول جميل بثينة. والمعاني الرمزية في المسرحية كثيفة ومتداخلة: الرجل من الغرب، والمرأة من الشرق، والبحر بينهما والقَدَر. هي تشكِّل الحلم المستحيل له، وهو المغامرة الممكنة. والبحر لا يمكن عبورُه إلا بالحب أو بالموت. المعنى، إذن، لا يكتمل، والعلاقة لا تكتمل؛ وتبقى الحياة والحكاية وذاك الحلم الأثير الذي لا ينتهي باللقاء. يذهب هو إلى الموت، وهي إلى الذكرى والربِّ البعيد الذي يشبه الحبَّ البعيد.
كما لا يخفى ما في عنوان الكتاب من ايحاءات التقانة عن بُعد (العلم "عن بُعد" والافتراض "عن بُعد"). وماذا عن الحبِّ الذي يتجاوز ويحقق البُعد والقرب؟!
ولكن كيف يقول أمين معلوف هذه المعاني؟ يقولها على النحو الأسمى – بالشعر. وحده الشعر يليق بهذا الاحتشاد من الرموز. ويقولها بالرقة والحزن والشغف والإيقاع الداخلي المتنامي والمترافق مع التطور الدرامي للفصول. ويكتب بلغة مصفَّاة بشفافية الروح، بالبياض الذي يفتح القلب أمام الحبِّ والبحر والروح:
من هي تلك المرأة؟
جميلة من دون صلف الجمال
نبيلة من دون صلف النبل
تقية من دون صلف التُّقى.
وعندما تناجي كليمانس حبيبَها:
كلُّ مركب يرسو يذكِّرني بمنفاي
وكلُّ مركب يبتعد يُشعِرني بأنني هُجِرْت.
وفي بعض العبارات يتوارى معلوف ليقول نفسه:
البلاد التي أبصرتُ فيها النور تتنفس في أعماقي
كم يسعدني لو تذكَّرني سورٌ واحد، أو شجرةٌ واحدة.
وفي أحد المقاطع يرى جوفري الأمير أن الرحلة إلى طرابلس هي ولادته الثانية. أليس الحبُّ ولادة ثانية؟ ويقول أيضًا إنه "في نهاية الرحلة ستبدأ حياتي". أليس الحبُّ بداية جديدة للحياة؟
ومن خلال جُمَل عابرة في الحوارات يستشرف أمين معلوف أزمة الشرق في قَدَريَّته وانتظاره؛ إذ تقول كليمانس: "لا أدري إنْ كنت سأعشقه، إنْ كنت سأفتتن بصوته." ويعبِّر كذلك عن أزمة الحضارة الغربية في انعدام الثقة بالنفس واللايقين؛ يقول جوفري: "أخشى ألا ألقاها، وأخشى لقاءها، أخشى أن يبتلعني البحر... أخشى الموت، أيها الحاج، وأخشى الحياة، أتفهمني؟" (ص 68)
لعل أهم ما يأتي به كتاب الحب عن بُعد إصرارُه على اللقاء والحوار الحضاري بين الشرق والغرب – رغم كلِّ شيء. الحوار الإنساني في نزعاته الذاتية المختلفة. حوار الحبِّ والمغامرة والتاريخ والمدن العريقة. حوار المعاني الكبرى والقيم العظيمة والحضارات الأصيلة التي لا تتغير باختلاف الهويات والتصورات والمصالح
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق