الأربعاء، 28 مايو 2014

مكانة "اسرائيل" في السياسية الامريكية بعد الحرب الباردة

كان التهديد السوفيتي المزعوم الذي يحاول أن يسيطر على المنطقة العربية ولجوء العديد من الدول العربية ، نتيجة الربط بين "الاستعمار "القديم والدول الغربية في الوجدان العربي من جهة، و بعدما قوطعت بعضها من قبل الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها (حالة مصر في عهد جمال عبد الناصر)، إلى الاستعانة بالاتحاد السوفيتي في بناء أوطانها واقتصادياتها الهشة، المبرر الجاهز الذي لجأت إليه الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الحليفة لها لتبرير مساندتها "لإسرائيل" "القوة الوحيدة المتبقية في المنطقة التي تناصر الغرب من ناحية والتي يمكن الاعتماد عليها من ناحية أخرى"[i]. وتأكد هذا خصوصا بعد انتصار "إسرائيل" في حربها ضد العرب في سنة 1967 حيث أسدت خدمة جليلة للولايات المتحدة الأمريكية والغرب، بالتخلص من "فيروس" القومية العربية المستقلة، وقامت بقصم ظهور الجيوش العربية (المتسلحة بالأسلحة السوفيتية)، تاركة القوة الأمريكية تتألق أكثر فأكثر، وصارت "إسرائيل" قاعدة أساسية للقوة الأمريكية في المنطقة العربية والشرق الأوسط، يجب المحافظة عليها خاصة بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران في الإطاحة بنظام الشاه الذي كان يعتبر العمود الثاني للقوة الأمريكية، في حين أن العمود الثالث، و المتمثل في المملكة العربية السعودية، لا يمكن الوثوق فيها في المستقبل البعيد.
أما بعد زوال الحرب الباردة ونزوع الدول العربية الاشتراكية سابقا إلى تبني اقتصاد السوق، ولجوء بعضها إلى التحالف أكثر مع الولايات المتحدة الأمريكية تبين أن الذريعة التي كانت تروج لها الإدارات الأمريكية، عن سبب تحالفها مع الكيان الصهيوني، لم تكن إلا عبارة عن ذر للرماد في العيون، بل أن المتتبع للتصريحات السياسية والأبحاث التي صدرت في مطلع التسعينيات يلاحظ أن التحالف الأمريكي الإسرائيلي قد أُعطى دفعة جديدة – بسبب زوال الخطر الشيوعي- فعلى الأقل كانت الولايات المتحدة الأمريكية خلال الحرب الباردة تحاول الموازنة أحيانا بين مصالحها اتجاه بعض الدول العربية المؤيدة لسياستها أو المعادية للاتحاد السوفيتي من جهة ومصالحها اتجاه حماية ودعم "إسرائيل" من جهة أخرى .
بدليل أن أول ما قامت به الإدارة الأمريكية، بعد الحرب الباردة، هو التوجه إلى الجمعية العامة "وإلغاء قرار رقم 3379 للأمم المتحدة الصادر في 10 نوفمبر 1975 والذي نصّ على "أن الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العرقي" واستصدار قرار جديد يؤكد أن "الحركة الصهيونية هي حركة التحرير الوطني للشعب اليهودي"[ii]
وعشية انتهاء الحرب الباردة ، كتب مجموعة من السياسيين الأمريكيين "أن "إسرائيل" حليفة أصبح أمنها مصلحة حيوية، وفضلا عن الالتزام السياسي والأخلاقي المهم القائم بين الولايات المتحدة الأمريكية و"إسرائيل"في شأن بقاء الدولة اليهودية على قيد الحياة ، فإن أي هجوم على إسرائيل يعتبر تهديدا للوضع الإستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية"[iii] وأضاف كاتب آخر قائلا:"أن مسالة بقاء إسرائيل على رأس جدول أعمال السياسة الخارجية، بالرغم من أن قوة أعداء إسرائيل (العرب)، لا تستدعي من الولايات المتحدة الأمريكية تدخلا عسكريا لصالح إسرائيل، ولا يتركز هذا الالتزام على ضرورة إستراتيجية، بقدر ارتكازه على أربعة عقود من الروابط السياسية والثقافية، فقد قام كل رئيس وصل إلى السلطة منذ عام 1948 بتأكيد الالتزام بأمن إسرائيل ويبدوا إن هذا الالتزام سيظل قائما طوال العقد القادم.[iv]
فالولايات المتحدة الأمريكية كانت في خلال الحرب الباردة تنظر إلى "إسرائيل" ، بمثابة الحليف الذي يمكن أن تعتمد عليه في مواجهة بعض الأنظمة العربية التي كان الإتحاد السوفيتي يساندها، وأن زوال الإتحاد السوفيتي لم ينهي هذه المهمة الإسرائيلية لحساب الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة العربية، بقدر ما حولها، بحسب الظروف والتغيرات الجديدة، وصار دور الدولة اليهودية، حسب الرئيس السابق للمخابرات الإسرائيلية الجنرال "شلومو جاريت" حيث قال "أن مهمة إسرائيل الأساسية لم تتغير على الإطلاق، فهي باقية على أهميتها وضرورياتها الحساسة، فموقعها في مركز الشرق الأوسط العربي المسلم، يقدر لها بان تكون حرسا للاستقرار في جميع الدول المحيطة بها... (ودورها) يتمثل في حماية الأنظمة القائمة من خلال منع أو وقف العمليات الراديكالية، ومنع توسع أي حماس أصولي أو ديني".[v]
وفي إدارة كلينتون لعبت "إسرائيل" وحلفائها من اليهود والصهاينة في الولايات المتحدة الأمريكية دورا محوريا في الاستراتيجية الأمريكية اتجاه منطقة العالم العربي والشرق الأوسط، من خلال ترويج نظرياتهم بأنهم يمارسون الدور التاريخي للولايات المتحدة في المنطقة، وحث الإدارة الأمريكية بعدم التفريط في مصالح "إسرائيل" والتي هي في الحقيقة مصالح الولايات المتحدة ذاتها، فهذا "مارتن أنديك" المستشار الخاص للرئيس كلينتون، ومدير شؤون الشرق الأوسط وجنوب أسيا، في مجلس الأمن القومي في ندوة أقامها – معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى-تحت عنوان : "تحديات المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط ...عقبات وفرص" ، في 19ماي 1993، صرح قائلا "أن نهجنا حيال المفاوضات سيتناول العمل مع إسرائيل وليس ضدها، نحن ملتزمون بتمتين شراكتنا الإستراتيجية مع إسرائيل، سعيا وراء السلام والأمن..."[vi]. وتأكيد لهذا الموقف قال سفير الولايات المتحدة الأمريكية السابق لدى "إسرائيل" "صمويل لويس" في ندوة عقدها (مجلس السلام العالمي) في واشنطن في 23-24 ماي 1993 تحت عنوان (الشرق الأوسط في التسعينات والسلام العالمي)، "أن إسرائيل هي حليفتنا الوحيدة في المنطقة، وحليفتنا الإستراتيجية، ومن أهم المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، المحافظة على أمن إسرائيل وبقائها، إن الولايات المتحدة لا تستطيع إلا أن تكون منحازة لإسرائيل، لأسباب أعلاه، وكذلك لأنه يوجد شعور بالصداقة والود لدى الرأي العام الأمريكي وفي الكونغرس والإدارة الأمريكية اتجاه إسرائيل"[vii].
لقد شكلت إدارة الرئيس كلينتون سابقة مهمة ونقطة تحول محورية على مستوى النفوذ الصهيوني في صنع وإدارة الاستراتيجية الأمريكية، "وكان اليهود و"الصهاينة" قد حصلوا على 50% من المناصب الاتحادية، التي تم تعيينها في إدارته في البيت الأبيض في الوقت الذي لا يتجاوز عدد اليهود 2 % من سكان الولايات المتحدة، وكان في الكونغرس الأمريكي 107 من اليهود في مجلس الشيوخ بمعنى 10 % من أعضاء المجلس، في الوقت الذي وصل عددهم في مجلس النواب إلى 27 نائبا يشكلون 6,4 % من أعضاء مجلس النواب"[viii].
ويلعب اللوبي الصهيوني في الإدارة الأمريكية على مستويين: في زيادة الدعم (الموجود أصلا) السياسي والعسكري والاقتصادي "لإسرائيل" من ناحية، وتوتير العلاقات العربية – الأمريكية من ناحية أخرى، وتلعب منظومة الإعلام والسينما والمسرح ودور النشر الخاضعة للهيمنة اليهودية، بما هو أعمق وأهم، وهو التأثير السريع والمباشر على الرأي العام ونخبه المثقفة، وإقناعه بالمفاهيم والآراء التي تعود في صالح "إسرائيل"، وإيهامه عن السياسات غير الإنسانية التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين والعرب.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك العديد من المنظمات والمؤسسات اليهودية في الولايات المتحدة الأمريكية والتي تساهم في رسم والتأثير على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وأهم هذه المنظمات وأقدمها هما منظمتا "مؤتمر الرؤساء"، و"لجنة الشئون العامة الأمريكية ـ الإسرائيلية (إيباك)"، ولمؤتمر الرؤساء ميزانية، ومقر، ويضم أكثر من أربعين منظمة، ولكنه ليس في مثل مستوى "إيباك"، التي تعتبر دينامو (مولِد) اللوبي الصهيوني، فهي هيئة مركزية " تشمل مجلساً يشرف على نشاطها، مكوناً من قادة منظمات يهودية... أما محركها الحقيقي، فهو مديرها التنفيذي، و تتلخص وسائل وآليات عمل اللوبي اليهودي، عموماً، و"إيباك" خصوصاً، في:
- المحافظة على الاتصالات اليومية، بأفراد الإدارة، وأعضاء الكونجرس، وحتى الرئيس الأمريكي، ليتسنى للوبي التدخل، مبكراً، تجاه المشاريع، التي لا تزال قيد الإعداد، "الأمر الذي يتيح لإيباك، بصورة خاصة، أن تحدد العناصر الرئيسية، والموضوعات والشخصيات، قبل أن تقوم بصوغ إستراتيجيتها"[ix].
- للمعلومات دور مهم في آليات عمل اللوبي، حيث تقوم عناصر "إيباك" بتجميع المعلومات، وتقديمها للصحافة، أو أعضاء في الكونجرس على استعداد لدعم وجهة نظر اللوبي، و"استخدام الدعاية، التي تنتج من ذلك، لتوليد المعارضة"، إلا أن جمع المعلومات يصل -أحياناً- إلى حد التجسس، خاصة فيما يتعلق بالمعلومات التقنية، والعسكرية.
- اللوبي ليس مجرد مستودع معلومات، بل مصدر لها، من خلال ما يقدمه من خدمات لرجال الكونجرس، تتمثل في معلومات، مُعدة بدقة وعناية، أو إعطاء نصائح، أو كتابة خطاب، أو العمل على نص تشريعي. ففي نداء صادر عن "إيباك"، قال السيناتور الأمريكي، فرانك تشرش (Frank Church): "كان من دواعي اطمئناني أن أعرف بأنني كلما احتجت إلى معلومات بشأن الشرق الأوسط، أستطيع الاعتماد على إيباك، لتقدم لي معونة مهنية، موثوق بها". وكتب أحد مسؤولي "إيباك"، دوجلاس بلومفيلد (Douglas M. Bloomfield)، يقول: "من المألوف أن يلجأ أعضاء الكونجرس، والعاملون معهم، عندما يحتاجون إلى معلومات، إلى إيباك، قبل لجوئهم إلى مكتبة الكونجرس، أو إلى دائرة الأبحاث فيه أو إلى العاملين في اللجان أو إلى خبراء الإدارة"[x]. ولا تقتصر الخدمات على تقديم المعلومات، بل تتعداها إلى إصدار نشرة أُسبوعية، يتم توزيعها على أعضاء الكونجرس، تتضمن ما يجري من أحداث في المنطقة العربية، لتوليد رأي عام داعم للكيان الصهيوني، وإظهاره في صورة "واحة الديمقراطية"، وسط صحراء الديكتاتوريات العربية. ولا يغفل اللوبي أهمية تنظيم زيارات مجانية لأعضاء الكونجرس، ومعاونيهم إلى الكيان الصهيوني، بالإضافة إلى إقامة معاهد فنية متخصصة، لتخريج كوادر قادرة على العمل في الوظائف الحيوية، في الخارجية، والدفاع، والإدارة، وحول الرئيس الأمريكي نفسه.
- التعبئة، وهي نوعان، الأول بمعنى الضغط على أعضاء الكونجرس، وغيرهم لصالح دعم إسرائيل. أما النوع الثاني فينحصر في "المكافأة الانتخابية" للأعضاء الذين يحملون لقب "صديق إسرائيل الكبير".
وتعتبر المعونات الأمريكية لإسرائيل، أهم الوسائل التي تستخدمها الولايات المتحدة للحفاظ على تفوق وقوة هذه الدولة، "والتي تشكل نحو 25 % من مجموع المعونات الخارجية الأمريكية، وهي معونة لا مثيل لها في علاقات الولايات المتحدة مع أي دولة أُخرى، من حيث الحجم، والتنوع، والتداخل ما بين المساعدات الاقتصادية والعسكرية، بالإضافة لاستمرار تدفقها، وزيادتها، أي أن المساعدات التي تتلقاها إسرائيل أكبر مما تتلقاه أي ولاية أمريكية، ما يجعل القول بأن "إسرائيل ولاية أمريكية" أكثر من الحقيقة".
والجدير بالقول أن المساعدات الأمريكية لإسرائيل، بدأت منذ أن نشأت العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل بعد الحرب العالمية الثانية، وهي تتطور وتزداد منذ تلك الفترة دون توقف، "وبعد انهيار "المعسكر الاشتراكي" (1989)، والتدخل المباشر للولايات المتحدة في الوطن العربي، أثناء حرب الخليج الثانية (1990-1991) تدفقت على إسرائيل، أكبر معونة مالية وعسكرية، حصلت عليها إسرائيل، طوال تاريخها (كمكافأة لها مقابل إظهار إلتزام الحياد اتجاه الحرب). قسمت هذه المعونة إلى 1.2 مليار دولار، هبات اقتصادية، في بداية العام 1991، و1.8 مليار هبات عسكرية، في بداية العام نفسه، بالإضافة إلى 650 مليون دولار لمساعدة إسرائيل على تحمل تكاليف حرب الخليج. ولتدفق المهاجرين السوفييت على إسرائيل، تم تخصيص 45 مليون دولار لتوطينهم، و43 مليون دولار معدات عسكرية، كجزء من الحشد العسكري في الخليج، إلى جانب ضمانات قروض إسكانية، بمبلغ 400 مليون دولار، ومعدات عسكرية إضافية، بحوالي 200 مليون دولار".[xi]
ومثلت المساعدات الأمريكية "لإسرائيل" في عام 1994 فقط ما قيمته "30 % من موازنة الدفاع الإسرائيلية، وبعد حرب الخليج 1991 تلقت إسرائيل شحنات سلاح إضافية من المخازن الأمريكية، بما قيمته 2 مليار دولار، فإسرائيل تعامل حاليا كحليف خارج الحلف الأطلسي (Non Ally NATO) ما يعطيها الحق في الحصول على نظم التسلح الأمريكية"[xii].
هذا فيما يخص المساعدات التي تقدمها الحكومات الأمريكية لإسرائيل، إلا أنه هناك قنوات أخرى غير رسمية تقوم بمساعدة إسرائيل في مجالات مختلفة، و التي تعتبر من أهم الروافد التي تمد الخزينة الإسرائيلية بما لا يقل عن مليار دولار، سنوياً، وهي بمثابة تبرعات خيرية، يتم خصمها من الوعاء الضريبي للمتبرع، ويتم جمع هذه المساعدات من خلال منظمات وجمعيات خاصة عدة، من أهمها "منظمة النداء اليهودي الموحد"، و"منظمة نداء إسرائيل الموحد"، و"الوكالة اليهودية"، و"منظمة سندات حكومة إسرائيل". فعلى سبيل المثال، يُقدر إجمالي المساعدات الأمريكية، التي وصلت إلى إسرائيل، عبر القنوات الخاصة، منذ 1948، وحتى 1994، بحوالي 26.5 مليار دولار، منها 7 مليارات، حصيلة التبرعات الفردية، و12 مليار دولار، مجموع تبرعات المؤسسات والمنظمات الخاصة، و7.5 مليار دولار، حصيلة بيع سندات إسرائيل"[xiii].
أما في إدارة الرئيس بوش (الابن)، فقد كان للدولة اليهودية موقعا متميزا واهتماما خاصا "والدعم الكلي لإسرائيل أصبح أكثر فأكثر من قبيل المقدسات، التي يحرم المساس بها في واشنطن، وذلك بسبب انزلاق الناخبين اليهود من عند الديمقراطيين نحو الجمهوريين، وبسبب الانتقال التدريجي لليمين المسيحي إلى الصهيونية –وهو انتقال لا يخلو من الغموض– على أنه يجعل من تهويد فلسطين مقدمة لتهويد العالم"[xiv].
وفي تقرير الخبراء ، تقدير الموقف الإستراتيجي♣ في التوصية التاسعة منه توصي الرئيس بوش أن يعرف "أن إسرائيل هي الركيزة الأولى لضمان أمن الإقليم، والتحالف الأمريكي مع إسرائيل بالفعل والقول هو القاعدة المبدئية لكل الخطط والسياسات، والحقيقة أن قوة الشراكة بين البلدين، هي أداة الفعل الرئيسية في المنطقة، ولابد أن تكون العلاقة بين الطرفين نظيفة من أي توتر" ويضيف نفس التقرير مقدما وصيته إلى الرئيس الجديد " عليك الاستفادة القصوى من هذه الحقيقة الاستراتيجية، أن تكفل لإسرائيل تفوقا نوعيا جديدا طول الوقت على الأطراف العربية، وهنا فإنه عليك حماية أمن وبقاء إسرائيل، وأن تقاوم وترفض بشدة كل محاولة من جانب أي طرف عربي، يطلب أو يسعى للتساوي مع إسرائيل"[xv].
وخلال فترة ما بعد الحرب الباردة واظبت الإدارات الأمريكية في مجلس الأمن في لعب دور مهم لصالح "إسرائيل"، الذي لعبته الإدارات السابقة تمثل في استعمالها حق النقض "الفيتو" –وهو أيضا أحد وسائل هذه الإستراتيجية- عندما يصدر قرار يدين إسرائيل أو يطالبها بالالتزام بالقرارات السابقة من جهة، وتجاهل قيام إسرائيل مرة تلو الأخرى في انتهاك القرارات الدولية وعدم تنفيذها، سواء الصادرة من مجلس الأمن أو من الجمعية العامة في الأمم المتحدة، والأخذ بالتفسيرات الإسرائيلية لهذه القرارات، التي هي أولا وأخيرا تعتبر مجحفة للحقوق الفلسطينية والعربية، وتتغافل عن الحقائق التاريخية التي لا يمكن طمسها، ولا تلبي المطالب الدنيا المشروعة للشعب الفلسطيني والشعوب العربية، حتى ولو وافقت عليها "إسرائيل" وقبلتها في النهاية، وشكل غياب الإتحاد السوفيتي السابق والذي كان يضفي نوع من التوازن في الأمم المتحدة، والتفاف بقية القوى حول الولايات المتحدة الأمريكية، بيئة مناسبة جدا لتجاوز قرارات الشرعية الدولية السابقة واللاحقة، ولإرادة المجتمع الدولي "فعند صدور أي قرار يتعارض مع مصالح الكيان الصهيوني، تهبّ الولايات المتحدة لعرقلة صدور هذا القرار، باستخدام حق "الفيتو"، أو الاعتراض. فمنذ العام 1972، وحتى منتصف التسعينات، استخدمت الولايات المتحدة الفيتو 73 مرة، منها 70 مرة لصالح إسرائيل.[xvi] وقد زادت هذه الانتهاكات الإسرائيلية في الفترة التي تلت نهاية الحرب الباردة، وتفاقمت حتى أصبحت طابع متميزا للسياسة الأمريكية يسهل التنبؤ به، والنتيجة في النهاية صدور المئات من القرارات عن الأُمم المتحدة، "داست" عليها إسرائيل ولم تنفذ منها شيئا، كل ذلك تحت الحماية الأمريكية.
ومن أجل ضمان بقاء وأمن وتفوق إسرائيل تقوم الولايات المتحدة بضمان تفوق، القوة العسكرية لإسرائيل على العرب جميعا، مستغلة في ذلك –أي الولايات المتحدة- تفوقها العالمي في الصناعة العسكرية وتوفير التكنولوجيا العسكرية المتقدمة، وهي تعمل باستمرار لإبقاء هذا الوضع ومنع أي منافس آخر، حيث تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بتزويد إسرائيل بأحدث الأسلحة والتكنولوجيا بينما تحرم الدول العربية من ذلك، أو على الأقل تحول دون التفوق العسكري العربي، بل أنه عندما تمكنت بعض الدول العربية من اكتساب قاعدة عسكرية شبه متطورة، مما وفرته لها العولمة الحالية، بالإضافة إذا ما أخذنا التفوق الكمي للدول العربية في الاعتبار، رغم أنها في كل الأحوال تبقى بلا فعالية واقعية، لجأت الولايات المتحدة الأمريكية إلى استراتيجية أخرى ألا وهي تمكين إسرائيل من اكتساب السلاح النووي، سواء بالتغاضي والتكتم عن جهودها الرامية إلى اكتسابه، وحتى مساعدتها في الحصول على التكنولوجيا المتطورة التي تعتبر القاعدة الأساسية لاكتساب هذه الأسلحة، بينما تبدي قلقها واهتمامها بمجرد أن تتوجس أجهزة استخباراتها بأن هذه الدولة العربية أو تلك لديها نوايا لاكتساب أسلحة نووية مثلما حصل ويحصل مع العراق وليبيا وسوريا والجزائر وإيران... حتى ولو أكدت هذه الدول مئات المرات على أن برامجها لأهداف سلمية ومدنية، ولا تكتفي الولايات المتحدة الأمريكية ببرامج الرقابة الدولية على المنشآت النووية في الدول العربية، بل لابد أن تخوض هي غمار هذه الرقابة لتتأكد جيدا من خلو هذه الدولة العربية أو تلك من أسلحة الدمار الشامل، وإلا صار الويل على الدولة العربية التي ترفض الإرادة الأمريكية. والهدف في الأخير عند الولايات المتحدة الأمريكية هو بقاء التفوق الإسرائيلي.
ولم يأتي هذا الموقف الأمريكي المنحاز لإسرائيل، بطريقة عفوية، وإنما جاء نتيجة لتراكم سياسي ثقافي ديني اجتماعي موروث داخل العقل والوجدان الأمريكي، حيث سادت منذ قيام دولة "إسرائيل" في عام 1948 "علاقات من الود والتسامح والتعاطف ، لتصعد إلى درجة التحالف الاستراتيجي، وإلى حد إعلان أمريكا لتعهدها التاريخي، من أجل حماية بقاء إسرائيل ترسانة عسكرية تقليدية ونووية، كواحدة من الولايات المتحدة الأمريكية، انطلاقا أولا من الروح الدينية، وثانيا من أهمية وضع إسرائيل كقاعدة ومقدمة رأس الرمح في حماية المصالح الحيوية والاستراتيجية الأمريكية في المنطقة ...وبالتحديد مخازن النفط والطرق الاستراتيجية والمواقع الحاكمة في خطوط الاتصال بين الشرق الأسيوي والغرب الأوروبي الأمريكي"[xvii]
ويمكن تقسيم رؤية الأمريكيين "لإسرائيل" في المنطقة العربية إلى وجهتين:
- الاتجاه الأول: (الاتجاه الواقعي) يعتبر أن قوة الكيان الصهيوني هي إحدى الضمانات الأساسية لحماية مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، أي أنه بمثابة ثروة استراتيجية وقاعدة سليمة لمصالح أمريكا الاستراتيجية.
- الاتجاه الثاني: (الاتجاه المثالي ) ينظر إلى "إسرائيل" من منظور إيديولوجي أخلاقي أدبي، وتحت تأثير معاناة يهود أوروبا على يد النازية، حيث يرى أنصار هذا المنظور ضرورة حماية "إسرائيل" كقيمة إنسانية حضارية ثقافية في المنطقة، باعتبارها تجسيدا لنبوءة أنبياء التوراة ولكونها التعبير عن المرحلة التمهيدية لحلول الخلاص الحقيقي. (وقد ساد هذا المنظور بشكل خاص في خلال إدارة بوش الابن وحدوث التحالف الاستراتيجي المسيحي الصهيوني).
وقد ساد كلا المنظورين في الإدارات الأمريكية بعد الحرب الباردة ولكن بدرجة أكثر لعب المنظور المثالي الثاني دورا مهما في التأكيد على قيمة إسرائيل في الإستراتيجية الأمريكية وقد ساهم في ذلك احتلال الإدارتين من قبل الداعمين لإسرائيل سواء في إدارة كلينتون وسيطرة اللوبي اليهودي أو تحالف اليمين المسيحي والمحافظين الجدد المؤيدين لإسرائيل في خلال إدارة بوش الإبن.
والواقع أن التزام الولايات المتحدة الأمريكية، بأمن وبقاء وتفوق "إسرائيل" لا يخرج عن نطاق الإستراتيجية الأمريكية الشاملة التي اتبعتها بعد انتهاء الحرب الباردة في العالم بكامله، والتي تتكون من عناصر عديدة أهمها: "الالتزام بعمق بإدامة عالم أحادي القطبية لا منافس فيه للولايات المتحدة الأمريكية، وعدم السماح لأي تحالف بين القوى الكبرى بالتوصل إلى الهيمنة، ولتحقيق هذا الهدف لابد من تجاوز مبدأ الردع الذي كان سائدا خلال الحرب الباردة ...وتحرص الولايات المتحدة على إعادة صياغة مفهوم السيادة لكي تتحقق لها السيطرة (بمعنى أنه يمكن التدخل في الشؤون الداخلية لدولة ما وتغيير نظامها إذا كان ذلك يحقق الإستراتيجية الأمريكية)، وهو نفس المنطق الذي تم تطبيقه ضد العراق (قبل سقوط نظام صدام حسين في 2003) ، لان العراق حسب الإستراتيجية الأمريكية الجديدة، كان يشكل أهم التحديات الماثلة أمام تحقيق الهيمنة الأمريكية في المنطقة (العربية) فكانت هناك ضرورة لردعه واستهدافه حتى يدور في فلك الإستراتيجية الأمريكية الجديدة، ونتيجة لما سبق فإن الولايات المتحدة الأمريكية ملزمة بضمان تفوق إسرائيل على سائر دول المنطقة، لمساعدتها في تنفيذ استراتيجيتها الرامية إلى الهيمنة على المنطقة"[xviii]، وهي أحد المفاتيح الهامة للسيطرة على العالم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[i]- ناعوم شومسكي، أوهام الشرق الأوسط، تر: شيرين فهمي، ط1 (القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2004) ، ص 126
[ii]- عبد القادر رزيق المخادمي، النظام الدولي الجديد الثابت والمتغير، مرجع سبق ذكره، ص: 83.
[iii]- زبيغنيو بريزنسكي، (وآخرون)، السياسة الخارجية الأمريكية: تحديات القيادة في القرن ال21" ، ص81.
[iv]- فيبي مار ووليام لويس، امتطاء النمر: تحدي الشرق الأوسط بعد الحرب الباردة ، تر: عبد الله جمعة الحاج، ط1، (أبو ضبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، 1996)، ص 281-282.
[v]- ناعوم شومسكي، أوهام الشرق الأوسط، مرجع سبق ذكره، ص26
[vi] - Martin Indyk , Dennis Ross, Samuel Lewis, and others. Challenges to U.S. Interests in the Middle East: Obstacles and Opportunities,The Washington Institute for Near East Policy, May 19, 1993, p36.
[vii]- The Middle East in the 1990s and World Peace , the Summit Council for World Peace , May 23-24, 1993 Washington, DC
[viii]- أحمد سليم البرصان، اللوبي الصهيوني والاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، السياسة الدولية، العدد 150، أوكتوبر 2002، ص50.
[ix] - كميل منصور، الولايات المتحدة وإسرائيل/ العروة الأوثق، (بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، فبراير 1996)، ص 296.
[x] - جوناثان جيرمي جولد برج، القوة اليهودية داخل المؤسسة الأمريكية، ت السيد عمر، مختار محمد متولي، (القاهرة: الهيئة العامة للاستعلامات، 1998)، ص318.
[xi]- روجية جارودي، الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية، تر: محمد هشام، (القاهرة، دار الشروق، 1999)، ص 340.
[xii]- عبدالغفار الدويك، سياسة التسلّح في إسرائيل، مجلة الشرق الأوسط، العدد (106)، ربيع 2003م، ص 80 81.
[xiii]- منى أسعد، المساعدات الاقتصادية الأمريكية لإسرائيل، صامد الاقتصادي، (عمان)، ع 101، سبتمبر 1995، ص61.30.
[xiv]- اولفيه روي، أوهام 11 أيلول/سبتمبر (المناظرة الإستراتيجية لمواجهة الإرهاب)، تر: حسن شامي، ط1 (الجزائر: المؤسسة الوطنية للاتصال والنشر والاشهار (ANEP)، 2003)، ص 82.
♣ تقدير الموقف الإستراتيجي للبنتاغون" الذي أشرف عليه الجنرال "روبرت إيفاني "قائد كلية الحرب التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية وهو أول التقارير الذي مهدت للتوجيه الرئاسي الذي وقعه وليام كوهين وزير الدفاع في إدارة كلينتون وأقره هذا الأخير على هيئة توجيه رئاسي ثم راجعه دونالد رامسفيلد وزير الدفاع في عهد بوش الابن وأقره هذا الأخير مجددا على هيئة توجيه رئاسي ملزم
[xv]- محمد حسنين هيكل، الزمن الأمريكي: من نيويورك إلى كابل، (القاهرة: المصرية للنشر العربي والدولي، د.ت.ن) ص 97 98.
[xvi] - بول فيندلي، الخداع، تر: محمود يوسف زايد، ، (بيروت: المطبوعات للتوزيع والنشر ، 1993)، ص228.
[xvii]- صلاح الدين حافظ، كراهية تحت الجلد: إسرائيل عقدة العلاقات العربية الأمريكية، ط1، (القاهرة: دار الشروق، 2003)، ص 44.
[xviii]- محمود خليل ، التوازن العسكرى فى الشرق الأوسط فى مرحلة ما بعد 11 سبتمبر 2001 ، مجلة السياسة الدولية ، العدد 150 ، أكتوبر 2002.

الكاتب: محفوظ بورابة 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق