تم نشر مقالة صموئيل هنتنغتون «صدام الحضارات؟ » في مجلة Foreign Affairs في عام 1993 ، وقد تسببت بجدل أكاديمي وعام ساخن. وبعد ثلاثة أعوام، ظهر الكتاب الذي يحمل العنوان ذاته، لكن من دون علامات الاستفهام هذه المرة. فما يمثل عنصر الجاذبية في نظرية هنتنغتون هو محاولته تطوير بناء شامل لا يشرح نزاع الحاضر والمستقبل فحسب، بل يشرح أيضاً الملامح الرئيسة لنظام السياسة الدولية. وبما أن هذه النظرية تتناول أيضاً النزاعات في داخل الدول، فإن تأثيراتها تتجاوز العلاقات الدولية. وقد تم توقع عدد من «صور العالم » في السياسات الدولية الخاصة بالقرن الحادي والعشرين. ويرى بعض دارسي العولمة الأكثر تفاؤلاً؛ ناشرو الديمقراطية المزعومون، أن شعوب العالم تتقارب على الصعيد الاقتصادي والسياسي والثقافي من جهة، بينما ركزت أكثر التحليلات تشاؤماً على الهوة بين «مناطق السلام والحرب ،» وعلى الصدامات بين القوى العظمى الناشئة في عهد متعدد الأقطاب من جهة أخرى.
وينتمي تشخيص هنتنغتون إلى المعسكر التشاؤمي، مع أنه يتميز بتركيزه على الحضارات بوصفها وحدة التحليل الأساسية. ويدّعي هنتنغتون أن العالم مقسم إلى عدد من الحضارات:
غربية وأمريكية لاتينية وأفريقية وإسلامية وصينية وهندوسية ومسيحية أرثوذكسية وبوذية ويابانية. وتضم بعض هذه الحضارات دولاً رئيسة، غالباً ما تمتلك أسلحة نووية. وتُعَد الصين مركز الدول الصينية. أما اليابان، فلديها حضارتها الخاصة بها. وتملك الحضارة الغربية مراكز متصلة بين الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا. وفي ما يختص بروسيا، فهي مركز الدول المسيحية الأرثوذكسية. في المقابل، يفتقر الإسلام إلى الدولة المركز، كما هي حال أمريكا اللاتينية وأفريقيا. لذلك، يمكن توقع نشوء نزاعات على طول الخط المتصدع الرئيس بين الحضارات: الأرثوذكسية مقابل المسيحية الغربية، والإسلام؛ المسلمون مقابل الهندوس؛ والصينيون مقابل الهندوس. وستبقى أفريقيا وأمريكا اللاتينية على الهامش.
ويعرف هنتنغتون الحضارة بأنها أوسع مجموعة أشخاص، تتجاوز المستوى الذي يميز البشر من الأنواع الأخرى. ويمكن تعريف الحضارة بالعناصر المشتركة الموضوعية التالية:
اللغة والتاريخ والدين والعادات والمؤسسات، فضلاً عن تعريف الناس بأنفسهم. ويهتم هنتنغتون بالتحدي الذي يفرضه الإسلام على الغرب اهتماماً خاصاً، لأن معدل الولادات فيه أعلى من الحضارات الأخرى من جهة، ولانبعاث شعبيته في نهاية القرن العشرين من جهة أخرى. بالإضافة إلى ذلك، يعني رفض الإسلام للقيم الغربية والتأثير الأمريكي أنه مقدر لهاتين الحضارتين أن تصطدما عند نقطة ما. فإذا تحالفت الصين مع الدول الإسلامية ضد الولايات المتحدة، فسيكون خطر الحرب كبيراً جداً.
من هنا يقترح هنتنغتون بعض الخطوط والقواعد الأساسية في السلوك الحري اتباعه لتجنب مثل هذا المصير؛ حيث يرى أن على الدول المركز الامتناع عن التدخل بالشؤون الداخلية للحضارات الأخرى، كما عليها التوسط في المشكلات التي قد تتحول إلى حرب على الخطوط المتصدعة بين الحضارات؛ ويجدر بالحضارات كلها العمل لتحديد قيم مشتركة. أما بالنسبة إلى الغرب، فيحثّ هنتنغتون الولايات المتحدة على تعزيز تحالفاتها مع آخرين في الكتل الغربية، وتجنب إضعاف قيمها الثقافية المميزة. ولا يدعم هنتنغتون تعدد الثقافات وسياسات الاحترام بين الأقليات المختلفة.
وكما هو متوقع، وُجِّهت الانتقادات إلى وجهة النظر هذه على أسس عدة. أولا، تمت الإشارة إلى أن تقليص عدد الحضارات إلى ثمانٍ أو تسعة هو أمر غير جدي، وذُكر أنه من غير المرجح قيام حضارة أفريقية محتملة، فأفريقيا هي فسيفساء غنية بالثقافات، كما هي حال أوروبا. وأوروبا لا تشبه أمريكا الشمالية. ويحمل ما جمعه هنتنغتون في حضارة واحدة، هي الغربية، تصدعاتٍ داخلية ملحوظة، فالحضارات ليست كتلاً ذات طابع واحد. فبعضها كالإسلام مثلاً، تُعرف أولاً بديانتها. وفي حضارات أخرى، كالحضارة الكونفوشيوسية، العلاقة بين الدين والقوة السياسية أقل وضوحاً. وفي الحضارة الغربية، تمثل الكاثوليكية أو البروتستانتية المسيحية جزءاً من المشهد الثقافي، على الرغم من أن مواطني الدول الغربية منقسمون بعمق في ما يتعلق بالمعتقدات الدينية.
وفي حضارات هنتنغتون كلها، يظهر اتجاه فكري يتبع الخطوط الطائفية وآخر يتبع الخطوط الدنيوية، وهو ما يمثل موضوع جدل كبير اليوم بين دول عدة مثل تركيا وإيطاليا. وإلى جانب الدين، تجعل الانقساماتُ الثقافية النظرَ إلى الحضارات على أنها كتل سياسية مندمجة أمراً صعباً. كذلك، يتكلم هنتنغتون عن الثقافة الأمريكية اللاتينية، لكنه يتجاهل مثلاً الانقسام بين الإسبان والثقافات الهندية. وهناك أيضاً انقسامات ملحوظة بين المجموعات الاجتماعية التي تستفيد من النظام الاقتصادي الدولي، وبين المجموعات التي تتأذى منه. ففي القارة الأفريقية، تتشارك الأوليغارشية والغرب القيم ذاتها، والميول الثقافية ذاتها، في حين تكتفي مجموعات أخرى بأنماط حياة انخفضت قيمتها الاجتماعية وهي بعيدة كل البعد من الحداثة. فمن يمثل الحضارة الأفريقية؟ المجتمعات التي تتكلم الإنكليزية؟ أم تلك التي تتكلم الفرنسية؟ أم الجماهير التي تتكلم اللغات المحلية فقط، والتي لم تصل إلى التكنولوجيا الغربية بعد؟
أما الانتقاد الرئيس الثاني الموجه إلى نظرية هنتنغتون، فهو أن العلاقة بين الدول والحضارات تبقى مبهمة؛ فإذا كانت الحضارة هي المتغير المستقل الحقيقي، فلماذا سمحت بعلاقات القوة بين الدول خلال الحرب الباردة؟ أضف إلى ذلك أن تحليل هنتنغتون للانحيازات، بين الصين والإسلام مثلاً، يجتاز الحدود الحضارية بوضوح، ويعكس مصالح الدول العظمى. ويمكن الرد على ذلك عبر القول إن القوة العسكرية وتوازن القوة بين الدول قد يسيطران على تأثير الثقافة والدين.
في النهاية، اعتبر النقاد أن هنتنغتون قد استخف بقوة الحضارات الغربية الثابتة، ألا وهي الرأسمالية العالمية، والتبعية المتبادلة. ومع أن رؤيته تحذرنا من الطرق التي قد تتسبب فيها القيم الثقافية ببعض النزاعات(مثلاً بين الاتحاد السوفياتي السابق وأفغانستان، وخلال الحروب في الخليج عام 1991 ، وفي يوغسلافيا طوال العقد الماضي)، فإنها تبقى مملوءة بالشوائب في بعض المسائل المهمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق