سيلڤيا ويتمان
ترجمة: محمد الضبع
“سيلڤيا ويتمان: ابنة جورج ويتمان مؤسس متجر شكسبير آند كومباني لبيع الكتب والمالكة الحالية له بعد وفاة والدها، والتي تقوم بإدارته وتنظيم الأمسيات وورش الكتابة كل أسبوع داخل المتجر، والتي قمت بالحديث معها شخصيًا خلال زيارتي هذا الصيف للمكتبة الباريسية.”
كل الشخوص في متجر الكتب هذا خيالية، لذلك فضلًا، اترك ذاتك اليومية خارج الباب عندما تدخل هذا المكان الذي يسميه هنري ميلر: بلاد عجائب الكتب.
تاريخ مختصر لمتجر كتب باريسي:
إنه متاهة ملتوية، قابلة للتسلّق، مصنوعة من الكتب، إنه مجتمع أدبي، سقيفة لجميع كتّاب العالم وملاذ لمحبي الكتب.
بدأ والدي جورج متجره بسبب الكتب، بسبب القرّاء والكتّاب. خلال الستين عامًا الأخيرة مر العديد من الكتّاب المميزين من هذه الأبواب، ومن ضمنهم كتّاب مثل أناييس نن، هنري ميلر، راي برادبيري، لورنس فيرلنغيتي، وجيمس بالدوين. عندما سألت جورج هل قام بكتابة أي عمل خاص به، أخبرني عن بعض قصص الحب وثم عن هذا المتجر: “لقد خلقت متجر الكتب هذا كما يخلق الرجل روايته، صنعت كل غرفة فيه وكأنها فصل، أريد للزوّار أن يفتحوا بابه بالطريقة ذاتها التي يفتحون بها أي كتاب، الكتاب الذي سيوصلهم إلى عالم سحري داخل خيالهم.”
في عام 1945 وبعد أن انتهت الحرب، سافر جورج إلى أوروبا واستقر في باريس. ليقابل هناك تلميذًا شابًا في السوربورن يدعى لورنس فيرلنغيتي، والذي يعتبر أحد أكبر شعراء أمريكا في القرن الأخير.
يتذكر فيرلنغيتي،: “لقد تعرفت على جورج ويتمان قبل أن يملك هذا المتجر، عندما كنت في جامعة كولومبيا، كنت أرى أخته ماري، والتي كانت تدرس في قسم الفلسفة، جلست معها ذات مرة وأتذكر إخبارها لي عن أخيها جورج الذي وصل أخيرًا إلى باريس بعد رحلاته في الشرق وأمريكا الجنوبية. تخيلت أن يكون هذا الرحّالة الحالم شبيهًا بوالت ويتمان صعب المراس. ذهبت لزيارته في إحدى المرات بعد أن أخذت عنوانه من ماري، فاكتشفت أنه مهووس بالكتب. وجدته في ركن مهمل في فندق وحوله الكتب تحيط به وتتصاعد حتى السقف من جميع الجهات. لقد كان يبيع الكتب من غرفته في الفندق لطالب أمريكي. لقد كان أسيرًا لهوسه باقتناء الكتب وبيعها.
وفي عام 1951 جعل جورج كتبه متاحة للجميع، بوضعه لمتجره في مبنى يرجع للقرن السادس عشر وكان في الأساس مكانًا للعبادة. أعجبت جورج الفكرة وبدأ بالتظاهر بأنه آخر الرهبان الناجين، قائلًا: “في العصور الوسطى كان لكل دير راهب وعليه أن يشعل المصابيح عند حلول الظلام. أنا هذا الراهب هنا. إنه الدور المتواضع الذي ألعبه.”
رغم بداية الحرب الباردة، إلا أن جورج كان يخبر الجميع بفخر عن حمله للبطاقة الشيوعية في أمريكا وفرنسا وكان يشير إلى متجره بقوله: “إنه يوتوبيا إشتراكية متنكّرة على هيئة متجر كتب.” حتى لو جاء إليه شخص للمرة الأولى ليشتري كتابًا، بإمكانه أن يثق به. سأل جورج ذات مرة زبونًا جديدًا: “هل بإمكانك الجلوس هنا على المكتب حتى أعود؟ سأذهب لعدة دقائق وأرجع. هذا صندوق النقود.” الرجل لم يكن يعرف جورج. وجورج لم يكن يعرفه. ولكن الرجل أجابه: “بالتأكيد.” وجلس، وبدأ الناس بالتوافد إليه بجميع أنواع الأسئلة. “هل لديك كتب أودن الشعرية؟” “هل تكفي عشرون فرانك لهذا الكتاب؟” ولم يعد جورج إلا بعد أسبوع.
أناييس نن كانت من أشهر الشخصيات الصديقة للمتجر. كتبت في يومياتها سنة 1954 عن جورج وعن المتجر: “وهناك قرب نهر السين كان متجر كتب، ليس كبقية المتاجر، ولكنه يشبه بعضًا منها. يبدو كمنزل أوتريللو، أسسه ليست راسخةً تمامًا، نوافذه صغيرة، ومصاريعه مجعّدة. وهناك كان جورج ويتمان النحيل ذو اللحية، القديس بين كتبه، يعيرها للزوار، يؤوي أصدقاءه المفلسين في الطابق العلوي، ليس متلهفًا للبيع، يجلس في آخر المتجر، في غرفة صغيرة مزدحمة، على طاولة وبجانب موقد غاز صغير. كل من جاؤوا لأجل الكتب، مكثوا للحديث، بينما يحاول جورج كتابة الرسائل، وفتح البريد، وترتيب الكتب. درج صغير بشكل لا يصدق، دائري ملتف، يؤدي إلى غرفة نومه، أو إلى غرفة النوم الاشتراكية، حيث كان ينتظر هنري ميلر وزوارًا آخرين كي يمكثوا فيها.
كان الأحد هو يوم جورج المفضل. في الصباح، يستيقظ ويصنع البانكيك لضيوفه. كان أبي رجلًا لا ينسى. مازلت أتذكر عندما كنت طفلة كيف كنت أتبعه في الصباح الباكر حتى نصل إلى المتجر، ليخرج مفاتيحه الضخمة ويغني للزوار كي يستيقظوا من نومهم، “استيقظوا وأشرقوا، الأجراس تدق …” كنا نسير عبر الأجساد النائمة التي تغطي تقريبًا كل بقعة في المتجر، وأحيانًا كان يتوقف ليصرخ في وجه أحدهم، “ماذا بك، هل أنت مخبول؟” ثم يلتفت ويغمز لي. وعندما نمر بقسم كتب الأطفال، كان يشير في كل الاتجاهات ليريني جمال المكان: “أترين، هنالك سبب جعلني أضع هذه المرآة هنا.” وكان على الستائر أن تكون مائلة نحو الجانبين وليس في المنتصف، كي تبدو وكأنها ستائر خشبة مسرح. “الكتب عمل الخيال، أليس كذلك؟ لذلك على متجر الكتب أن يعكس الخيال.”
لقد ولدت في فندق في الشارع المقابل للمتجر، وهناك عشت طفولتي. ثم عدت سنة 2002 لأعرف أبي أكثر ولأقضي معه الوقت في مملكة الكتب هذه. كنت قد بلغت الثانية والعشرين وكان يحاول أن يعلمني في تلك الفترة كل ما أحتاج معرفته عن بيع الكتب وعن طريقته المميزة في إدارة المتجر. وبعد الكثير من الجدال والضحك الذي خضناه معًا والنقاشات الحادة التي خضناها بسبب أفكاري الحديثة للمتجر (بقي المتجر دون هاتف حتى سنة 2003)، جعلني جورج أتولّى مسؤولية إدارة المتجر وترك العمل ليرتاح في شقته. وكتب على إحدى نوافذ المتجر من الخارج: “لكل دير راهب يشعل المصابيح عند حلول الليل. لقد كنت هذا الراهب طوال الخمسين سنة الفائتة. الآن حان دور ابنتي لتقوم بهذا الدور.”
ظهر المتجر في عدد من الأفلام منها فيلم “Midnight in Paris” وأيضًا فيلم “Julie & Julia” و”Before Sunset”.
شكرًا لكل من زار وساند المتجر طوال هذه السنوات. رواية جورج، مازالت تُكتب، ونحن ممتنون لكم جميعًا لاستمراركم بقراءتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق