السبت، 13 سبتمبر 2014

الشعر كما القهوة: هي جيدة عندما تكون جيدة / نيلس هاو


الشاعر الدنماركي نيلس هاو :

الشعر كما القهوة: هي جيدة عندما تكون جيدة 


شاكر الأنباري ـ كوبنهاغن

نيلس هاو شاعر وكاتب قصص قصيرة دنماركي، سافر إلى عدد كبير من دول العالم عبر أوروبا وآسيا وأميركا الشمالية وأميركا الجنوبية، وترجمت أعماله إلى العديد من لغات العالم كالإنكليزية والإسبانية والبرتغالية والتركية والإيطالية، ومؤخراً إلى العربية، صدرت له خمسة دواوين شعرية وثلاث مجموعات قصصية، وقد فاز بالعديد من الجوائز، ويعيش هاو في كوبنهاغن مع زوجته كريستينا عازفة البيانو الشهيرة في الدانمارك وإسكندنافيا. يستعير نيلس هاو من الواقع تفاصيله ليصل إلى الحكمة الكامنة خلفه، في دأب متواصل على رصد تفاعلات مجتمع، يعيش تغيرات بنيوية في العقود الأخيرة. يكرس نيلس هاو حياته كلها للشعر، ويمكن ملامسة جذوره الفلاحية في مكان ما بعيد من قصائده، الأمر الذي جعله قريبا من القلب ودافئا. في بيته المطل على بحيرات كوبنهاغن، الواقع وسط منطقة نوربرو، ذات الإختلاط الإثني المعروف في العاصمة، كان معه هذا الحوار. 

[هل يمكنك إعطاءنا فكرة عامة عن اتجاهات الشعر الدنماركي في اللحظة الراهنة؟

ـ إذا وضعنا الشعر الدنماركي تحت المجهر سنجده خليطا مختلفا من الأفكار والأساليب، إما لواقف على سطح القمر، فرؤية هذا البلد المسمى الدنمارك ستكون صعبة جداً. هو بلد صغير على الخارطة، وإذ كنت ترغب في الحصول على لمحة عامة عن الشعر الدنماركي من مسافة متوسطة، فمن الواضح أن الشعر الدنماركي المعاصر يواصل التورط مع مشاكل اليوم الحقيقية في السياسة ـ بينما لا يتم نسيان القضايا الوجودية الأبدية. يتم نشر الشعر في نسخ محدودة ، والشعر لا يأخذ مساحة كبيرة في مكتبات كوبنهاغن ـ يبدو أن الله قد اختار بضع مئات، أو على الأكثر بضعة آلاف، في كل دولة لأولئك الذين يشترون كتب الشعر، فمن النادر جدا أن تصبح مجموعة شعرية في قائمة أكثر الكتب مبيعا. بين شعراء الدنماركية اليوم إنغر كريستنسن، وكانت فريدة من نوعها. عندما توفيت قبل بضع سنوات وصفتها جريدة «الغارديان» بأنها واحدة من أهم الشعراء الأوروبيين في القرن العشرين«. وتقول الصحيفة في الوقت ذاته «إنها كانت دنماركية، ومن سوء حظ أي كاتب كبير أن يقتصر نتاجه على لغة لديها عدد قليل من القراء. وهذا قد يكون صحيحا، ولكن انغر كريستنسن عبرت حاجز اللغة مع ديوانها «وادي الفراشة». وهو قداس في شكل دورة من السوناتات، في غاية الجمال والرؤية الوجودية. بين الشعراء الأحياء هناك هنريك نوربرانت، وهو شاعر مهم أيضا. إنه يتحدى نفسه واللغة الدنماركية بطرق خارقة. سورين أولريك ثومبسون، ماريانا لارسن في عداد شعراء الدانماركية المتميزين، وأيضا بيا جول وشعرها المليء بالقسوة والسحر. 



[ في الشعر العربي هناك «شاعر الفلاسفة«، الذي أطلق على شاعر قديم اسمه أبو العلاء المعري، عاش في القرون الوسطى ، الملاحظ وجود رؤية فلسفية، خلف نصوصك، كيف تجد ذلك؟ 



ـ يسرني ذكرك لـ»أبو العلاء المعري«، تفكيره وشعره لا يزالان مثار جدل بعد ما يقرب من ألف سنة على وفاته. الجهاديون قطعوا رأس تمثال المعري خلال الصراع في سوريا. إنها فكرة مثيرة للإعجاب عندما تعرف مدى انشغال الأشخاص أنفسهم الذين يقتلون البشر الأحياء بهكذا أمور. هم يظهرون اهتماما مفاجئا بالشعر، تجريم التماثيل هو نوع من الاحترام الغريب للشعر، ولكن على الأقل هذا يدل على أن الشعر هو جزء خطير من المناقشات العامة. بهذه الطريقة، الفلسفة جزء من الشعر. القصيدة لا ينبغي أن تزدهر فقط باستعارات الشاعر ومشاعره الخاصة ومزاجيته، ولكنها حديث حميم حول أهم الأشياء في الحياة. أن تحب، أن تهجر، لتتحرى الساعة التي تحصي الثواني داخل الجسم. ما الذي ينبغي على المرء أن يفعله بحياته؟ هذه هي موضوعات الشعر ذات القواسم المشتركة مع الفلسفة، وأنا سعيد لأنك لاحظت هذه الجوانب في قصائدي.

[ هناك كم هائل من الأساطير الدنماركية والإسكندنافية ومغامرات الفايكنغ، هل استفاد نيلس هاو من ذلك الخزين ووظفه في شعره؟ 

ـ نحن محاطون بمخلفات الماضي، ومما لا شك فيه أننا حاملو جينات الفايكنغ البرية. الأساطير من إقليم الشمال القديم هي جزء من اللاوعي في العقلية الإسكندنافية. نمتلك خزينا من القصص المأسوية، التي تفسر الجانب المظلم من أرواحنا، وهي لا تظهر في شعري إلا نادرا، لكن يحدث الأمر بكل تأكيد ـ على سبيل المثال في هذه القصيدة: 

ببساطة إنها رائعة



من نواح كثيرة تختلف القصائد عن النقانق. 



على سبيل المثال، قصائد لديها ميزة على النقانق 



القصائد تختلف عن النقانق في كثير من النواحي؛



مثلاً القصائد تتفوق في مزاياها على النقانق 



يمكنك أن تأكلها،



وتظل موجودة.



يمكنك أن تأكلها مرةً تلو أخرى،



ومع ذلك تظل موجودة.



تماما مثل ذلك الخنزير في الميثولوجيا الإسكندنافية.



الملحق التجاري في السفارة



لم يستطع أن يفهم ذلك.



ببساطة تفاجأ.



رائعة، قال وهو يفرك يديه



كما لو كان جالساً في فالهالا يحتسي الخمر:



بكل بساطة إنها رائعة.



(القصيدة ترجمة نزار صرطاوي، والخنزير الأسطوري في المثيولوجيا هو خنزير يتجدد لحمه كلما استهلك، وفالهالا هي جنة الفايكنغ قبل اعتناق المسيحية).



[ نيلس هاو يعيش في كوبنهاغن، وتحديدا في نوربرو، المنطقة الأكثر اختلاطا في الأعراق واللغات والثقافات، التغييرات البنيويةِ في الحياة الدنماركية في الثلاثين سنة الأخيرة كيف استفاد منها نيلس، الشاعر والمثقف؟

ـ نعم، لقرون عدة، كانت الدنمارك أمة متجانسة صغيرة، ولكن في العقود الأخيرة استفدنا من الهجرة من جميع أنحاء العالم. جعل هذا كوبنهاغن ـ وخاصة نوربرو ـ مكانا أكثر حيوية وإثارة للإهتمام. ألسنة بابل كلها تتكلم هنا، والثقافات والتقاليد الأجنبية بدأت تحصل على جذور دنمركية جديدة، وهذا جميل. ثقافتنا القائمة على المزارع الصغيرة تحتاج إلى إلهام جديد من المناطق الحضرية القديمة في العالم. وطبخة كرات اللحم المفروم، الطبخة التقليدية في الدانمارك، هي الآن في منافسة قوية مع المطبخ الآسيوي، الأفريقي، والعربي. بعض المهاجرين وصلوا إلى هنا بسبب العنف والحروب التي تجتاح العالم، وهذا جانب محزن من الحكاية. 

[ للمرأة في الشعر العربي، قديما وحديثا، حضور كبير، هل تأخذ المرأة حيزاً من شعرك؟ 

الحب هو الدافع الممتع الذي يجعل عضلات القلب تستمر بضخ الدماء، المرأة، أو الأنثى، موضوع مثير جدا للإهتمام، والكهرباء بين الجنسين هي الطاقة التي تجعل الكون يدور. نساء كوبنهاغن في كل مكان، يمكن رؤيتهن في كل مرافق الحياة العامة، الآلاف من النساء يركبن الدراجات في الشوارع، يجلسن في المقاهي مع الأصدقاء، بعد العمل، حول فنجان من القهوة أو كأس من النبيذ. غالبا النساء الدانماركيات يجلسن في المقاهي أكثر من الرجال. الوقوع في الحب سهل جدا. وأنا أعلم أن التقاليد حول هذه الأمور مختلفة في المجتمعات العربية. الشعر يعكس الواقع. وعندما تكون المرأة بعيدة وغير قابلة للتحقق، ينطلق الخيال حرا، وغالبا ما تكون النتائج جميلة في الشعر. الكلمات الرئيسية هنا هي الحرية والاحترام. ينبغي أن يكون للمرأة والرجل الحرية ذاتها في الحركة، والحق ذاته في التصرف بالجسد. هذا واضح، ولكن هذه البديهية لا تحترم في كل مكان من العالم. ربما النضال من أجل حقوق المرأة على الصعيد العالمي يعتبر من أهم المعارك في هذا العصر. مبدئيا أود أن أقترح إعطاء النساء السلطة السياسية، دعنا نقول، لمدة 100 سنة. كتجربة. حكم الرجال هذا العالم لآلاف السنين دون نجاح كبير: الإرتباك، والفوضى، والحروب، والبلاهة التي يعاني منها العالم كانت هي النتائج. ليس كل النساء ملائكة، ولكن ربما ستنجح النساء في ترتيب عالم أكثر سلاما. لم لا، دعنا نتيح لهن الفرصة.

[ ديوان «حين أصير أعمى«، الذي ترجمه جمال جمعة إلى العربية، يذكرنا في بعض قصائده ببورخس وعوالمه، وإرنستو ساباتو الأرجنتيني أيضا، بخاصة في رواياته عن العميان، هل أن تمجيد العمى هو في الحقيقة بحث عن عالم آخر غير العالم المحسوس الذي نعيشه، بمعنى، هو توق الشاعر إلى المجهول، المطلق، الخلود..؟



ـ نعم، في الأدب العالمي منذ هوميروس ثمة تقليد للتفكير في العمى، ميلتون مهم جدا هنا، بورخيس وإرنستو ساباتو ـ ولكن ربما هناك في الأدب العربي وضعت فلسفة عميقة حول العلاقة بين العمى والبصيرة، أنت نفسك ذكرتها بمثال( أبو العلاء المعري)، يمكننا أن نذكر أيضا طه حسين. في كتابي أقوم بالتواصل مع هذا التقليد، مع عبارة «الحب يعمي» من أجل تأسيس اتصال بين الحب والبصيرة، أو الرؤية الداخلية. الحب يصنع العمى، ولكن معظم الناس لا يستخدمون حتى النظارات، وهذه هي المشكلة. من دون حب ليس هناك رؤية، وأعتقد أن هذا ينطبق على جميع جوانب الحياة، بما في ذلك السياسة. الحب هو شرط لا بد منه لفهم أعمق. هذا هو سر الحياة. أنا ممتن أن الترجمة التي قام بها جمال جمعة لديواني (حين أصير أعمى)، وصدرت عن الدار العربية للعلوم في بيروت، نالت استحسانا جيدا، وجعلت من الممكن لقصائدي أن تحتك بالشعر العربي وتقيم شيئا من الحوار معه. العديد من الكتاب العرب لديهم ميزة على زملائهم الأوروبيين، فهم يجيدون اثنين من الأبجديات، العربية واللاتينية. أنا لا أعرف إذا كان العرب هم أكثر ذكاء، أو أنهم ولدوا فقط في ظل نجمة محظوظة. أنا سجين للأبجدية اللاتينية وأعتمد اعتمادا كليا على المترجمين. 



[ بعض قصائدك تكاد تقترب من القصة القصيرة، بسبب وجود حدث ما، هل جاء الأمر بسبب ولعك بقراءة وكتابة القصة القصيرة؟ وهل ثمة روح شعرية في قصصك أيضا؟ 

ـ صحيح ـ وكثير من قصائدي تحمل عناصر الملحمية والنفس القصصي. وأعتقد أنه من المهم بالنسبة لجميع أنواع الكتابة وضع إطار ومكان، أرضية محسوسة، لما يحدث في النص. أيضا في القصة القصيرة يجب أن يكون للغة طبقات عميقة من الرنين الصوتي، في اتصال مع الجوانب الميتافيزيقية للحياة. الشيء المهم بالنسبة لي ـ في النثر أو في الشعر ـ هو الطاقة اللغوية؛ فهي ما يبعث البريق، ويأسر الروح.

[ الناقد الكندي فرانك هوغوس وصفك في مجلة «مراجعات أدبية« بأنك الأكثر موهبة من بين شعراء الدنمارك الأحياء، هل هذا راجع إلى عدد المبيعات، الترجمة، الرواج الشعبي والإعلامي أم إلى شيء آخر؟

ـ شكرا لك على هذا السؤال وأظنه يحمل وميضا من روح الدعابة في عينيك. الشعر ليس رياضة أولمبية، لذلك دعنا فقط نأخذ هذه الكلمات مع جرعة كبيرة من الفكاهة. أنا أفهم أن فرانك هوغوس هو أستاذ الدراسات الإسكندنافية في جامعة ماساتشوستس، وآمل أنه يعرف عمّا يتحدث عنه. لا يمكن أن يكون بسبب أن كتبي هي الأكثر مبيعا في الدانمارك. الحال مع الشعر كما هو الحال مع القهوة: إنها جيدة عندما تكون جيدة. لا توجد معايير عالمية. لكن القصائد مثل الناس، لا يمكن التنبؤ بمصائرها. بعضها يسافر حول العالم ليولد ثانية في حروف هجائية أجنبية ـ كما البعض من البشر بالضبط، يقتلعون من بلدانهم ثم يزرعون في مناخ آخر، ويصنعون جذورا جديدة. إنها لسعادة عندما يحدث هذا في الشعر. ناشري في لبنان بسام شبارو، وهو شريك في الدار العربية للعلوم في بيروت، جاء إلى كوبنهاغن حاملا معه كتابي الذي ولد باللغة العربية، وكنت سعيدا لرؤيته هنا. آمل في يوم من الأيام مقابلته مرة أخرى في لبنان أو أماكن أخرى، حيث يجتمع الكتاب والقراء العرب حول الأدب. يجب علينا ألا ندع قتلة تمثال المعري المتعصبين يدمرون لنا هذه المتعة. 

http://www.almustaqbal

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق