"راشومون" لأكوتاجاو
من ترجمة كامل يوسف حسين
مقال نقدي عنها بقلم ابراهيم فرغلي : مقتبس عن مدونته الشخصية :
إبراهيم فرغلي
يكشف المترجم كامل يوسف حسين عن درة جديدة، لم يُنتبه لها جيدا في مختارات قصصية للكاتب الياباني الراحل رايونوسوكي أكوتاجاوا بعنوان "راشومون" الصادرة عن دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة. وهي كما يوضح المترجم الترجمة العربية الأولى لأي من أعمال هذا الكاتب المثير للجدل، الذي انتحر عن عمر لم يتجاوز 35 عاما في العام 1927، ويبدو أن وفاته المبكرة، إضافة إلى ما أشيع في الثقافة اليابانية عن جهامة وكآبة قصصه قد أثر على انتشاره خارج اليابان.
تضم المجموعة القصصية التي تأخذ عنوان "راشومون" ست قصص فقط، لكنها تكشف اقتدار كاتبها في اختلاق أسلوب سردي خاص، وفي التعامل مع اللغة بصياغة تميل للإحكام والاقتصاد.
تُحيل القصص إلى عوالم مزيج من الواقع والأسطورة يستبدلان أدوارهما ببراعة، ترسم فيها الشخصيات بمقابلة بين الشكل الخارجي وما يدور في دواخلهم، وهذا ما يجعلنا نستعيد نصوصا لكتاب عالميين كبار عرفوا في مهارتهم التي خلدت نصوصا لامعة من فرط الحس الإنساني الذي اسبغوه عليها مع العناية بالشكل الفني.
قصص راشومون تلتمع بألق خاص، تعتمد على التشويق والغرابة، والولوج إلى باطن الشخصيات الإنسانية في عمق لتتكشف لنا صراعاتهم النفسية، وأحلامهم أو أوهامهم التي ترسم في النهاية لوحات قصصية نافذة عن التمزق الذي يعيشه الفرد في صراعه بين التقليدي والحديث، الماضي والمستقبل، الهوية وقيم الحداثة، الأصالة والزيف.
القصة الأولى في المجموعة التي تحمل عنوان "في غابة" تتوسل أسلوبا حداثيا تماما، بعيد عن وسائل السرد التقليدية التي كانت تسود في مطلع القرن الماضي، حيث تُحكى القصة من وجهات نظر شخصيات عدة، لتسم النص بوسم ما بعد حداثي سبّاق لعصره. ثمة جريمة قتل، وشكوك، ومخاوف، وتحقيق، وشخصيات تتعاقب لتروي ما تعرف، فيما الحقيقة والقاتل يخاتلون مخيلة القاريء حتى اللحظات الأخيرة التي تأخذ مسار النص إلى ما وراء الواقع الذي فيه فقط قد تجلو الحقيقة فيما يظل الواقع مساحة للشك.
النص الذي استوقفني على نحو خاص يحمل اسم الكتاب نفسه "راشومون" ؛ إذ يختزل عوالم وقيما وتناقضات كبيرة في عدد قليل جدا من الصفحات، ويجمع، إضافة إلى كل ذلك، قدرا من المشهدية التي تجعل استعادة القصة، بعد الانتهاء من قراءتها، كاستعادة مشهد سينمائي تدور وقائعه على درج حجري عتيق، في عتمة ليلية زرقاء مغلفة بالضباب. هذه المشهدية المرسومة بإحكام واقتصاد تتضافر مع المعنى العميق من قصة خادم الساموراي الذي ذهب، هربا من المطر والبرد، إلى راشومون؛ أكبر بوابة في كيوتو؛ عاصمة اليابان القديمة، التي تحولت، مع انهيار كيوتو، إلى مأوى للثعالب وللصوص وقطاع الطريق وللشحاذين، وللجثث التي لا يتعرف عليها أحد. وفي تلك الأجواء المخيفة يرى عجوزا تسطو على الجثث، فتتطور الأحداث على نحو درامي.
ويبدو أن هذه المشهدية والأحداث المقتضبة جدا الصارخة بالدراما في الوقت نفسه كان لها دور حاسم في اختيار المخرج الياباني الشهير كوراساوا لعمل فيلمه الشهير الذي اتخذ اسم "راشومون"، مستندا الى هذه القصة مع القصة الأولى السابق الإشارة إليها "في غابة".
القصة الثالثة التي تحمل اسم "عصيدة إليام" هي قصة تصور الفوارق الطبقية في الإمبراطورية اليابانية القديمة، وروح المذلة التي اتسم بها الموظفون والفقراء في الامبراطورية القديمة، وسخرية النبلاء من هذه السمات. نص لا يخلو من الحس الساخر الذي يذكرنا بروح تشيكوف في رسمه لنماذج الموظفين الروس والشخصيات البسيطة التي تدور اهتماماتها على عدم الإساءة لاصحاب المراكز والنفوذ، لكنها تزيد عن القص الروسي بطابع من الاسطورة أو السحرية التي تسم قصص أكوتاجاوا جميعا على ما يظهر في هذا الكتاب. مع ذلك فإن موضوع هذه القصة بدا لي متقاطعا مع النقد الذي مثلته روح الثورات العربية الراهنة للشخصية العربية التي تصالحت طويلا مع الفساد والقمع بسبب الخوف وانهيار الطموحات لحد الكفاف والعيش في سلام واستقرار مزيفين.
تعكس قصة "الضحية" ولع أكوتاجاوا بالأساطاير اليابانية القديمة، ومحاولته إعادة صياغة الكثير منها، في شكل عصري، وهي قصة تعتمد غالبية العناصر الأساسية لنصه من حبكة وتشويق وألغاز لا يماط عنها اللثام إلا لاحقا، وتدور في معبد بوذي قديم، بطلها صبي لقيط يصبح خادما للكهنة وللمعبد ويحظى بحب الجميع حتى تدركه لعنة بوشاية عن خطيئة ارتكبها، ومع غياب اي دليل قد يجعل أي شخص يصدق أن مثله قد يقترف أية خطيئة فإن عدم إنكاره للأمر يجعل منه إقرارا ضمنيا به.
كما كل نصوص هذا الكتاب لا تكتفي أي منها بالاستمتاع بالسرد وغرائب الواقع وامتزاجه بالخيالي، بل تجعل الأسئلة الأخلاقية والفلسفية تتوارد على ذهن القاريء دون أية مباشرة من جهة الكاتب.
هذه الأسئلة هي قوام قصتي "كيسا وموريتا" و"التنين"، اللتين يتذيل بهما الكتاب، وهما قصتان يبتعثان اسئلة اخلاقية لها قوتها بما تشكله في مجتمع قائم على تقاليد عريقة، وعلى الحكمة، والتعاليم البوذية الكهنوتية، إحداهما تناقش تناقضات القيم الأخلاقية في المجتمع العصري المنتقل من التراث إلى الحداثة، بينما الثانية تتأمل القيم الدينية ذاتها إذا تعارضت مع روح العقل، وتسخر من الخرافة لصالح تلك القيم الجديدة.
تبقى اشارة الى ان هناك جدل كبير في الأدبيات المهتمة بالأدب الياباني المعاصر حول قيمة هذا الكاتب، لدرجة إغفاله لدى بعض الكتب التي صدرت بالإنجليزية من قوائم الإبداع المعاصر، وهو جدل يشير لأسبابه وبعض شواهده كامل يوسف حسين في تصديره لهذه الترجمة، قبل أن يضيف "من وجهة نظري، باعتباري كاتبا عربيا يعاني الحيرة والتمزق في صدر الألفية الثالثة، فإن أوكوتاجاوا يهمني ويعنيني، فعلى الرغم من أنه لم يكن كاتبا سياسيا بالمعنى الواضح إلا نه كان شديد الإدراك للتزق الروحي الذي صاحب التحديث الياباني على الطريقة الغربية. لم يكن ما يعاني منه حنينا موجعا الى اليابان التقليدية، فعلى الرغم من استلهامه لبعض مادته منها انما كان جوهر ما يسعى اليه هو تلك الديناميات الهائلة التي يمكن ان تنقذه من الشعور بالاغتراب الذي افضى الى تمحور الكثيرين حول ذواتهم.
ربما لهذا بالضبط يهمني وصف أكوتاجاوا الدقيق والتفصيلي لعذابه الذهني والروحي الذي أفضى به في نهاية المطاف الى الانتحار، حيث تحس عبر سطوره بالحياة وهي تستنزف منه قطرة فأخرى حتى النهاية من دون أن يبقى شيء إلا العقل الذي يتبدى صافيا على نحو ثلجي رهيب حينما ينداح إلى الهلاوس أو منها".
نشرت في صحيفة النهار - بيروت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق