السبت، 20 سبتمبر 2014

خير جليس / عن القراءة / نقوس المهدي

 خير جليس .





عرفت الكتاب خارج حدود كراس المقرر المدرسي في حدود سن العاشرة تقريبا حين اشترى والدي كناشا صغيرا يتضمن قصيدة شعبية لمحاورة غنائية بين رجل وزوجته حول " أضحية العيد " للشيخ عبد الكريم الفيلالي كي أقراها له لشدة اعجابه بماثور القول الشعبي ..
واكتشفت المكتبة في سن الثانية عشرة حين أقام أستاذ اللغة العربية " السي محمد أغزاف " اطال الله عمره طاولة في ركن من القسم أسماها المكتبة المدرسية، وضع فوقها مجموعة من القصص المدرسية لمحمد عطية الإبراشي وأحمد سعيد العريان وكامل كيلاني، اقتناها من ماله الخاص ليزرع في نفوسنا حب القراءة والكتاب، توزع علينا مساء كل يوم سبت، لنعيدها في متم الأسبوع الموالي ملخصة في ورقة ونأخذ غيرها، كانت تلك القصص العجيبة اول صلة لنا بحكايات الجنيات وعالم الخوارق والملاحم العجيبة والخيال، لم نكن قد وصلتنا بعد قولة الحكيم الفرعوني التي تقول: ( الكتاب أفضل من لوحة رائعة النحت... أقوى من حائط متين البنيان .... انه بديل الهرم والمعبد في اعلاء اسمك) او تلك القائلة " ليتني أجعلك تحب الكتب أكثر مما تحب أمك"، ولا تلك التي جعلت اروع كاتب في القرن العشرين يقول بتواضع زائد في مديح القراءة: "فليفخر الآخرون بالصفحات التي كتبوا، أما أنا فأفتخر بتلك التي قرأت" [ بورخيس: أسطورة الأدب/ ص 108]. كنا فقط نفترس تلك القصص افتراسا لما توفره لنا من متع زائدة تغنينا عن دروس النحو والصرف والتربية الوطنية والحساب والعقاب، ومن لعب نهاية الأسبوع، لما تحملنا إليه من عوالم غريبة وفضاءات ساحرة لم نكن نألفها في قريتنا الفوسفاطية الصغيرة المغمورة المنسية، المنقطعة عن العالم المبتوتة في هضبات الكنتور، وبديلا عن حكايات آبائنا التي يحشون بها اذهاننا - وكانهم يرهبوننا نفسيا من الشغل الشاق المنتظر - عن أهوال وأخطار العمل بالمنجم والجنازير وبرودة المياه، وعن امراض الحساسية والمفاصل والربو والشيخوخة المبكرة والانكيلوستومياز وحوادث الشغل المميتة، وفظاظة المهندس وتقارير اعوانه، والماء البارد الذي يقطر من السقف، والمياه الجوفية العائمة التي تغمر لحد الحزام، والحزام الآلي النقال الذي يلتهم في غفلة أعضاء العمال او يعجن اجسادهم المنهكة كالطحين وأشياء أخرى اكثر رهبة تقع في جوف الجبل، تحت الأغوار السحيقة لباطن الأرض، تذكرني بالقرابين التي كان يتزلف بها قدماء المصريين للنيل خلال سخائه السنوي على الحقول .
الان وبعد مضي حوالي نصف قرن أسررت لأستاذي السي محمد أغزاف خلال حفل التكريم الذي أقمناه لثلة من أساتذتنا القدامى الكرام بجود كرمه وبفضل تلك المكتبة العظيمة علينا، والتي نمت في نفوسنا منذ تلك الفترة القصية علاقة وطيدة بالكتاب، انبجست من عينيه وهو على تلك الهيئة المهيبة من الوقار والشيخوخة دمعتان، لا ادري إن كانتا من فرط التأثر أو من شدة الفرح والابتهاج ..



نقوس المهدي .  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق