الشكوى المريرة لبعض الكتّاب من انصراف الجمهور الواسع عن قراءة النصوص المكتوبة (المطبوعة) تطالعنا في كل مناسبة يدور الحديث فيها عن الكتاب كوسيط معرفي. إن عصر الطباعة قد أرسى قواعد وتقاليد راسخة للكتابة والقراءة، يصعب تصوّر التداول المعرفي خارج الشكل التقليدي للمطبوع الورقي. لقد بلغ الاحتفاء والابتهاج بالمطبوع أقصى حدّه في عبارة هيجل المنتشية ((إن قراءة الصحف هي صلاة العصر الصباحية)). لقد استغرق الانتقال من المخطوط إلى الكتاب ثم مجاورته للمجلة والصحيفة، فترة زمنية طويلة بحيث ترسّخ اعتقادٌ صار كاليقين في أذهان الناس، وهو الارتباط الوثيق بين المعرفة والمطبوع. لكن في أعماق هذه العملية كان هناك صراع آخر بين الكتاب والصحيفة، حيث أخذت الصحيفة والصحافة، وهي تنافس الكتاب، إلى الحدّ الذي حازت فيه على لقب ((صاحبة الجلالة))! كوسيط للتعامل مع المتغير اليومي من أحداث وأفكار. فقد نجحت الصحيفة أخيراً بترسيخ مكانتها من خلال استقطاب الكتّاب أنفسهم للكتابة من خلالها، تعبيراً عن اعترافهم بسطوة الصحف وسلطتها، عبر نشر ابداعاتهم والتعريف بنشاطاتهم في الصحف، قبل أو بعد الذهاب إلى طبعها في كتاب. لكن كل ذلك لم يشكّل تطوراً وانفصالا جذرياً خارج عالم الطباعة على الورق كوسيط مهيمن في التواصل المعرفي.
اليوم يطرأ تطور (نوعي) وجذري، يؤشّر انتقالاً من هيمنة الشكل الطباعي إلى الشكل الرقمي المتعدد الوسائط في التواصل المعرفي. فمزايا الاشكال والألوان والأصوات والصور المتحركة باتت متاحة لحفظ ونشر وتقديم النص الكتابي، يتجاوز محدودية إمكانات الشكل الطباعي والكتاب الورقي. وعلى الكتّاب أن يستوعبوا جيداً هذه التحولات التكنولوجية الجذرية لوسائل ووسائط الحفظ والنشر وأن يكونوا في طليعة المتعاملين مع المتغيرات التكنولوجية التاريخية الجديدة، بدل البكاء على أطلال (المطبوع)! إنّ انحسار هيمنة الطباعة والمطبوع ليس نهاية المعرفة.. كما قد يتراءى للبعض. ولكنّ افاقاً جديدة لا يمكن حصر مزاياها وجمالياتها تنفتح أمام الكتّاب لحفظ ونشر وتقديم ابداعاتهم. والأمر من وجهة نظر أوسع وأكثر شمولية له دلالة أكبر من هذا التحوّل التكنولوجي في تاريخ الإنسان. فدلالته الأهم هي في نقض ذلك (التخصص الدقيق) الذي صبغ معظم نشاطات الإنسان في القرن العشرين، إنّه خطوة كبرى، بل هو قفزة كبيرة للإنسان لتجاوز بعض شروط حالة (الإغتراب) والإنقسام للذات الفردية للإنسان، عبر إتاحة الوسائل الكفيلة للفرد لممارسة الإبداع بكليّته بكافة أشكاله ومستوياته. فلم يعد الأمر، مثلاً.. بحاجة إلى إعلامي (متخصص) لتحرير خبر ما عن حدث ما بل بإمكان أي إنسان القيام بذلك (رغم ما نلمسه أحياناً من فجاجة وهوى بعيداً عن المهنية عند القيام بذلك).. ولكن الثمار لا تكون شهية ومستساغة إلاّ بعد نضجها، فالأمر ما زال في بدايته، وهذا حتماً في صالح إغناء وإثراء الوجود الإنساني الفردي على المدى البعيد، وحيازة تلك (الكلية) التي تسعى إليها الذات الإنسانية. ويبقى الأمر بحاجة إلى تلازمه مع تطورات إجتماعية وثقافية وتنظيمية واسعة لبلوغ ذلك الحلم.. إنسان (كلي) يحيا حياةً نوعية، بكل خصبها وغناها، تليق به ككائن نوعي متميّز في هذا الوجود..
لقد جرّني الحديث من مناسبة خاصة إلى آفاق (الكلي)!.. وأعود إلى شكوى الكاتب وتبرّمه من عزوف الجمهور الواسع عن الكتاب والقراءة التقليدية.. وأرى أنّ الشكوى الحقيقة هي شكوى المتلّقي من الكاتب!!! حيث يظلّ متمسّكاً بالشكل القديم للتواصل المعرفي، عالم الطباعة الورقية، فيما التكنولوجيا وتطورها يتيحان له الإستفادة، ليس فقط بتقديم ابداعه من خلال الوسائط الجديدة، ولكن لإثراء إبداعه وإفعامه بمزايا ومؤثرات إضافية، مثل الصورة والموسيقى واللوحة والشكل المتحرك.. أي الذهاب إلى القارئ الحديث من خلال وسائله الجديدة، بدلاً من انتظار القارئ الذي لن يأتي! إلى الشكل القديم من تقديم الابداع (الكتاب الورقي أو المجلة الورقية أو الصحيفة الورقية).. إنّ على المبدع أن يكون مبدعاً كذلك في تعامله مع الجديد وسبّاقاً إلى ذلك بدل النواح على ماضٍ تمّ تجاوزه! على الكاتب أن يلحق بالقارئ الذي سبقه أشواطاً في التعامل مع وسائط التواصل الجديدة للمعرفة.
وأخيراً، كلمة حول مصطلح (النص).. والذي عادة ما يحيل إلى النص المكتوب والمطبوع. ألا يضيق مصطلح (النص) بأشكال الحفظ والنشر والوسائل المصاحبة للنص الكتابي من موسيقى ولون وحركة؟ ألا يجدر بتجاوز هذا المصطلح إلى مصطلح آخر لما يبدعه الكتّاب، مثلاً، (المؤلَّف) بدل النص.. لما يقوم به المبدع من تجاوز في عمله من كتابة النص إلى انتقاء واختيار المؤثرات المصاحبة لتقديمه من أشكال وألوان وأصوات وموسيقى.. مما يضفي على النص ذاته أبعاداً ودلالات جديدة.. مما يبعد عمله من مجرد كتابة النص إلى التأليف بمعناه الشامل كما نجده مثلاً في عمل (المخرج) للفلم السينمائي.. يظلّ هذا الموضوع رهناً بالتطور الذي سيطرأ في التعامل مع المتغيّرات الجديدة، وسيدرك النقاد المتخصّصين ضرورة البحث والسعي للتعامل ونحت المصطلحات الجديدة التي تستوعب المتغيّرات الجديدة، وهذا مفتوح على ما يتراكم من تجارب وما يتجمّع من مواد جديدة منشورة رقمياً، لاستنباط مفاهيم ومصطلحات جديدة.
لن ينتهي الكتاب كما لم ينعدم المخطوط وفنون الخط.. بل المسألة هي في الوسيط المهيمن الذي له القدرة على تمثّل كل درجة من درجات التطور لبناء سلّم متطور يرتقى بالإنسان إلى سماء الكليّة والحريّة.. وتجاوز الحدود من وجود أدنى إلى وجود أسمى وأوسع للإنسان.. هي حلقة جديدة من حلقات التطور والتجاوز من ملكوت الضرورة إلى ملكوت الحرية..
اليوم يطرأ تطور (نوعي) وجذري، يؤشّر انتقالاً من هيمنة الشكل الطباعي إلى الشكل الرقمي المتعدد الوسائط في التواصل المعرفي. فمزايا الاشكال والألوان والأصوات والصور المتحركة باتت متاحة لحفظ ونشر وتقديم النص الكتابي، يتجاوز محدودية إمكانات الشكل الطباعي والكتاب الورقي. وعلى الكتّاب أن يستوعبوا جيداً هذه التحولات التكنولوجية الجذرية لوسائل ووسائط الحفظ والنشر وأن يكونوا في طليعة المتعاملين مع المتغيرات التكنولوجية التاريخية الجديدة، بدل البكاء على أطلال (المطبوع)! إنّ انحسار هيمنة الطباعة والمطبوع ليس نهاية المعرفة.. كما قد يتراءى للبعض. ولكنّ افاقاً جديدة لا يمكن حصر مزاياها وجمالياتها تنفتح أمام الكتّاب لحفظ ونشر وتقديم ابداعاتهم. والأمر من وجهة نظر أوسع وأكثر شمولية له دلالة أكبر من هذا التحوّل التكنولوجي في تاريخ الإنسان. فدلالته الأهم هي في نقض ذلك (التخصص الدقيق) الذي صبغ معظم نشاطات الإنسان في القرن العشرين، إنّه خطوة كبرى، بل هو قفزة كبيرة للإنسان لتجاوز بعض شروط حالة (الإغتراب) والإنقسام للذات الفردية للإنسان، عبر إتاحة الوسائل الكفيلة للفرد لممارسة الإبداع بكليّته بكافة أشكاله ومستوياته. فلم يعد الأمر، مثلاً.. بحاجة إلى إعلامي (متخصص) لتحرير خبر ما عن حدث ما بل بإمكان أي إنسان القيام بذلك (رغم ما نلمسه أحياناً من فجاجة وهوى بعيداً عن المهنية عند القيام بذلك).. ولكن الثمار لا تكون شهية ومستساغة إلاّ بعد نضجها، فالأمر ما زال في بدايته، وهذا حتماً في صالح إغناء وإثراء الوجود الإنساني الفردي على المدى البعيد، وحيازة تلك (الكلية) التي تسعى إليها الذات الإنسانية. ويبقى الأمر بحاجة إلى تلازمه مع تطورات إجتماعية وثقافية وتنظيمية واسعة لبلوغ ذلك الحلم.. إنسان (كلي) يحيا حياةً نوعية، بكل خصبها وغناها، تليق به ككائن نوعي متميّز في هذا الوجود..
لقد جرّني الحديث من مناسبة خاصة إلى آفاق (الكلي)!.. وأعود إلى شكوى الكاتب وتبرّمه من عزوف الجمهور الواسع عن الكتاب والقراءة التقليدية.. وأرى أنّ الشكوى الحقيقة هي شكوى المتلّقي من الكاتب!!! حيث يظلّ متمسّكاً بالشكل القديم للتواصل المعرفي، عالم الطباعة الورقية، فيما التكنولوجيا وتطورها يتيحان له الإستفادة، ليس فقط بتقديم ابداعه من خلال الوسائط الجديدة، ولكن لإثراء إبداعه وإفعامه بمزايا ومؤثرات إضافية، مثل الصورة والموسيقى واللوحة والشكل المتحرك.. أي الذهاب إلى القارئ الحديث من خلال وسائله الجديدة، بدلاً من انتظار القارئ الذي لن يأتي! إلى الشكل القديم من تقديم الابداع (الكتاب الورقي أو المجلة الورقية أو الصحيفة الورقية).. إنّ على المبدع أن يكون مبدعاً كذلك في تعامله مع الجديد وسبّاقاً إلى ذلك بدل النواح على ماضٍ تمّ تجاوزه! على الكاتب أن يلحق بالقارئ الذي سبقه أشواطاً في التعامل مع وسائط التواصل الجديدة للمعرفة.
وأخيراً، كلمة حول مصطلح (النص).. والذي عادة ما يحيل إلى النص المكتوب والمطبوع. ألا يضيق مصطلح (النص) بأشكال الحفظ والنشر والوسائل المصاحبة للنص الكتابي من موسيقى ولون وحركة؟ ألا يجدر بتجاوز هذا المصطلح إلى مصطلح آخر لما يبدعه الكتّاب، مثلاً، (المؤلَّف) بدل النص.. لما يقوم به المبدع من تجاوز في عمله من كتابة النص إلى انتقاء واختيار المؤثرات المصاحبة لتقديمه من أشكال وألوان وأصوات وموسيقى.. مما يضفي على النص ذاته أبعاداً ودلالات جديدة.. مما يبعد عمله من مجرد كتابة النص إلى التأليف بمعناه الشامل كما نجده مثلاً في عمل (المخرج) للفلم السينمائي.. يظلّ هذا الموضوع رهناً بالتطور الذي سيطرأ في التعامل مع المتغيّرات الجديدة، وسيدرك النقاد المتخصّصين ضرورة البحث والسعي للتعامل ونحت المصطلحات الجديدة التي تستوعب المتغيّرات الجديدة، وهذا مفتوح على ما يتراكم من تجارب وما يتجمّع من مواد جديدة منشورة رقمياً، لاستنباط مفاهيم ومصطلحات جديدة.
لن ينتهي الكتاب كما لم ينعدم المخطوط وفنون الخط.. بل المسألة هي في الوسيط المهيمن الذي له القدرة على تمثّل كل درجة من درجات التطور لبناء سلّم متطور يرتقى بالإنسان إلى سماء الكليّة والحريّة.. وتجاوز الحدود من وجود أدنى إلى وجود أسمى وأوسع للإنسان.. هي حلقة جديدة من حلقات التطور والتجاوز من ملكوت الضرورة إلى ملكوت الحرية..
نبيل محمود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق