‏إظهار الرسائل ذات التسميات مواضيع و ابحاث تهمك. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مواضيع و ابحاث تهمك. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 6 يونيو 2013

مقدمة في السوسيولوجياالقروية

ماالسوسيولوجيا القروية ؟ ما حدودها و امتداداتها المعرفية ؟ ما طموحاتها القصوى ؟ماذا عن الرواد و بدايات التأسيس و الشرعنة العلمية ؟ و ما الذي نتغياه فعلا من هذه المعرفة التي تعلن الانتماء المجالي لكل ما هو قروي ؟ و فيما يفيد الدرس السوسيولوجي القروي تحديدا ؟

ربما تجدهذه الأسئلة لنفسها أكثر من مبرر منهجي في مفتتح هذا القول ، ليس فقط لأنها تضعناعلى طريق التساؤل النقدي ، بل لأنها تعبد ذات الطريق نحو مقدمات تمهيدية للاقترابأكثر من مطامح و رهانات السوسيولوجيا القروية .
فالمطمح المعرفي لهذا القول لنيكون غير بحث أولي عن بعض المداخل المؤدية إلى دوائر السوسيولوجيا القروية ، و علىسبيل التمهيد قبلا و بعدا ، ينفرض علينا مساءلة البدء السوسيولوجي القروي ، ومحاورة انشغاله العلمي و رواده أملا في الاقتراب أكثر من ماهية السوسيولوجياالقروية ، و اعتبارا لذلك كله سيكون الحفر الأركيولوجي التاريخي آلية أساســية ضمنآليات اشتــغالنا على هــكذا موضوع ، فالسوسيولوجيا الـــقروية في عــمقها ومشروعها المعرفي تجد ذاتها مدعوة بل مضطرة في كثير من الأحايين إلى استلهام مناهجالتاريخ و الجغرافيا و غير قليل من نتائج العلوم الأخرى .
فإلى البدء إذن...

البداية و الامتداد

هل يمكن القول بأن السوسيولوجيا القروية سابقة علىالسوسيولوجيا العامة ؟ فما دام التفكير الاجتماعي غارق في القدم و لا يقف بالمرةعند حدود أوغست كونت(auguste comte) ، فإن أول تفكير أو تفكر في " الاجتماعي " كانمتمحورا حول الظواهر الاجتماعية في سياقها الزراعي و القروي ، على اعتبار أن القريةسابقة على المدينة و أن نشاطات الصيد و الزراعة سابقة أيضا على مختلف النشاطاتالصناعية الأخرى التي امتهنها الإنسان بعدا .
لكن و بالرغم من عراقة التفكيرالسوسيولوجي القروي ، فإن البداية العلمية مع الظهور كفرع تخصصي ضمن خارطةالسوسيولوجيا العامة تعود بالأساس إلى منتصف القرن الماضي، بتواز تام مع احتدامالنقاش حول إشكالات التهيئة و الجهوية و ضبط المجال . فبعد الحرب العالمية الثانيةصار " الاجتماعي " أكثر تضررا ، و كان من الضروري أن تتضافر الجهود العلمية و فيمختلف المجالات من أجل تجاوز ذلك الوضع الكارثي .
و إذا كان القرن الثامن عشرقد تميز بالانشغال العميق من قبل رواد الفكر السوسيولوجي بشرعنة الحضور السوسيولوجيو تأكيد الحاجة إلى مقارباته و مناهجه في فهم و تفسير الظواهر الاجتماعية ، فإنالقرن الماضي سار في اتجاه تجاوز العديد من العوائق الإبستيمولوجية و بناء مجموعةمن التخصصات السوسيولوجية ، و في إطار هذا التجاوز و الانتقال لاحت السوسيولوجياالقروية كاستجابة معرفية لما صار يعتمل في القرية من ظواهر و حالات تستلزم إعمالالمقاربات أخرى .
فبعد الحرب العالمية الثانية صارت الحاجة أكثر إلحاحا إلى فروعسوسيولوجية تخصصية تفيد في فهم و تحليل أسئلة " الاجتماعي " ، و في ظل هذه الحاجة والأزمة المجتمعية بدأت مفاهيم عديدة من قبيل العالم القروي((le monde rural و الوسطالقروي( le milieu rural ) و المجتمعات أو الجماعات القروية les sociétés et) les communautés rurales) تستحــوذ على جــانب مـــهم من الـــنقاش الــسـياسـي والاجتماعي الدائر آنئذ . لقد وجد عالم ما بعد الحرب نفسه مدعوا للقضاء على الفوارقالتي نشأت بين القرى و المدن ، و في سبيل الوصول إلى ذلك كان لا بد من إصاخة السمعلصوت العلوم الإنسانية ، من هنا كان من الضروري العمل على " صناعة " سوسيولوجياقروية تنشغل أساسا بالمجتمع القروي و تفكر فيه و حوله بهدف تقديم خلاصات و إجاباتمحتملة بصدد حركياته و فعالياته . كانت البداية أزموية ، و هذا ليس بغريب عن حقلالسوسيولوجيا العامة ، على اعتبار أنها علم الأزمة ، فميلادها ارتــبط دومــابالأزمــة التي تــحاول الإجابة عن شروط إنتاجها و إعادة إنتاجها ، و عليه فميلادالسوسيولوجيا القروية كفرع تخصصي لم يكن ليختلف كثيرا عن الظهور الأول للسوسيولوجياالعامة.

و بالنظر إلى كون البراديغم السوسيولوجي (le paradigme sociologique) يلح على تجاوز لغة و تحليلات الحس المشترك، فإن السوسيولوجيا القروية ، ستجد نفسهامنذ الوهلة الأولى مطالبة بالقطع مع هذه اللغة ، فالعالم القروي كموضوع تنفرد به وتشتغل عليه هو محور كثير من الرهانات السياسية و الاقتصادية ، و هذا ما يساهم فيإنتاج و تداول كثير من أحكام القيمة حوله ، الشيء الذي يفرض على السوسيولوجياالقروية في امتدادها المعرفي أن تراهن بامتياز على الهدم و التفكيك و القراءة غيرالعادية لمختلف التفاصيل التي تعرفها تضاريس المجتمع القروي . و منه نخلص إلى القولبأنه إذا كانت الأزمة المجتمعية لعالم ما بعد الحرب هي التي حتمت ظهور السوسيولوجياالقروية ، فإن ذات الأزمة مضافا إليها الحس المشترك حول القرية و القروي ( le rural) هي التي ستبصم مسار هذا الفرع السوسيولوجي التخصصي.

الانشغال العلمي

فيما تفيد السوسيولوجيا القروية ؟ و ما دوائر انشغالها المركزية ؟ و هل من حدودمعرفية تسيج هذا العلم ؟ و ما تقاطعاته و تمفصلاته الأخرى مع باقي الفروعالسوسيولوجية الأخرى و مع علوم أخرى من خارج السوسيولوجيا ؟
علم الاجتماعالريــفي هو العلم الخاص بدراسة أهل الريف و ما تربطهم من صلات و تلك التي تربطهم وغيرهم من السكان غير الريفيين ، إنه العلم الذي يجعل من القرية محور اهتمامه وانشغاله المركزي ، و هذا ما يبرز بجلاء أن الحدود المعرفية لهكذا علم مرسومة بدقةمتناهية ، لكن مع ذلك فالتقاطعات التي تدشنها السوسيولوجيا القروية مع دوائر اشتغالمعرفية أخرى تجعل من الصعوبة بمكان تسييج السؤال السوسيولوجي القروي ضمن حدودالقرية فقط ، و لعل هذا ما دفع ساندرسونsanderson) (إلى التأكيد مرة أخرى على أنعلم الاجتماع الريفي هو علم الحياة في البيئة الريفية و يتضمن ذلك وصفا دقيقاللتجمعات البشرية و العلاقات المختلفة لتلك التجمعات و العوامل المؤثرة على عمل وتقدم و وظيفة هذه المجتمعات.

"القرية كظاهرة اجتماعية " يمكن أن يكون هكذاموضوع واحدا من الانشغالات العلمية للسوسيولوجيا القروية ، و يمكن أن يكون العنوانالأبرز لذات الانشغالات ، لكنه ليس الوحيد ، فالسوسيولوجيا القروية تجعل من المجتمعالقروي هدفها الأثير الذي تتوجه إليه بالدرس و التحليل ، و ذلك في مختلف صيغانبــنائه و تطوره ، و عبر مختلف فعالياته و حركياته من خلال التوجه بالسؤال والتفكيك إلى المشكلات الاجتماعية للمجتمع القــروي و أنماط العيش و المؤسسات والخدمات و التدخلات الدولتية و النظم الاجتماعية و العلاقات بين المدن و البوادي وغيرها من المواضيع التي تحتل فيها القرية و لو هامشا ضئيلا في إطار جدل التأثر والتأثير . فالسوسيولوجيا القروية بملاحظتها و تحليلها لتبلور و تطور مشاكل الوسطالقروي تقترح نفســها كمشروعمعرفي لفهم و تفهم الأفراد في هذا الوســط . و لكونالوسط القروي هو جزء من مجتمع عام و شاسع ، فإن السوسيولوجيا القروية لا تمنع نفسهامن دراسة المجتمع في كليته، الشيء الذي يساعد على الوصول إلى مستوى عال من الفهم والتفهم للوسط القروي كما يعلن عن نفسه.


هذا كله يدفع إلى التأكيد مجددا علىأن دوائر الانشغال العلمي للسوسيولوجيا القرية لا يمكن حصرها بالمرة في مجال القريةو لا في موضوع الإنسان القروي وحده ، و هذا ما يعني بالضرورة علائق التشبيك والتداخل التي تبصم هذا العلم ، فالسوسيولوجيا القروية توجد على خط التــماس معكـــثير من المعـــارف كالجـــغـــرافيا و الاقـــتصــاد و التاريخ و الإثنوغرافياو الأنثروبولوجيا و السوسيولوجيا الحضرية و سوسيولوجيا التنمية و علوم التعمير والتهيئة و الهندسة القروية . فكل هذه المعرف تنشغل بالمجتمع القروي و تؤسس علىظواهره و تفاعلاته الكثير من المقاربات و النتائج العلمية .


إذن فالسوسيولوجياالقروية تضع ضمن استراتيجياتها العلمية مطمحا تخصصيا تعلن من خلاله عن حدودها وامتداداتها ، و هو المجتمع القروي من غير شك ، و ذلك عبر ملاحقة تفاصيله و تفاعلاتهالدقيقة و العابرة ، فالمجتمع القروي وفقا لهذه الصيغة يعد سؤالا منطقيا و أساسيافي مطبخ السوسيولوجيا القروية . و إذا كان المجتمع عموما يشير في مبناه و معناه إلىمجموعة من العلاقات و المؤسسات و الأدوار و الظواهر أيضا ، فإن السوسيولوجياالقروية و من منطلق انشغالها المعرفي تجد ذاتها مدعوة إلى الاشتغال على هذه الأبعادالعلائقية و المؤسسية و المجتمعية عموما في رحاب القرية . ما القرية؟

لكن مع ذلك تظل الحدودالمعرفية للسوسيولوجيا القروية بعيدة عن الضبط المجالي ، فالمجتمع القروي و كمارأينا في السابق هو " مخطوب الود "من قبل الكثير من المعارف ، إنه رقم أساس في كثيرمن المعادلات العلمية ، و ليست السوسيولوجيا القروية وحدها التي بمقدورها الإجابةعن مختلف أسئلته و إشكالاته .
في هذا الصدد يشير ميشيل روبيرMichel robert) (إلىأن السوسيولوجيا القروية تعرف بالنسبة إلى حقل اشتغالها أكثر من أي تلوين نظري أصلي، فمجال الاشتغال هو الذي يمنحها التعريف المحتمل ، و هو الذي يكشف عن توجهاتها وطموحاتها العلمية . و في ذات السياق يبرز هنري مندراس( Henri mendras) بأنه إذا لميتم ربط السوسيولوجيا القروية بسوسيولوجيا فلاحية متخصصة ، فإنها سوف تعرف بحقلدراستها الذي هو المجتمعات القروية .
إذن ما المعنى الذي تحيل عليه القرية ؟ ماالقرية و المجتمع القروي؟ و من أي المداخل يمكن الوصول إلى هذا المعنى المحتمل ؟ هلنعرف القرية بالمنطق الإحصائي كما تذهب إلى ذلك السوسيولوجيا الأمريكية التي تجعلمن القرية ذلك المجال التي يقل فيه مجموع السكان عن 2500 نسمة ؟ علما بأن هذا السقفالإحصائي يعبر عن معنى المدينة في دول أخرى . أم ننضبط إلى التعريــف المهنيالـــذي تقـــترحه السوسيولوجيا الحضرية و الذي تميز به المدينة عن القريةباحتضانها لما يفوق 5000 منصب شغل غير فلاحي ؟ أم نرتكن إلى التعريف الإداري وفقاللتقسيمات المجالية التي يقترحها علينا مهندسو الإدارة الترابية و التهيئة الجهوية؟

اللافت للنظر بخصوص التعريف الإحصائي للقرية هو أن الاختلاف يظل على أشده بينالدول حول السقف السكاني الذي يفصل بين المدينة و القرية ، فبعضها مثلا لا يشترطإلا 2000 نسمة للتمييز بين المجالين، في حين نجد البعض الآخر يحصر الرقم في 200نسمة فقط . فالوسط القروي يتميز كثافة سكانية متواضعة كميا ، و كذا بفضاء زراعي فيالغالب و بأنشطة فلاحية، و الطريقة الأكثر انتشارا للتمييز بين القرية و المدينةتظل إحصائية ، فهناك عتبة 2000 نسمة لكل وحدة إدارية قاعدية في فرنسا مثلا، و 2500نسمة في الولايات المتحدة الأمريكية و 5000 نسمة في المكسيك و 10000 نسمة فيالسينغال، كما أن هذا المقياس الإحصــائي ينحدر إلى 1000 نسمة في كنــدا و 400 نسمةفي ألبانـــيا و 200 نسمة في الدول الاسكندينافية . و هذا ما يدفع إلى الأخذبتعريفات أخرى تركز على طبيعة الأنشطة ( نسبة الأنشطة الفلاحية من مجموع الأنشطةالعامة ) ، أو الكثافة السكانية العليا أو الافتقار إلى التجهيزات و المؤسسات .
و بالنسبة لكلمة rurale فهي مأخوذة من الأصل اللاتيني rus الذي يقابل كلمة urbs و الذي يدل على المدينة ، و هذا التقابل بين القرية و المدينة تحكم لزمن طويلفي تعريف كل واحدة منهما ، فالمدينة لا تعرف إلا بكونها نقيضا للقرية ، و هذهالأخيرة ذاتها لا تعرف إلا بكونها مختلفة عن المدينة في النشاطات و التنظيم المجاليو المؤسسي .
و إذا كان المجتمع لفظيا يطلق بمعنى أخص على المجموع من الأفرادالذين تؤلف بينهم روابط واحدة تثبتها الأوضاع والمؤسسات الاجتماعية، ويشار به إلىالاجتماع في الأسرة أو القرية أو القبيلة ومنه نقول المجتمع القروي, القبلي ، فإنهيصير وفقا لهذا الفهم عبارة شبكة من العلاقات الاجتماعية بين الفاعلين الاجتماعيين،فهو جسم من العلاقات والوظائف والمؤسسات التي تتحرك وتتفاعل ضمن نسق اجتماعي معينتحدده آليات ضبط ومعايير عقل جمعي. أما القروي فهو المنسوب إلى القرية أو البادية،وبالتالي فالمجتمع القروي هو عكس المجتمع المدني / الحضري، وعموما فالمجتمع القرويلا يتم تحديده من طرف الدارسين إلا بما ليس هو، أي يتم تحديده انطلاقا من تحديدالمدينة، فالمجتمع القروي نوظفه هنا كمجال جغرافي في مقابل المدينة، وأيضا كعلاقاتاجتماعية تعتمل في رحابه.
وإذا كان المجتمع القروي أكثر ارتباطا بالفلاحةوالفلاحين, فإن لفظة "فلاح" عامة جدا، وهناك بالفعل عدة فئات اجتماعية، مثل الوجهاءالذين يعدون دعائم الدولة، وهناك فعلا مجموع الفلاحين المرتبطين عاطفيا ودينيابالدولة، إلا أن هناك بموازاة ذلك صغار الفلاحين الفقراء الذين يتحملون مجموع القمعوالاستغلال في البلاد . فكيف السبيل إذن إلى تمييز العالم القروي ؟

مع الرواد

في سياق أزمة عالمما بعد الحرب تمت دعوة علماء الاجتماع للاشتغال على القرية أملا في تطوير قدراتالتغيير في المجتمع القروي ، و قد ترجم هذا الاشتغال عبر مسارين أساسيين تمثلا فيالسوسيولوجيا الأمريكية التي سارت في الاتجاه الأمبريقي و السوسيولوجيا الفرنسيةالتي اختارت درب المونوغرافيات ، و هذان الاتجاهان هما اللذان حسما لحظة التأسيسالعلمي للسوسيولوجيا القروية، هذا مع التأكيد على أن كلا الاتجاهين لم ينقطعا عناستثمار خلاصات علوم أخرى كالجغرافيا و الأنثروبولوجيا بدرجة أولى. و على العمومفالسوسيولوجيا القروية تدين ، بالنظر إلى نشأتها ، بالكثير إلى السوسيولوجياالفرنسية و الأنثروبولوجيا الأمريكية ، و هو ما يجعل البعض يؤكد بأن السوسيولوجياالقروية ما هي إلا نتيجة منطقية لزواج كاثوليكي بينهما معا
.
و بحثا عن البداياتالتأسيسية لهذا العلم ، قام مارسيل جوليفي ( Marcel Jollivet) برصد كرونولوجيلمساهمات الرواد الأولية في هذا الميدان ، و قد اهتدى من خلال جرده هذا إلى أنالأثر الأول في الدرس السوسيولوجي القروي يعود في فرنسا إلى جان ستوتزل(Jean stœtzel) الذي كان يدرس هذه المادة بمعهد الدراسات السياسية بباريس خلال سنتي 1948و 1949 ، و ذلك قبل أن يعهد بهذا الدرس إلى هنري مندراس( Henri mendras) ، إلا أن هذاالأخير يعد بحق المؤسس الفعلي للسوسيولوجيا القروية ، اعتبارا لكونه من بين أوائلالباحثين الذين كرسوا جهودهم المعرفية للشأن القروي ، فقد حاول منذ البدء أن يقدمنموذجا نظريا لتحليل المجتمعات الفلاحية ، مستلهما نتائج الأنثروبولوجيا الأمريكيةالتي انشغلت بالجماعات القروية منذ عشرينيات القرن الماضي .
و لقد راهن هنريمندراس في انشغاله بالمسألة القروية على الاعتماد على التاريخ و الاقتصاد و السياسةو باقي العلوم الأخرى التي تسعفه في اختراق تفاصيل المشهد القروي ، و لهذا فقد كانينجز أبحاثه في الغالب بتعاون تام مع اقتصاديين و مؤرخين.

مارسيل جوليفي يعدهو الآخر من رواد السوسيولوجيا القروية ، فقد أصدر بمعية زملاء له في هذا الحقلعددا من الدراسات القيمة التي ساهمت في تأجيج النقاش حول أسئلة العالم القروي ، وقد عرف مارسيل جوليفي كثيرا بمفهوم التداخل التخصصي l'interdisciplinarité الذي كانيستعيض عنه أحيانا بالتعدد التخصصي « multidisciplinarité » ou « pluridisciplinarité »، فقد كان يلح دوما على أن السوسيولوجيا القروية لم تكن قبلاتخصصا خالصا، بل هي فرع من فروع علم الاجتماع ، يتميز بكونه أبعد ما يكون معزولاتماما ، فالسوسيولوجي القروي ينفرض عليه من حين لآخر أن يكون مؤرخا و جغرافيا واقتصاديا و ديموغرافيا و إثنوغرافيا و عالم نفس أيضا ،إذ عليه أن يختبر مناهج كلهذه التخصصات لكي يتمكن من دراسة ظواهره . و وفقا لهذا التصور فقد اعتبر جوليفي غيرما مرة أن السوسيولوجيا القروية الفرنسية هي معرفة متعددة الاختصاصات بشكل أساسي ،و هذا ما يميزها عن السوسيولوجيا القروية الأمريكية.
و بخصوص العالم الجديدفيعتبر ليبرتي هايد بيليliberty hade bailey (1858-1954) المؤسس الفعليللسوسيولوجيا القروية و الصحافة القروية أيضا بالولايات المتحدة الأمريكية ،فبالرغم من تخصصه البيولوجي و النباتي تحديدا فقد ساهم ليبرتي منذ العشرينيات منالقرن الماضي في تأسيس سوسيولوجيا قروية أمريكية ، و ذلك منذ التحاقه بمدرسةالفلاحة بميشغان.

إن السوسيولوجيا القروية الأمريكية خرجت من رحم مدرسة شيكاكو، فمع اشتغال ويليام إيزاك توماس (William Isaac thomas) و فلوريان زنانيك ( Florian znanieck ) على الفلاح البولوني في كل من أوروبا و أمريكا ما بين 1918 و 1920 ، بدأت تتشكل الملامح الكبرى للسوسيولوجيا القروية بالعالم الجديد ، و يعد هذاالكتاب الصادر في خمسة أجزاء من الكتب المؤسسة للسوسيولوجيا الأمريكية عموما ، وليس فقط للسوسيولوجيا القروية أو لمدرسة شيكاكو، و في هذا الكتاب سيبلور الباحثانمفهوم الاختلال الاجتماعي(désorganisation sociale ) الذي سيظل مهيمنا على النقاشالسوسيولوجي للمدرسة خلال فترتها الذهبية ما بين 1915 و 1935.

لقد صارتالسوسيولوجيا القروية الأمريكية آنا تعرف نموا مطردا على مستوى إنتاج و تداولالنظريات و المفاهيم ، بل إن التراكمات المهمة التي عرفها هذا العلم في السنواتالأخيرة ما هي إلا نتاج خالص قادم من العالم الجديد ، من الولايات المتحدةالأمريكية و كندا و باقي دول أمريكا اللاتينية ، فهذه الدول تشهد اليوم فورة علىمستوى العلوم الإنسانية ، بل إنها استلمت مشعل هذه العلوم في شقها الأمبريقي منذزمن غير يسير.

هنا و الآن

لكن ماذا عن المغرب ؟ ماذا عن مساهمة آل علمالاجتماع المغاربة في تأصيل و بناء السوسيولوجيا القروية؟ و هل في الإمكان الحديثعن مدرسة سوسيولوجية قروية مغربية لها براديغماتها و توجهاتها الخاصة و الخالصة ؟ ومتى و كيف كان البدء السوسيولوجي القروي بالمغرب؟ ألا يمكن القول بأن السوسيولوجياالمغربية في مجموعها هي سوسيولوجيا قروية ، فلا السوسيولوجيا الكولونيالية و لاالأخرى التي تلتها بعد الاستقلال استطاعت أن تقلص من حضور السؤال القروي ضمن خارطةاشتغالها . فالإنتاج السوسيولوجي المغربي يظل في جانب مهم منه منخرطا في مساءلةالظواهر القروية ، بل إن الأبحاث و الرهانات غير القروية داخل مطبخ السوسيولوجياالمغربية تظل محدودة كميا و نوعيا .
مع محمد جسوس الذي يصنفه رشدي فكار ضمنالمؤسسين الأوائل لسوسيولوجيا العالم الثالث بالمغرب ، ستعرف السوسيولوجيا القرويةبالمغرب انطلاقتها الثانية ، بعد انطلاقتها الأولى المبكرة التي دشنتهاالسوسيولوجيا الكولونيالية ، فقد حاول محمد جسوس منذ البدء أن يؤجج النقاشالسوسيولوجي حول المجتمع القروي ، معتبرا إياه الحقل الحيوي الذي يترجم و يكشفمجموع تفاعلات النسق المغربي ، فمن خلال ذات المجتمع يمكن فهم كثير من الظواهر والقضايا التي تلوح في باقي الأنساق المجتمعية الأخرى ، و يمكن أيضا اكتشاف " مآلالمجتمع المغربي " الذي يعد تعبيرا أثيرا عند محمد جسوس.

و إذا كان محمد جسوسيدفع باتجاه تطوير السوسيولوجيا القروية في إطار وحدة علم الاجتماع القروي بكليةالآداب بالرباط و بالضبط قريبا من معهد العلوم الاجتماعية الذي تعرض خطأ و اعتسافاللإغلاق ، فقد كان بول باسكون ، بمعهد الزراعة و البيطرة بدوره يؤسس لسوسيولوجياقروية تدمن البحث الأمبريقي ، فعلى امتداد العديد من مؤلفاته ( ما يقوله 296 شاباقرويا ، المسألة الزراعية بالمغرب ، حوز مراكش ، دراسات قروية ، بني بوفراح ، دارإليغ و التاريخ الاجتماعي ، المسألة المائية بالمغرب ) حاول بول باسكون أن يؤسسلسوسيولوجيا قروية تستقي نظرياتها و توجهاتها من الميدان في البدء و الختام ، و علىهذا الدرب سيبلور باسكون نظريته عن المجتمع المزيج أو المركب ، كما سيحدد ملامحالسوسيولوجي و مهامه المركزية.

بعد الرحيل الغامض لبول باسكون و زميله عاريفستعرف السوسيولوجيا القروية بمعهد الزراعة البيطرة نوعا من الموت السريري ، لينتقلالنقاش مجددا إلى وحدة علم الاجتماع القروي بكلية الآداب بالرباط التي ستلتمع فيرحابها جملة من الأسماء التي بصمت مسار الفعل السوسيولوجي بالمغرب، مثلما ستساهم فيإنتاج العديد من الأبحاث و الدراسات القيمة حول المجتمع القروي المغربي . و لعل هذاكله ما يدفع إلى القول مجددا بأن السوسيولوجيا المغربية هي لحد الآن سوسيولوجياقروية في شقها الأكبر.

ال " كلنا " قرويون

ما يدفع إلى التفكير في هكذا نتيجة هو الطابع القروي للمجتمع المغربي ، فال " كلنا " قرويون ، بل إن الحدود بينما هو قروي و ما هو حضري مغربيا تظل تعسفية و غير منضبطة لمنطق محدد ، لهذا كلهيصير الدرس السوسيولوجي القروي ضرورة ملحة لقراءة تضاريس المجتمع المغربي ، بل إنالانشغال السوسيولوجي بالمجتمع القروي من شأنه أن يساهم فعلا في خدمة المشروعالنضالي للسوسيولوجيا, "فالعلاقات السلطوية ما زالت سائدة في العالم القروي، ومع مايطبعها من إكراه ومحسوبية وتطاول على حقوق المواطنين... وهي تؤكد المحن التي يعيشهاالعالم القروي" وهنا يحق لنا أن نتساءل مرات أخرى: ما الذي نريده من السوسيولوجيا والسوسيولوجيين؟ وما الذي نتغياه من علم الاجتماع القرويتحديدا؟

"إن العالم الفلاحي يمثل مشهد جمود تديره وترعاه النخب المحلية التي التحقت بالدوائر الإدارية كقواد وشيوخ ومقدمين" إنه عالم واقع بلا شك تحت رحمة المخزن الذي نجح كثيرا فيعمليات الاختراق والاحتواء، و "لهذا تظل البوادي هادئة تماما حتى عندما يكون النظامالسياسي معرضا لرجات" . فهذا "الثبات الاجتماعي" من جهة وهذا الاختراق المخزني منجهة أخرى ألا يستوجبان معا وقفة خاصة من أجل الخلخلة والتفكيك العملي والعلمي؟ أولا يقودنا الوضع الشاذ الذي ينخرط فيه المجتمع القروي إلى تلك المهمة الأساسيةالمبحوث عنها في علم الاجتماع القروي؟
إن تسخير السوسيولوجيا للنبش في هموموآمال المجتمع القروي أمسى مطلبا أكيدا في راهننا هذا، الذي تعالت فيه آهاتالفلاحين وزفراتهم الساخطة، فحاجتنا إلى سوسيولوجيا قروية أكثر جرأة في الطرحوالتحليل ضرورة قصوى ، بل إن الحاجة إلى هذه السوسيولوجيا لا يحددها فقط ما يعتملفي العالم القروي من ظواهر وحالات عصية على الفهم ، ولا توجبها حصرا محدوديةالدراسات والأبحاث التي تصدت لها، وكذا ضرورات توسيع دوائر الاهتمام العلمي بها،وإنما تفرضها فرضا خصوصيات المجتمع المغربي عموما.

فكم نتناسى طبيعة المجتمعالمغربي الذي هو قبل كل شيء مجتمع قروي، وأن أزمة المجتمع القروي هي في العمق مرآةلأزمة المجتمع المغربي، والطابع القروي لمجتمعنا لا ينحصر في بعض الأرقام المتعلقةبالوزن الديموغرافي لسكان البادية (45%) وبنية اليد العاملة في البادية (41%) وكذلكحجم الإنتاج الزراعي (20% من الناتج الداخلي الخام), فإلى جانب العوامل الاقتصاديةوالاجتماعية توجد عوامل تاريخية، حضارية، سياسية وثقافية، وكذلك عوامل تخص نمـطالعيش والسلوك، والتي تؤكد أن مجتمعنا لا زال قرويـا . كل هذا إذن يجعل البحث فيشجون المجتمع القروي مبررا ومشروعا جدا، خصوصا في عمق الانشغال بالعلاقات والتمثلات المرتبطة بالسلطة المخزنية، ويدعو في الآن ذاته إلى إعمال النظر العلمي فيعالم الفلاحين الذين تبدو العلاقات بينهم وبين الدولة جد مبهمة للغاية, ذلك أنهميعيشون دوما على خشيتها وأمام القرار الفالت من أيديهم. إنها إله رهيب ومصدر لنعمغير منتظرة.

على سبيل الختام

بعد هذا المار ذكره نطرح السؤال مجددا : ماالسوسيولوجيا القروية ؟ ما مراكز اهتمامها المعرفي ؟ و ما الذي نتغياه من هكذا تخصصسوسيولوجي ؟ و أي التعاريف تبدو منطقية و معبرة عن حقيقة السوسيولوجيا القروية ؟
كان التأكيد منذ البدء على أن ما ينطرح على حواف هذا القول ، لن يكون غير " فتحلشهية " الحديث عن السوسيولوجيا القروية ، طبعا لن يكون إلا مقدمة تمهيدية تحرض علىالتساؤل أكثر ما تراهن على تقديم الإجابات الجاهزة ، فمع الحديث عن البدء والامتداد و الانشغال المعرفي و القرية أولا و الرواد بعدا و الانعطاف نحو ال " هنا " و الآن ثم التأكيد على قرويتنا الغائرة ، لم نكن نهفو لا إلى تقديم جواب جاهز عنماهية السوسيولوجيا القروية ، و لا إلى أي تحديد صارم لانشغالاتها و آليات اشتغالها، فقط كان هم الاقتراب منها هاجسنا المركزي و سؤالنا البعدي .
السوسيولوجياالقروية وفقا لتطورها التاريخي لن تكون غير سوسيولوجيا مسكونة بأسئلة المجتمعالقروي في جميع حركاته و سكناته ، تفاعلاته و تحولاته ، اتساقه و اختلاله ، لن تكونأيضا غير معرفة متعددة المداخل و المشارب ، تؤمن بالتخصص العلمي لكنها تجد نفسها فيكل حين مدعوة لاستثمار خلاصات و مناهج كثير من العلوم الشقيقة و الصديقة ، و مع ذلككله فإن سبر أغوار هذه السوسيولوجيا لا يكون ممكنا إلا بالنزول إلى الميدان ، لأنهامعرفة ميدانية بامتياز .

الأربعاء، 29 مايو 2013

سيرة السوسيولوجيا في المغرب

سيرة السوسيولوجيا في المغرب
موقع السوسيولوجيا في المجتمع ما زال موضع جدل
نشر في المساء يوم 29 - 09 - 2008

تطمح هذه الملاحظات إلى تثمين المعطيات السوسيولوجية بهدف إصلاح المشروع العلمي للسوسيولوجيا، وتترتب عن ذلك جملة من الأسئلة المهمة:
ما هي المقاربات النظرية والمنهجية والإبستيمية الأكثر تخصيبا للمعرفة السوسيولوجية؟
ما هي طبيعة التوجه الذي ينبغي للسوسيولوجيا أن تأخذه إزاء الرهانات الاجتماعية التي تواجه المجتمع؟
كما هو شأن السوسيولوجيا على المستوى العالمي، محكوم على السوسيولوجيا في المغرب بالانفتاح على/وفتح مجالات اجتماعية تبدو راهنية وملحة، من قبيل الظواهر المرتبطة بدراسة وتحليل أنماط العلاقات والروابط في المجتمع في ضوء التحولات الجديدة، بما في ذلك علاقة المجتمع بالدين، الدولة والمجتمع، العلاقة بين التدين والسياسة، إنتاج النخب، تحولات منظومة القيم، روابط الأجيال، الجريمة والمدينة، القيم المدنية، الجماعات والحركات الاجتماعية الجديدة، الهوية والإثنيات... إلخ.
تنضاف إلى كل ذلك التحديات الداخلية للسوسيولوجيا والمرتبطة تحديدا بتطور المدارس الفكرية العالمية وتأثيراتها على المشروع النظري والفكري لسوسيولوجيا منشغلة بالمجتمع وتحولاته. ومن تلك التحديات كيفية استعمال التعدد النظري والتقاط المقاربات الأجود مردودية من الناحية المعرفية. ليس عيبا أن نتعاطى مع رواد الفكر السوسيولوجي ونستفيد منهم ولا يمكن تجاهل مساهمات السوسيولوجيين الكلاسيكيين من قبيل: ماركس ودركايم وويبد وبارسون أو غيرهم من المفكرين الذين تم اكتشافهم أو إعادة اكتشافهم كما هو حال كل من: موس وديواي وزراندت وشولتز.
لكن لابد أيضا من مواكبة تلك الأطروحات التي تأسست على أنقاض تاريخ الجدل السوسيولوجي بين الوظيفية والماركسية والبنيوية الوظيفية والاستفادة من أزمة الماركسية، حيث برز الآن توجه نحو التداخل النظري أو التعدد النظري. كما يجب الاعتناء بتطوير التفكير السوسيولوجي خارج الثنائيات: فرد-مجتمع، ذاتية-موضوعية، الماكرو-الميكرو، الفعل-البنية، العقلانية-اللاعقلانية... إلخ.
تجاوز الثنائيات لا يمكنه أن يتم إلا عبر تبني مقاربات متعددة الأبعاد، حيث يقتضي ذلك التعدد النظري الذي يفيد في إنتاج سوسيولوجيا مرنة قابلة للتكيف وقادرة على المواكبة ومؤهلة لتحليل وتفسير تبدلات المجتمع. فمن دون تلك الكفاءة والفعالية لن يكون للمجتمع حاجة للسوسيولوجيا.
مازال موقع السوسيولوجيا في المجتمع مثار جدل، وسيبقى كذلك طالما بقيت الظواهر الاجتماعية الجديدة خارج مجالات اهتمامها، بل إن قيمة ذلك الاهتمام تتجاوز مجرد الرصد والتوصيف لتشمل مقتضيات أخرى، منها القيام بتأمل نظري وإبستيمي يمكن استثمار نتائجه من خلال مستويين:
أولا، عقد المقارنات بين مختلف رواد التفكير السوسيولوجي (المعاصرين على الخصوص)، ونحن هنا لا غنى لنا عن بورديو وبودون وتورين ولوهمان وهابرماس وجيرتز وجيرنس وفريتانج وكولمان وتايلور.
ثانيا، لإغناء التأمل النظري المرتبط بالفكر السوسيولوجي المغربي لابد من تفادي الاختزال والتعميم، والاستفادة من الهيرمنوطيقا وكذا تفعيل مقاربات تواصلية وتكثيف الدراسات الثقافية (سوسيولوجيا الثقافة) والاستفادة من نقد نظرية الحداثة ودراسات الخطاب وتحليله. من دون إغفال دور التكنولوجيا في المجتمع، ومن خلال استخدام مفهوم «مجتمع المعرفة»، والتركيز على تحليل السيرورات الإبستمولوجية، وما إن كانت البنيات الاجتماعية هي التي تحسم في البنيات المعرفية أم العكس.
تواجه السوسيولوجيا في المغرب تحديا آخر، لا يبدو أن تجاوزه سيكون أمر متاحا من دون مراجعات جذرية. فالسؤال الذي كان يؤرق السوسيولوجيا في بداياتها كان حول إمكانية تحقيق الموضوعية، أما اليوم فإن السؤال المركزي يدور حول إمكانية تحقيق الكونية: بمعنى هل من الممكن للسوسيولوجيا تأسيس خطاب كوني؟ هذا السؤال مهم بالنسبة إلى السوسيولوجيا لكن توظيفاته قد تحمل مخاطر على المجتمع. إنه سؤال ينطلق من مبدأ معروف هو وحدة المسارات التاريخية ووحدة مصائر المجتمعات الإنسانية، لكنه لا ينتبه كثيرا إلى الخصوصيات والجوانب الرمزية والثقافية والعقائدية مثلا، إلا من زاوية شمولية أو يستعملها لتبرير الحتمية التي تكتنف الخطاب الكوني. ويكفي أن المجتمع المغربي كان في كثير من المقاربات ضحية هذا النوع من الخطاب الذي يدعي العلمية.
وعليه، لابد من إيجاد التوازن اللازم بين طموح السوسيولوجيا لإنتاج خطاب كوني، وبين مقتضيات اكتشاف المجتمع المغربي وفق متطلبات المجتمع نفسه، وفق تساؤلاته وانشغالاته، ووفق ذاتياته وخصوصياته. يجوز أن السوسيولوجيا تريد بناء أطرها النظرية بما يضمن بناءها الداخلي وتماسكها الجوهري، فهي علم قائم على قوانين استخلصها الباحثون من خلال التجربة البشرية، لكن ذلك لا يمنع أن المجتمع المغربي هو أيضا بحاجة إلى اكتشاف سبل ومسالك انسجامه الداخلي وتماسكه الاجتماعي، وهو لذلك يتوقع من السوسيولوجيا أن تكون مرشده ودليله نحو هذا المطلب.
هذه معادلة دقيقة ومعقدة: كيف الاعتناء بالتنظير السوسيولوجي من دون التفريط في معطيات الواقع الاجتماعي؟ من دون التعسف في استخدام المعطيات؟
لا إمكانية لتحقيق ذلك من دون تمثل التنظير السوسيولوجي والإمساك بوتائر التحول الاجتماعي بالقدر نفسه من الحرص والعمق. ومعنى ذلك أن حل تلك المعادلة رهين بتأسيس أفق إبستيمي واضح ودقيق ينسجم مع القوانين الاجتماعية العامة التي ثبتت صدقيتها. من الواضح أن أهم الأسئلة التي تواجه السوسيولوجيا في المغرب تقود إلى الإبستيمولوجيا. ذلك أن كل علم، والسوسيولوجيا بالذات، منفتحة ومفتوحة على المؤثرات المفارقة في بنيتها الداخلية، لأن حدودها المنهجية غير قارة وفي تبدل مستمر. وعليه فلابد للسوسيولجيا في المغرب من تجديد ذاتها وموضوعاتها ومناهجها.
مصداق هذه الملاحظات يمكن البرهنة عليه عندما نريد اختبار السوسيولوجيا في ميادين خاضعة للتبدل باستمرار بوصفها ظواهر هشة كالعائلة مثلا، أو الأشكال الجديدة للجريمة في المدن المغربية، أو أنماط مأسسة العمل الجماعي، أو القوى الثقافية الجديدة، أو الهجرة السرية، أو أنماط التدين وتعبيراته... إلخ.
بالوقوف مثلا على تحولات العائلة المغربية، يمكن الحديث عن بروز أنماط جديدة من الروابط وأشكال جديدة من التفكك. من ذلك مثلا، تبدل موقع ومنطق الأبوة رمزيا ونَسَبيا، وبروز مفهوم «الأم العازبة»، والطلاق، والسلطة الاقتصادية، ولذلك فإن مستقبل الدراسات في هذا الميدان رهين بوضع تلك التحولات الحادة والعنيفة ضمن سياقها الاجتماعي بالاعتماد على مقاربات علمية متعددة ومتداخلة التخصصات.
أما بخصوص الأشكال الجديدة للجريمة كمثال ثان، فيستدعي السوسيولوجيا في المغرب إلى تطوير إطار مفاهيمي متعدد التخصصات وأطر نظرية لفهم هذه الأشكال الجديدة من الجريمة، لفهم كيفيات انتشارها والمصادر الاجتماعية الداعمة لها. ويمكن مثلا في هذا السياق استخدام مفهوم «الرأسمال الاجتماعي» لتحليل هذه الأشكال الجديدة من الجريمة، خصوصا لدى الشباب الذين يعيشون ظروفا اجتماعية لاإنسانية ولااجتماعية. وهذا المفهوم له فائدتان، فهو من ناحية يساعد على تطوير وتجديد البحث السوسيولوجي في المغرب بالقدر نفسه الذي يساعد علم الإجرام من ناحية ثانية. فهذا المفهوم يقترح الاعتماد على نظرية عدم تكافؤ الفرص عندما يتعلق الأمر بالاستفادة من الرأسمال الاجتماعي، مع الأخذ بعين الاعتبار دور المؤسسات كالمدرسة أو الوسط بوصفهما عاملين لتفسير كيفيات تحول الشباب إلى عالم الجريمة.
ونحن نلاحظ ذلك بقوة في المغرب، حيث ارتبطت العوامل المباشرة للجريمة بالمستوى التعليمي، والإقصاء الاجتماعي، والسكن غير اللائق، وانعدام فرص العمل. كما أن الحلول التي يتم اللجوء إليها بدعوى محاربة السكن العشوائي، لم تسهم إلا في مزيد من تغذية عوالم الجريمة، بل ساعدت على أن تأخذ الجريمة أبعادا جماعية بعد أن كانت فردية. فالسكن الاجتماعي والاقتصادي خلق مدنا للإجرام.
لذلك، لن يكون ممكنا للسوسيولوجيا في المغرب أن تكسب احترام المجتمع طالما بقيت بعيدة عن توتراته الحقيقية، عن أسئلته الوجودية. أن تعيد السوسيولوجيا بناء ذاتها ومشروعها معرفيا معناه أن تحظى بالقدرة على الاستجابة لأسئلة المجتمع، وأن تحضر بقوة وبذكاء في إبداع الحلول والمخارج. تحقيق ذلك رهين باكتساب السوسيولوجيا حسا اجتماعيا واستقلالية معرفية، وبرنامجا علميا ونقديا حتى يكون بمقدورها أن تجيب عن الأسئلة الداخلية للمجتمع. ذلك هو السبيل الأوحد لكي تحظى السوسيولوجيا بالاحترام الذي تبحث عنه وينعم المجتمع المغربي بالسوسيولوجيا التي يستحقها.
* باحث في السوسيولوجيا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.

مفهوم البدو والحضر عند بن خلدون


تقديم
هل من جديد يمكن أن يقدمه طالب باحث حول مفهوم ما أو موضوع ما ضمن مقدمة بن خلدون؟
لقد ظل هذا التساؤل مستغرقا هذه الورقة-العرض من أول سطر إلى أخره، وكما يقول د محمد عابد الجابري: فالمقدمة"قتلت" بحثا ودرسا، بل إن الأطاريح التي قدمت في الجامعات العربية والغربية يستحيل حصرها أو إحصاؤها ناهيك عن الكتب والمقالات هنا وهناك بشتى اللغات، حتى عد البعض أن مجرد التفكير في الكتابة عن بن خلدون –أو بعضا من مقدمته- "أمرا مبتذلا" لن يثير انتباه المختصين ولا فضول المثقفين سواء الذين هم "خلدونيين" أو "المعترضين على أفكاره" أو ما يصطلح عليه اليوم بالدراسات الخلدونية.

بيد أن سؤال "الجديد" حول مقدمة بن خلدون سرعان ما يتولد عنه سؤال "فهم" المقدمة وعدم التعسف عليها و اختزالها أو الاجتزاء لبعض نصوصها، وهو ما لا يتورع عنه كثير من الكتاب حين يعمدون الى عبارة من عباراتها ينتزعونها ويتخذونها أساسا لتأويلات وشروح بعيدة عن الفكر الخلدوني. ولذلك يعتبر د علي الوردي ان ادعاء فهم بن خلدون ومقدمته هو وهم، فيقول" واعترف أنني لم استطع ان افهم مقاصد بن خلدون إلا بعد أن قرأت مقدمته عدة مرات... وفي كل مرة اكتشف وجها جديدا منها، ومن يدريني فربما كنت حتى الساعة بعيدا عن فهم بن خلدون كما هو في حقيقة أمره".
وليست المقدمة بمعزل عن الاختزال والتجزيء شأنها شان الكتب المتينة ، بل إن كتاب الله للعالمين لم يسلم من ذلك ! ولذلك ف"إن التراث كالكتاب المقدس حتى الشيطان يمكن ان يجد فيه نصوصا تؤيد ضالته" كما قال مكسيم رودنسون.
لقد كان لابد من هذه المقدمة قبل التوقف عند موضوع هذه الورقة : البدو والحضر عند بن خلدون" فبالرغم من كل ما سبق ذكره فليس لكاتب هذه السطور حصانة من هذا "الاختزال والاجتزاء" وعلى الله قصد السبيل.
البدو والحضر وأساس الاختلاف
قد يبدو الرجوع الى مفهوم البدو والحضر عند بن خلدون مجرد موقف تراثي تذكيري بمعلمة تاريخية قروسطية، لكن بقليل من الأناة والتبصر يعثر الباحث لا محالة على مفاهيم غاية في الأهمية.
فابن خلدون يحدد ان اختلاف طبيعة الأرض من حيث الخصب والجذب هي التي حددت شكل العمران فأشكال الاجتماع وأنماط التعاون تختلف بحسب أنماط تحصيل الغذاء والكسب، فأهل الأرض الجدباء يقتصرون على الضروريات وهم مضطرون الى التنقل طلبا للعشب والماء، عكس أهل الأراضي الخصبة فإنهم يتوسعون في الأقوات والملابس والتأنق وكلما زاد استقرارهم زاد توسعهم، وإذن فالعمران يتدرج من البسيط إلى المعقد بحسب خصوبة الأرض وجدبها، وهنا يتحدد مفهومين للاجتماع :الأول ينعت أصحابه بالبدو والثاني ينعت أهله بالحضر.
1– البدو نوعان، بدو رحل وبدو مغلوبون لأهل الأمصار
أ- البدو الرحل
"وأهل البدو لتفردهم عن المجتمع وتوحشهم في الضواحي وبعدهم عن الحامية واٌنتباذهم عن الأسوار والأبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم لا يكلونها إلى سواهم ...ويتفردون في القفر والبيداء...قد صار لهم البأس خلقا والشجاعة سجية..."
والبدو هم ساكنو البادية التي هي في اصطلاح القدماء الصحراء والأرض القاحلة.
إن هذه الظروف القاسية التي استرسل صاحب المقدمة بأسلوبه الرائع انعكست بالضرورة على طباع أهلها وأخلاقهم ونمط سلوكهم فطباعهم تنفر من العمران ومناقضة له و"أرزاقهم في رماحهم" بسبب جدب الأرض فهم يمدون أيديهم إلى ما في أيدي الناس.
بيد أن بن خلدون وهو يقدم لنا صورة عن البدو فهو كان موضوعيا إلى أقصى درجة، فبالرغم مما نعتهم به من غلظة الطباع والجفاء والتوحش ... إلا انه قال عنهم " فهم أحسن حالا ، فألوانهم أصفى وأشكالهم اتم وأحسن وأخلاقهم ابعد عن الانحراف وأذهانهم اثقب في المعارف والإدراكات...فهم أقرب إلى الفطرة الأولى..." وسرعان ما تغلب صفاتهم الحميدة على طباعهم الذميمة من غلظة وجفاء و اخشيشان، خاصة إذا وجدوا من يعيدهم إلى فطرتهم الأولى"فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله، ويذهب عنهم مذمومات الأخلاق ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق، ثم اجتماعهم وحصل لهم التغلب والملك"ج2 ص465
ب - بدو مرتبطون بالمدن
يقدم لنا صاحب المقدمة صنف آخر من البدو وهم الفلاحون من توقف إنتاجهم الزراعي على استعمال الآلات والأدوات وهي توجد بالحضر ومن اختصاص المدن، فهؤلاء اقرب إلى التحضر رغم أنهم لم يبلغوا درجة الترف والتفنن في العيش غير" أنهم إن لم يحصل لهم ملك" كانوا مغلوبين خاضعين.
وهنا يحدد لنا ايف لاكوست نوعين من البدو المستقرين الذين يدخلون تحت اسم "قبائل"
* قبائل خاضعة منقادة وضعيفة التلاحم وفاقدة للعصبية.
* قبائل قائدة مسيطرة شديدة الاندماج، بالتالي ذات عصبية فاعلة في التاريخ ومحركة للتطور المجتمعي، تستمر في إلحاق القبائل بها فإن هي تمكنت من تشكيل قوة تعادل او تفوق قوة الدولة او أدركتها في طور انحدارها تبادر للاستيلاء على الملك ثم الاستقرار بالمدينة. بيد أن قبائل قليلة من اتسمت بهذه الصفة بحسب علي اومليل. إذ الغالب هو أن الوضع الاجتماعي لهؤلاء النوع من البدو هو أشبه بوضع سكان المدن البعيدون عن الجاه والسلطة كما يقول الجابري.
2– مفهوم الحضر
لكن كيف ينظر بن خلدون إلى الحضر؟
الحضارة كما يعرفها صاحب النص هي: "التفنن في الترف و استجادة أحواله، والكلف بالصنائع التي تؤنق من أصنافه وسائر فنونه.." وأهل الحضارة أيضا "يقعد أفرادها عن العمل ويفر أصحاب الأموال بأموالهم وتغادر القبائل أراضيها ومراعيها... و يكثر الهرج وينقسم أهل العاصمة على أنفسهم كل يتحزب ويتعصب لنفسه وقريبه..." وهذا الوصف هو الذي أدى بابن خلدون لان يقول كلمته الشهيرة : "الحضارة مفسدة للعمران" .
"واهل الحضر القوا جنوبهم على مهاد الراحة والدعة وانغمسوا في النعيم والترف ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم، ...وتنزلوا منزلة النساء والولدان الذين هم عيال على أبي مثواهم". "فالحضارة مقرونة بالملك، فهي من توابع الترف، والترف من توابع الثروة والنعيم، والثروة والنعيم من توابع الملك(ج2 ص492
يرى فون كريمر أن بن خلدون كان ذا "نزعة تشاؤمية " بسبب أن الحضارة لفظته الى إحدى القلاع البدوية، وهو ما اثر بالضرورة في تحليلاته وتفسيراته لمفهوم الحضر والحضارة عموما. بينما يرى لاكوست وهو من أهم الدارسين للمقدمة ان بن خلدون انتقد سكان المدن لكونهم عجزوا عن تشكيل " طبقة بورجوازية" تمكن من مقاومة هجمات "الارستقراطية القبلية". ومن جانبه يرى محمد عزيز الحبابي أن "مؤاخذات وتهجمات" بن خلدون على الحضر إنما هي استثارة لهم للنهوض من سباتهم كي يحققوا حلمه بتأسيس دولة قوية أمام تحرشات البدو. لكن د الجابري يعتبر أن بن خلدون لم "ينتقد" ولم "يتحامل" وإنما "حلل" ظروفا اجتماعية وسياسية خاصة.
خلاصة
إن الانتقال من البداوة إلى الحضارة هو بالضرورة عند صاحب المقدمة انتقال من الخشونة إلى الترف ومن مجتمع شظف العيش والحرمان الذي هو أساس التضامن من اجل البقاء إلى مجتمع تطغى عليه صفة الفردانية والنزوع نحو الجاه والمال، وبحسب د المختار الهراس هو "انتقال من المصلحة المشتركة الى النزعة الفردية"
إن التمييز بين البدو والحضر في المقدمة هو في اختلاف طرق الكسب ، المعيشة، الطباع، والسلوك وكذا تأثير المناخ والخصب والجدب. و كل إيغال في التفنن في العيش والبذخ والترف هو استدراج بالضرورة نحو فساد العمران ونهايته، فهو نعي مقدم لحضارة الاستهلاك!
و ختاما
شدد ريمي لوفو على أن "المخزن" استفاد كثيرا من المعرفة السوسيولوجية الكولونيالية التي جعلته يتحكم في البادية المغربية، إذ جعل الفلاح - صانع التغيير عند بن خلدون عند كل فساد للعمران- حاميا لعرشه وبعيدا عن كل الصراعات السياسية ، و لا يخفى أن ريمي لوفو يلتقي أحيانا مع بن خلدون فيما يتصل بتبعية البادية للحضر أو تبعية رجل البادية لرجل السلطة!
يتساءل د المختار الهراس عن جدوائية الأسئلة "ما قبل النظام الاستعماري"؟ طارحا سؤالا آخر وهو: هل خرجت مجتمعات المغرب العربي حاليا عن "الزمن الخلدوني"؟
ختاما نتساءل بدورنا إلى أي مدى يمكن التمسك بمفهومي البدو والحضر الخلدونيين في زمن تتلاشى فيه الحدود بين ما هو حضري وبدوي؟ ألا توجد كيانات ومجتمعات موسومة بعلامات أخرى غير ما هو حضر وبدو؟ أين تنتهي كل من البادية والمدينة؟ وخاصة في زمن المسيرات والوقفات الاحتجاجية ل"بدو" و"سلاليات" وأهل مداشر نائية و"مغلوبة" في زمن عولمة القيم والتواصل و"الربيع العربي" الذي كسر الدائرة المغلقة التي يتهم بها البعض صاحب المقدمة.

المراجع
عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، دار الجيل، بيروت
المختار الهراس، القبيلة والسلطة، المركز الوطني لتنسيق وتخطيط البحث العلمي والتقني، مطبعة الرسالة
محمد عابد الجابري، العصبية والدولة، مركز دراسات الوحدة العربية، ط7، بيروت
ريمي لوفو، الفلاح المغربي المدافع عن العرش، وجهة نظر، ط2011
مكسيم رودنسون، الإسلام والرأسمالية، ترجمة نزيه الحكيم، بيروت، دار الطليعة،1968
علي الوردي، منطق بن خلدون، القاهرة، معهد الدراسات العربية العالية، 1962 

 http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=292023

الأحد، 19 مايو 2013

البنيات الاجتماعية في الأطلس الكبير.


  • بقـــــــلم الدكتــور مــحــمــد الــدهــان

    البنيات الاجتماعية في الأطلس الكبير.

    لقد توصل “جاك بيرك” إلى بعض الاستنتاجات النظرية خلال دراسته للبنيات الاجتماعية في الأطلس الكبير يمكن تلخيصها كالتالي:
    1-انتماء المجموعات القبلية في الأطلس الكبير لكيان أوسع يتجاوز الحدود الجهوية وحتى القطرية ليعم افريقيا الشمالية بأكملها. هناك استمرارية أفقية وتشابه بين كل التنظيمات الاجتماعية في المغرب العربي سواء تعلق الأمر بالتنظيمات القبلية في القرى والبوادي، أو التنظيمات القرابية في المدن.
    هذه التنظيمات القاعدية تتشكل أساسا من من خلايا عائلية “أبوية” تتشابه فيما بعضها ولا تختلف إلا من ناحية التركيب. إنها تتشكل في القمة من النسب الأبوي في صيغته الحقيقية أو الوهمية، وترتبط قاعديا بخلايا متشابهة، تنتظم في تجمعات لها أشكال متنوعة، لم يفهم البحث الأنثروبولوجي حتى اليوم أسباب تنوعها.
    “إننا لم نعثر بعد ،يقول “بيرك” ، على المبدء العام الذي تنتظم وفقه هذه التجمعات، ولو عرفنا ذلك لاكتشفنا إحدى القوانين الأساسية التي تتحكم في تنظيم المجتمع المغاربي”.
    من جهة أخرى لاحظ “جاك بيرك” وجود تجانس واستمرارية بين كل المكونات الاجتماعية التي يتكون منها النسيج الاجتماعي في إفريقيا الشمالية، حيث لايوجد اختلاف يذكر بين القبيلة البربرية والمدينة الاسلامية، بين البدو والرحل، العرب والبربر. هذه الاستمرارية تتأكد حينما ندرس التنظيم الاجتماعي من الناحية لمورفولوجية (التنظيمات تتشكل من وحدات قرابية)، أو من الناحية التاريخية حيث نجد ارتباطا واضحا لهذه البنيات على مستوى إفريقيا الشمالية بكاملها مما يفند زيف التقسيمات السياسية الحالية التي تضع حدودا مصطنعة ووهمية داخل نفس الكيان الجغرافي والاجتماعي والتاريخي من خلال تقسيم افريقيا الشمالية إلى دول ودويلات…
    2- الخلاصة الثانية تتعلق بالتجذر التاريخي لكل التنظيمات القبلية في افريقيا الشمالية وانتمائها لمنظومة واحدة ، بما في ذلك القبائل النائية والتي تبدو معزولة وبعيدة عن كل احتكاك حضاري بحكم تواجدها في قمم الجبال أو في مناطق صعبة الولوج. كل “دشر” أو قبيلة لهما جذور تغوص في عمق التاريخ المغاربي دون استثناء وهو ما عبر عنه “جاك بيرك” ب”تاريخانية” التنظيمات القبلية في لإفريقيا الشمالية ضدا على ما كانت تدعيه النظرية التطورية في شقها الاستعماري التي كانت تعتبر هذه التنظيمات كبقايا ورواسب لمجتمع جامد يكتفي بإعادة ‘نتاج أنساقه والتموقع خارج التاريخ.
    لقد تمكن “جاك بيرك” من خلال استنطاق الوثائق المكتوبة، وأسماء الأماكن والأعلام، والمصادر الشفوية بما فيها من أساطير وتراث أدبي غير مكتوب، من إبراز الوعي التاريخي للقبائل وارتباطها بشكل جدلي مع محيطها الجغرافي والاجتماعي. إن البنيات الاجتماعية في افريقيا الشمالية ناتجة عن حركة ثنائية تربط الخاص والعام، المحلي والشمولي بحيث لاتوجد قبائل خارجة عن حركة التاريخ. لقد بين “جاك بيرك” من خلال النموذج المحلي الذي قام بدراسته ( ويتعلق الأمر بقبائل سكساوة في الأطلس الكبير)، أن هذه التجمعات التي تبدو معزولة في قمم ووديان الأطلس، لم تنقطع يوما عن انتمائها لكيان أوسع، جهوي وقطري وانها ساهمت في التاريخ من خلال تأثيرها على مجريات الأحداث خلال عشرة قرون منذ مساهمتها في المشروع الموحدي حتى اليوم دون أن تفقد خصوصيتها الثقافية والاجتماعية.
    3- تتميز التنظيمات الاجتماعية في افريقيا الشمالية بقدرتها على استيعاب مضامين ثقافية متعددة المصادر وإدماجها في النسق العام الذي تتشكل منه الهوية القبلية. إن القبائل التي شكلت النسيج الاجتماعي لإفريقيا الشمالية تتميز بحيويتها وتفتحها واستفادتها من كل ما هو جديد دون أن تفقد هويتها وتذوب في الآخر. وقد كتب “جاك بيرك” في هذا الصدد:
    “إن الأمور تحدث، وكأن هذه التنظيمات تسعى، من خلال تعويض داخلي إلى إعادة التوازن والمحافظة على استقلالها الذاتي. إن قبول هذه التنظيمات لما هو جديد، وخضوعها لأشكال العنف والاغراء لايتنافى أبدا مع تشبثها بقيمها الأساسية”.
    ونفهم من هذا القول أن الشخصية الجماعية تقوم بإعادة تأويل مستمر للعناصر الثقافية الواردة من الخارج وتكييفها مع الحاجيات المحلية وإعطائها طابعا محليا. هذه القدرة على استيعاب مضامين جديدة وإدماجها في النسق الثقافي المحلي هي إحدى المميزات الأساسية للتنظيمات الاجتماعية في الأطلس الكبير.

السبت، 18 مايو 2013

«التويزة» إطار اجتماعي ينظم موسم الحرث في المغرب



   
أسهم نظام التويزة في رفع مستوى المنتوج الزراعي (من المصدر)
تاريخ النشر: الإثنين 05 نوفمبر 2012
سكينة اصنيب (الرباط) - تشهد الضيعات الفلاحية بالمغرب هذه الأيام انطلاقة موسم الحرث الذي يستعد إليه المزارعون بالتخطيط والتعاون، واستعادة روح العمل التطوعي المعروف محليا بـ«التويزة»، والذي كان حاضرا بقوة في يوميات المجتمع المغربي وفي شتى المجالات، ويقوم على أساس التعاون للقيام بالأعمال الفلاحية مثل حرث الأرض والحصاد وجني المحصول، ويلجأ الفلاحون إلى نظام العمل الجماعي المتناوب من أجل إنهاء أعمالهم في أقرب وقت للاستعداد لموسم الأمطار أو للتفرغ لبيع المحصول.
دلالات اجتماعية
رغم التغيرات التي طرأت على المجتمع القروي في المغرب، وتطور الآلات الفلاحية لازال القرويون متمسكين بهذا النظام التعاوني الذي يعود بالنفع على الفرد والمجتمع، ويحيي القرويون من خلال حرصهم على نظام «التويزة» تقاليد عريقة توارثوها عبر الأجيال، ويعدون إلى الأذهان الصورة الجميلة للحياة القروية حين كان التعاون والتطوع لحرث الأرض وزراعتها، ثم جني المحصول السمة الغالبة على حياة الفلاحين.

ويحمل العمل التعاوني بنظام «التويزة» دلالات اجتماعية عميقة ويحقق أهدافا كثيرة، حيث إن هذه اللقاءات والاجتماعات العائلية تساعد على رأب الصدع وحل المشاكل وتقوي ترابط العائلات من خلال إتاحتها الفرصة للشباب للتعارف والزواج. كما إنها تحقق نوعا من الاكتفاء الذاتي للقرويين من خلال استغلال سواعدهم وطاقاتهم في العمل بجد وتطوير مزروعاتهم، والرفع من إنتاجية الضيعات بفضل تبادل الخبرات والآلات الفلاحية بين المزارعين. إلى ذلك، يقول المزارع محسن الدكالي، الذي يشارك ويستفيد من نظام «التويزة»، إن الأعمال الفلاحية تحتاج إلى عمل جماعي وعدد كبير من الأفراد حتى تتحقق النتائج المرجوة منها خاصة في ذروة الموسم حيث يسارع الجميع للانتهاء من عمله في فترة قصيرة حتى لا يخلف موعده مع نزول المطر فيكون قد انتهى من إعداد أرضه لاستقبال الغيث بحراثتها وزراعتها، أو جني المحصول في أوج الموسم وبيعه بالسعر المناسب.
وعن طريقة العمل بهذا النظام، يقول الدكالي «تتفق نحو سبع إلى عشر عائلات على نظام العمل التعاوني حيث يجتمع أفرادها من رجال ونساء وأطفال في ضيعة إحدى العائلات، ويتعاونون للقيام بالعمل وإنهائه في أقرب وقت، ثم ينتقلون إلى ضيعة عائلة جديدة وهكذا إلى أن ينتهي العمل في بساتين وحقول جميع العائلات المشاركة في نظام التويزة».
ميزة تضامنية
حول أهمية هذا النظام بالنسبة للقرويين، يقول الدكالي «القرويين يعرفون قيمة نظام العمل الجماعي فكل عائلة مهما بلغ عدد أفرادها تحتاج إلى الجهد الجماعي خاصة في بداية الموسم الزراعي، حيث عملية حرث الأرض وتنقيتها من الأعشاب الضارة، ووضع السماد أو في نهايته حين يحين موعد الحصاد وجني الثمار والذي يحتاج إلى جهد جماعي لتسويق المحصول بسعر جيد في أوج موسمه».
وعن فوائد هذا النظام على حياة القرويين، يوضح «يرتبط هذا النظام بالأشغال الفلاحية والمناسبات والمبادرات التي تتطلب التعاون والتضامن بين أبناء القرية مثل شق طريق، وإزاحة مخلفات الفيضانات، وتسييج الأراضي، وغرس الأشجار، وإقامة السدود، وحفر الآبار، وبناء الأقسام الدراسية، والوحدات الصحية».
ويشير إلى أنه بفضل تجتمع العائلات في هذا النظام تنشأ صداقات تدوم العمر كله، وتتجدد الصلة بين الأقارب وتتقوي الروابط بين العوائل والجيران، وفي أغلب الأحيان تختتم هذا المهرجان الاحتفالي بزيجات كان تجمع العوائل واختلاط بعضها بالآخر سببا في عقدها.
وحول أهمية هذا النظام في البناء الاجتماعي المغربي، يقول الباحث الاجتماعي سعيد بنمعمر إن نظام «التويزة» يعتبر مظهرا من مظاهر التضامن الاجتماعي المتوارث عبر الأجيال في القرى المغربية، وهو تقليد يفتخر به المغاربة، ويحرصون عليه شأنه شأن مجموعة من العادات الضاربة بجذورها في عمق التاريخ، والتي استطاعت أن تصمد رغم تطور العصر».
مبادئ وطقوس
ولا يزال التعاون والتآزر بين أبناء القرية سمة مميزة للعائلات الريفية سواء كانت أسرا ممتدة كبيرة الحجم تضم الأقارب والأعمام، أو أسرا نووية صغيرة، إلى ذلك، يقول بنمعمر إن نظام التويزة ساعد على تحسين الظروف المعيشية لسكان الأرياف من خلال تدارس أوضاعهم للتغلب على الجفاف، وضعف المحصول الزراعي، والاتفاق على تمويل صفقات شراء الأراضي والآلات والمعدات الزراعية.
ويضيف «تبدأ هذه العملية التضامنية حين يدعو صاحب الحاجة أقاربه وجيرانه ومعارفه لمساعدته في العمل بدون مقابل، أو حين تتفق مجموعة من العائلات على القيام بالأعمال الفلاحية بشكل جماعي ومتناوب لإنهاء العمل في حقولها وبساتينها بشكل دوري وفي وقت قياسي، وهذا النظام أشبه بالنظام العسكري له قواعد ومبادئ وطقوس، حيث تقضي العوائل يومها في العمل، ويتوجه الجميع رجالا ونساء منذ الصباح الباكر إلى الضيعات وينهمكون في العمل الشاق حتى المساء، ولا يفارقون البساتين لتناول الطعام أو أخذ قسط من الراحة، فمن أنهكه التعب يستريح في ظل شجرة إلى أن يحين وقت الغذاء، حيث يفترش الجميع الأرض ويتقاسمون الزاد، وتتوالى الأيام حتى ينتهي العمل».
ويوضح أن من مبادئ نظام التويزة مساعدة الفقير والمحتاج فالمتطوعون لهم الأولوية في نيل الزكاة وأخذ قسط من المحصول، لافتا إلى أن المشاركين في نظام التويزة يتقاسمون الفرحة والنشاط والعمل ويحولون فترات عملهم إلى احتفال من خلال قراءة الأشعار وإنشاد الأغاني التراثية لتمضية الوقت. وعلاوة على دوره البارز تعزيز الروابط الأسرية والتكافل الاجتماعي، أكدت عدة دراسات حديثة أن نظام «التويزة» حقق نتائج مهمة في الرفع مستوى المنتوج الزراعي وتسويقه في ظروف جيدة، وتحسين معيشة القرويين، وزيادة خبرتهم في مجال الري والعناية بالمزروعات وتجفيف الخضراوات.

اقرأ المزيد : المقال كامل - «التويزة» إطار اجتماعي ينظم موسم الحرث في المغرب - جريدة الاتحاد http://www.alittihad.ae/details.php?id=106059&y=2012&article=full#ixzz2TgARmvRv

بحث حول التويزة



التويــــزة

قد يتساءل البعض ما معنى هاته الكلمة ألا وهي

التويـــزة

هي كلمة مغربية أمازيغية تعني


التضامن و التعاضد

التويزة عند الأمازيغ ليست مجرد كلمة فهي قصة طويلة امتدت عبر
قرون طويلة في نواحي مدينة الحسيمة شرق شمال المغرب.

هناك أجمل و أروع مشاهد التضامن و التعاضد و التعاون
حيث لديهم عادة تسمى التويزة و هي عادة لا زالت قائمة ليومنا هذا
و تتجلى في إذا كان شخص ما يحتاج إلى مساعدة و لا فرق أن يكون
مسلما أو يهوديا أو مسيحيا أو عربيا فالتويزة هي لمساعدة الإنسان
باعتباره إنسانا ..
و تتجلى هاته المساعدة في أي شكل من الأشكال في شتى المجالات
مثلا الحصاد ... صباغة منزل ... حرث ...
المساعدة في الإعداد لزفاف أو غيره من المناسبات الكبيرة
في أي مجال متاح المساعدة فيه..

فما عليه إلا أن يعلن أنه ستكون عنده التويزة و أن يعلن الساعة
و المكان و عدد الأشخاص الذين يحتاج إليهم، حتى ترى أفواجا
من الأهالي و الجيران يتقدمون للمساعدة ابتغاء مرضاة الله و تجسيد
صور التضامن التي أوصى بها نبينا محمد عليه الصلاة و السلام و التي
هي واجب لا يجب التأخر عنه عند الأمازيغ نساءا و رجالا في
ملحمة رائعة جدا ...
كل يقوم بواجبه و حسب خبرته بكل فرح و سرور
أما النساء فيقمن بمهامهن التي يأتين من أجلها في جو مرح و يقمن
بترديد أهازيج أمازيغية، و هناك من ينظمن الكلام و الشعر الأمازيغي
بما يسمى إيزران و يرددن على بعضهن البعض بالشعر و المعاني
وكذلك بين الرجال..

و يبقى لديهم واجب تلبية التويزة خصوصا لشخص لباها لك
سابقا و من العيب أن تتأخر عن مساعدته
و أكيد صاحب التويزة ما عليه سوى المأكل و المشرب فذاك
هو جزاء المساعدة التي قدمت له.

و في نهاية المساء يعود كل منهم إلى بيته من أجل تغيير الملابس
و الاستحمام و العودة مجددا لتمضية الأمسية عند صاحب التويزة
و يكون العشاء على حسابه تكريما و شكرا لهم على المساعدة
و النساء في غرفة و الرجال في غرفة أخرى و يقضون الأمسية
حتى الفجر بعدها ينصرف كل إلى سبيله.

و لوقع التويزة على نفوسهم مثل وقع و فرحة العيد
حيث تخلق جوا من المحبة و تنشر روح المودة و تنفر التباغض
و كم صالحت و ألفت بين قلوب ..

فما أحوجنا كلنا لتويزة في زمننا هذا الذي أصبح زمن المصالح
و زمن أنا و بعدي الطوفان .


أحببت أن أشارككم و أعرفكم على هذه العادة المغربيةمن مدينة الحسيمةأتمنى أن تقربكم منها
" لكم حب العنقاء "
http://www.x7x4.com/vb/showthread.php?t=57748

الخميس، 2 مايو 2013

Interaction social التفاعل الإجتماعي



التفاعل  الإجتماعي

مقدمـــــــــــــــــــة :
إن السوسيولوجيا كمقاربة لواقع الناس و المجتمعات و كمحاولة جادة لإضفاء معنى ما على فعلهم، و لتفسير التحولات المستمرة، تقوم بذلك من خلال تعدد زوايا النظر و المناهج و أليات البحث، فكل تحليل سوسيولوجي يترجم واجهة ما أو زاوية نظر ، دون أن يعني ذلك أنه التحليل الوحيد و الأوحد، لأن كل ظاهرة أو فعل اجتماعي يحتل معاني مختلفة و تفسيرات سوسيولوجية متعددة . إن كل وجهة نظر سوسيولوجية تقترح قراءتها للإجتماعي دون أن تتناقض بالضرورة مع المحاولات السوسيولوجية الأخرى، لأن كل وجهة نظر تحبذ الإعتماد على معطيات خاصة بها دون أخرى، كما أنها تركز في تحليلها على دور الفاعل – الفرد و ليس على النظام – المجتمع ، لكل ذلك فإن كل تحليل سوسيولوجي هو تأويل للإجتماعي.
يتحقق الوجود والشرط الإنساني في عالم معقد من المعاني والقيم، ففي كل لحظة هناك فعل و رد فعل، أو إحساس فردي أو جماعي، وبالتالي فالسوسيولوجيا تمارس معرفتها على الأشياء الثابتة إلى هذا الحد أو ذاك، كما هو شأن بعض العلوم الأخرى، بل تمارسها على العلاقات بين الناس، هؤلاء الذين هم أنفسهم لا يدركون بشكل تام أسباب فعلهم و نتائجه. إنها تطبق على عالم متغير و هي نفسها تساهم في هذا التغيير المستمر من خلال الإستجابات الفكرية والعلمية التي تقوم بها ، و ليس على عالم طبيعي ثابت غير مكترث للمعرفة والخطابات التي تنتج حولها .
إن الفاعلين الأفراد أصبحوا أكثر حساسية و اهتماما بالخطابات النقدية والتحاليل التي يكونون موضوعا لها، وبالتالي صارت العلوم الإجتماعية اليوم ميدان وعي الذات، الشيء الذي أفضى إلى علاقة تواطئ معقدة و مشبوهة بين السوسيولوجي والفاعل، و هي مصدر الصراع والسجال داخل الحقل السوسيولوجي، فكل نظرية تعني رؤية خاصة للعالم، كما أنها تعتمد على منظومة أخلاقية ضمنية خاصة تغذيها, و للإجابة على السؤال المؤرق التالي : هل المجتمع هو الذي ينتج الفرد أم أن الفرد هو الذي يؤثر في المجتمع؟.. نجد أنفسنا إزاء اتجاهين كبيرين اتسم بهما تاريخ السوسيولوجيا منذ البدايات الأولى لظهورها و ظهور تجمعات حضرية كبرى إلى الآن، بحيث أن كل فريق يحبذ منظوره و خصوصياته و طرقه المنهجية للإنتصار لتصوره الخاص، سواء بالتركيز على الفرد الفاعل من جهة، أو على المجتمع – النظام في بناء المعنى من جهة أخرى.
إن التصور السوسيولوجي يجد نفسه طيلة تاريخه منقسما بين الفاعل و بين الدلالة والبنية، و بين الذاتية والموضوعية، وبين الحرية والحتمية… وكل هذه الثنائيات تحيل إلى توجهين نظريين كبيرين: سوسيولوجية الفهم و سوسيولوجية التفسير.
إن التمييز بين هذين المنظورين السوسيولوجيين يعكس التوثر والصراع الذي يعتمل في حقل السوسيولوجيا في اختيارات منهجية و نظرية مختلفة تتعلق بكل باحث سوسيولوجي على حدة حسب القيم التي تؤسس تصوره للحياة في المجتمع.
تحيل سوسيولوجيا التفسير إلى المنظور الدوركايمي الذي يؤكد على أن الوقائع الإجتماعية هي أشياء، و يستبعد قضية المعنى، و يجعلها ثانوية، كما يجعل الفرد خاضعا لجملة من الإكراهات ، بينما سوسيولوجيا الفهم تحيل على التصور الفيبري الذي يدعو إلى الإهتمام أكثر بالدلالات المعيشية للأفراد والغايات الإجتماعية للفاعل – الفرد كمنطلقات لتأويل الوقائع والظواهر الإجتماعية ، و هو ما تبناه جورج زيمل عندما أكد على أهمية العلاقات فيما بين الأفراد في بناء الموضوع السوسيولوجي.
إن التفاعلية الرمزية تعتبر شكلا أو وجها من أوجه سوسيولوجيا الفهم، و تنتمي إلى السوسيولوجيا الأمريكية ، و يعتبر جورج زيمل هو من أرسى جذورها الأولى ، و جاءت إسهامات الرواد الأوائل كمدرسة شيكاغو الذين تتلمذوا على يد زيمل ببرلين للقيام بالبناءات والصياغات الأولى لهذا المنظور، خاصة كل من روبير إرزابارك، و وليام طوماس، كما يعود الفضل لجورج ميد في إرساء الصرح النظري لهذا التصور، والذي أثر بشكل كبير في العديد من الباحثين اللاحقين لها، كما أن هربرت بلومر استطاع التأثير و بناء اتجاه فكري اتضحت معالمه أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، حيث لم يكن هذا الإتجاه متجانسا و تشكل على شكل حساسيات نظرية و علمية مختلفة لكنها متقاربةمن حيث المقاربة والمشروع السوسيولوجي، و منذ ذلك الحين استقطبت التفاعلية الرمزية أعلاما بارزة في تاريخ السوسيولوجيا الأمريكية من بينهم :
Becker Kuttn , Shibutani , A . strouss , E.C. hugues , R.H.Tunner , Groufkel Shuts
1- الأطر المرجعية للتفاعلية :
أ_البراغماتية.
ب_المدرسة السلوكية.
ج_نظرية الفعل الإجتماعي.
تقديـــــــــــــــــم :
إن التفاعلية كاتجاه و نزوع فكري في مقاربة الظواهر الإجتماعية تتأسس من خلال التأثيرات القوية التي مارسها المذهب البراغماتي في الفلسفة من خلال مساهمة فلاسفة نادي كومبردج الميتافيزيقي خاصة منهم شارل برون و وليام جيمس العضوان في هذا النادي، و إسهامات احد مؤسسي مدرسة شيكاغو – فرع الفلسفة جون ديبي .
أ_البراغماتية :
تعني كمصطلح مشتق ن اليونانية الفعل، و هي نظرية امبريقية للمعرفة، إن المعرفة، كل المعرفة بالنسبة للبراغماتيين هي ناتجة عن التجربة الحياتية للأفراد، و لذلك فإنها مؤقتة و قابلة للتغيير و التصحيح ، على اعتبار أنها مرتبطة بالمعيش و بتجربة الأفراد في الحياة، و صدقيتها من عدمه تقاس من خلال نتائجها على الواقع، بمعنى أن السؤال الذي تطرحه يجب التحقق من صدقيته أو عدمها من خلال الوقائع.
و يرى البراغماتيون أنه يجب التعاطي مع الواقع كما يبدو لنا في سطحيته، لأن الأشياء هي كما تبدو لنا و ليس لها ما تخفيه علينا وراء مظهرها، لذلك يقترح وليام جيمس و شيلرمفهوم الإشباع للحديث عن حالة الفرد عندما تكون نتيجة فعله مطابقة للحدوس التي كانت لديه ..يقول وليام جيمس "قبل كل شيء يجب أن توجهنا فكرة الحقيقة و تقودنا إلى هذه الواقعة عوض تلك، و يجب فيما بعد على هذا التوجيه وهذه القيادة المشار إليهما أن يحصل على الإشباع من خلال النتائج المحققة…ما يوجد واقعيا ليس الأشياء ولكن الأشياء فس طور التحقق" .. بمعنى أنه لا يتعلق الأمر بالبحث عن مصدر الأفكاروالمعارف، بل بملاحظة أثرها الإجرائي أو التطبيقي على الأشياء، إن المعارف التي نكونها في حياتنا اليومية و تساعدنا في إطار الحراك الذي يحدث في علاقتنا الإجتماعية ليست معارف خاطئة نقوم بتصحيحها، كما انها ليست أحكاما مسبقة ، بل إنها معارف مطابقة للفعل و ملازمة له من الأفضل حصرها و فهمها. إن التجربة هي بداية و نهاية كل معرفة، وخلاصة التصور البراغماتي هي أن العالم لا يوجد إلا من خلال التأويلات التي يقوم بها الأفراد وليس معطى مسبقا، كما أن البراغماتية هي منهج و طريقة لولوج المعرفة والوعي الذي يتحقق لدى الأفراد عن العالم الذي يعيشون فيه، والنظرية هي نمط أو شكل لتوجيه السلوك والفعل الفردي ، بحيث أن هذا التوجيه يطرح مشكل دافعية الفعل والسلوك وطريقة إنجازه او القيام به ، ومضمونه وطبيعته الأخلاقية.
ب-النظرية السلوكية :
قامت السلوكية في علم النفس على البراغماتية، وقد تأسست على يد واطسون سنة 1913 كمحاولة لإضفاء طابع موضوعي على علم النفس و ربطه أكثر بالعلوم الطبيعية، و قد اعتمدت السلوكية على المادة التجريبية التي قدمها Taurnday.K والتي توافرت عن طريق الأبحاث التي قام بها على سلوك الحيوانات ، و تعتبر السلوكية استمرارا للإتجاه الميكانيكي في علم النفس الذي يرد الظواهر السيكولوجية إلى استجابات الكائن العضوي ، و يطابق بين الشعور والسلوك، و أوضحت أعمال Watson رفضه استخدام مفاهيم الوعي والإرادة التي يصعب دراستها على ضوء السلوك الملاحظ,, و تعتمد السلوكية على التعريفات الإجرائية و ترفض الإستعانة بالإستنباط أو الخبرة الذاتية في دراسة سلوك الإنسان باعتبارها أدوات غير علمية ، و هناك فريق متطرف من السلوكيين يركز على السلوك الظاهر و يستبعد كل المفاهيم التي تشير إلى حالات عقلية مثل القيمة والإعتقاد ، أو المستويات المجردة مثل الثقافة و النظم الإجتماعية ، في الثلاثينيات ظهر السلوكيون الشرطيون أو المحدثون ، و قد تطورت و نمت نظرياتهم بتأثير تعاليم بافالوف ، و يرفض الإتجاه السلوكي المتطرف الغالبية العظمى من علماء الإجتماع ، إلا أن السلوكية المعتدلة أو السلوكيون الشرطيون الذين استفادوا من أدوات البحث الحديثة أحدثوا تأثيرات ملموسة في تطور علم الإجتماع ذاته.
ج-نظرية الفعل الإجتماعي :
تعتمد نظرية الفعل الإجتماعي على قضية أساسية فيما يتعلق بتفسير و تأويل السلوك الإنساني ألا و هي أن كل سلوك فهو سلوك هادف، أي أن الفاعل الإجتماعي لبلوغ هدف أو غاية ما فإنه يختار عدة وسائل و أنماط سلوك متعارف عليها اجتماعيا للوصول إلى غياته، حيث يتضمن الفعل اختيار الفاعل لعدد محدود من الوسائل التي تحقق هدفه دون وسائل أخرى ، و بذلك يحصل التمايز بين الوسائل والغايات، و لا يقتصر الفعل الإجتماعي ، و لكل فاعل اجتماعي طريقته الخاصة في معرفة أساليب السلوك و سياقاتها الإجتماعية.
يذهب ماكس فيبر في كتابه " نظرية التنظيم الإجتماعي و الإقتصادي" إلى أن علم الإجتماع هو ذلك العلم الذي يحاول القيام بتفسير و فهم السلوك أو الفعل الإجتماعي لتفسير سائر الظواهر الإجتماعية، أي أن علم الإجتماع عنده يدور في إطار سيكولوجي لأن الفعل الإجتماعي يتضمن كل مظاهر السلوك الإنساني، بما فيها الفردي، فكل سلوك إنساني هو ببساطة سلوك هادف، و من تم يكون للإنسان - الفاعل أهدافه المحددة و يكون لسلوكه معنى يستنبطه الفاعل الإجتماعي ، و يكون معنى ذاتيا متطابقا مع المعنى السائد في عقل الآخرين – المجتمع، كما يعتبر ماكس فيبر أن الفعل الإجتماعي فعل عقلي لأن الفعل هو سلوك موجه نحو هدف محدد، أي أنه هادف و غير غامض، و بالتالي فهو فعل عقلي، و لأنه يستند لمجموعة من القيم الموضوعية المتعارف عليها اجتماعيا والتي تستند بدورها على صور اجتماعية واضحة و منطقية، و يميز فيبر بين الأفعال الإجتماعية المرتبطة بالأفراد فيما بينهم، و بين الأفعال اللااجتماعية المتعلقة بسلوك الأفراد تجاه المادة او الموجودات الطبيعية، أي أن الفعل الإجتماعي يتحقق فقط عندما يحصل احتكاك الإنسان بالآخرين يسميه فيبر بالإحتكاك الإجتماعي.
كما أنه يميز بصدد أشكال الفعل الإجتماعي بين الأفعال الإجتماعية المتصلة بالأفراد كخصام شخصين، و تلك المتصلة بالجماعات و الجموع الحاشدة ، حيث أن السلوك – الفعل لا يصدر عن الفرد – الإنسان كإنسان، بل عن الفعل الإجتماعي الذي يكتسبه الفرد بالتقليد و الإلتحام في الجماعة، ويسمسه فعل عام – جمعي .
المفاهيم الأساسية للتفاعلية :
أ-الفرد "الأنا" كفاعل :
رغم أن الفرد لا يكون دائما شفافا في أفعاله فإنه لا يكون أعمى في ما يفعله، أي أنه يعي جيدا ما يقوم به ، و هو ما تأخذه التفاعلية بعين الإعتبار عندما تهتم به كفاعل، كما أنها تهتم بالشروط الإجتماعية و المحيطة التي يتأطر فيها فعله الإجتماعي، إن الفرد بالنسبة لها ليس ذرة طاقية أحادية تقرر وحدها في تصرفاتها و ممارساتها، كما انه ليس مخلوقا لا حول له في مواجهة مجتمع يملي عليه تصرفاته و سلوكه، إن كل فعل يتم إنجازه يأخذ بعين الإعتبار ردود فعل الآخرين و تقديراتهم لهذا الفعل و تفسيرهم له، إنه على الأقل خاضع لفهم و تفسير لحد أدنى يتيح التقويم والتواصل ، و حسب P.Wortier فإن التفاهم بين الأعضاء المتفاعلين هو شرط الأنشطة المتبادلة ، و كل رابط اجتماعي أو علاقة اجتماعية يتطلب عملية التأثير و توجيه الواحد للأخر.
ب-البعد الرمزي :
تتعدد الإشارات في سلوك الفاعلين بدءا منالخطاب/اللغة إلى الحركات الجسدية ، إلى الحد الذي يصبح فيه كل هذا اعتياديا، بل إن كل الأفراد يكتسبونه و يستعملونه في حياتهم اليومية و في تفاعلهم الإجتماعي مع الآخرين، إن نسيجا من العناصر المكتسبة تغذي باستمرار الروابط الإجتماعية ، و كل فاعل يجهل هذه العناصر يكون فإنه يكون في مواجهة مواقف و سلوكات قد لا يفهمها ، مما يتطلب منه القيام بمجهود فكري للإقتراب من الحس المشترك الذي يسمح بتفسير خطاب و سلوك الآخرين و استيعابه ثم التفاعل معه.
إن الاخرين عندما يرسلون إلينا إشارات أو علامات لفظية أو جسدية ما فإنهم يحيلون على البعد الدلالي و بالتالي الرمزي، فالإنسان في تفاعله مع العالم يجد نفسه أمام جدار سميك من الدلالات التي يستعملها للتحرك بسهولة و يسر، لذلك فالعلاقة مع العالم مشروطة بالبعد الرمزي ، و يتوفر الفاعل على ادوات مرجعية اجتماعية و ثقافية تساعد في عملية التأويل التي يقوم بها في تفاعله مع الآخر/الآخرين.
إن الدلالات المشتركة بين جماعة من الأفراد تحدد مجال و طبيعة بعض المواقف والسلوكات كما انها ترتب الأشياء وفق مجموعات محددة يتقاسم هؤلاء الأفراد شفرات معرفتها و فهمها ، و حتى عندما يتعلق الأمر بدلالة واقعة ترتبط بسياق محدد من أجل فهمها فإن كل فرد يكتسب منذ صغره القدرة على المرور من السياق العام إلى السياق الخاص قصد إسناد الدلالة الملائمة لهذه الواقعة، إنه يلتجئ في ذلك إلى مجموع المعارف والأفعال والسلوكات التي اكتسبها في جماعة المرجعية التي يرتبط بها والتي تغذي باستمرار نظرته و تصوره للعالم و للواقع.
إن الجماعة التي ينتمي إليها و ثقافتها تعد موردا أساسيا في مواجهة العالم الذي يحيط بنا، كما أنها تعتبر الأرضية المرجعية التي نستمد منها معنى الدلالات الكثيرة والعلامات التي نصادفها في وجودنا الإجتماعي و في تفاعلنا مع الاخرين.
ج-مفهوم التفاعل :
إن التفاعلية على الرغم من أخذها للفرد كقاعدة في مقاربة الوقائع والظواهر الإج، إلا أنها لا تأخذه كمبدإ في التحليل، بل أنها على مستوى التحليل تأخذ الفرد في فعله المتبادل مع الآخرين..إن التفاعل هو حقل للتاثير المتبادل لأن الإجتماعي لا يوجد كمعطى سابق عن الأفراد/ الفاعلين، بل إن الإجتماعي حسب جورج زيمل هو شكل مستمر أو انه حسب ستروس نظام متفاوض عليه.
إن التفاعلية تعتبر المجتمع كبنية حية في تشكل مستمر، و يعتبر زيمل بأنه يوجد هناك مجتمع بالمعنى الواسع للكلمة أينما وجد فعل متبادل للأفراد، و يمكن ان نلاحظ المستويات و الكيفيات المختلفة للتجمعات من التجمع العادي لشخاص سيذهبون جماعة في نزهة، إلى الوحدة الحميمية لعائلة أو عشيرة من القرون الوسطى، و يظهر بالنسبة للرؤية التي تقتحم عمق الأشياء أن الظواهر التي تشكل وحدة جديدة فوق الأفراد و مستقلة عنهم يمكن فهمها من خلال الفعال المتبادلة التي اشترك فيها هؤلاء الأفراد..إن التفاعلات بين الأفراد ليست عمليات ميكانيكية يتم ربطها بالأدوار افجتماعية للأفراد أو وضعياتهم، إن الحديث عن التفاعل بين الطبيب والمريض ، المحامي و الزبون، هي علاقة تتحيل فقط على افطار الشكلي للتفاعل، ولاتعكس قط عملية التفاعل و مضمونها وغناها أو كيف يلعب الفاعل دوره، و ما نتائج فعله، لأن التفاعل بين شخصين أو اكثر لا يمكن توقع نتائجه، بل إن أولئك الأشخاص انفسهم لا يعرفون مسبقا مراحل علاقة تفاعلهم، وبالتالي فهي تتأسس على إطار من الإنتظارات النتبادلة.
كما ان الفاعل لا يشمل الفاعلين الحاضرين في لحظة الفعل فقط، بل عناصر أخرى غير مرئية ساعدت أو ساهمت في صياغة علاقة أحد الفاعلين أو كلهم مع العالم، إن الشخص الفاعل ينبني اجتماعيا في سلوكنا اليومي و أفعالنا، يتمثل الآخرين بشكل ملموس مباشر أو ضمنيا من خلال حضورهم المعنوي.
التفاعل الإجتماعي هو عملية تشكل مستمر و ليست استجابة لمعايير وقواعد يحكمها الفاعلون و تملي عليهم سلوكهم و مواقفهم، إن الانا في إصلاح و تاويل و و إعادة بناء مستمرن فيتحدث ستروس عن عملية التراكم و نمو النا من خلال التفاعل ، و التفاعل لا يتم من خلال اللغة و الخطاب فقط، بل يتعلق كذلك برمزية الحركات الجسدية المرافقة للكلام أو بدونه، و حسب جوفمان لو استطاع الفاعل التوقف عن الكلام فإنه لا يستطيع ابدا التوقف عن التواصل عبر لهجة الجسد .
د-البراديغم التأويلي :
ينطلق الفاعلون في نموذجهم أو براديغمهم التأويلي من أن القواعد والمعايير غير سابقة البثة عن الفعل، بل إن الفاعلين هم من يقومون بإبرازها من خلال تحديدهم للوضعية التي يكونون فيها، كما أن السياق ليس أبدا عنصر إكراه خارجي يحدد الفعل بل إنه إطار للفعل يتم تأويله باستمرار.
و على عكس البراديغم المعياري – الشمولي الذي يغلب في تفسير السلوك والفعل الإنساني، احترام القواعد والمعايير، فإن التفاعليين يؤكدون علـــــــــــى أن الفاعلين لا يترددون في استعمال هذه المعايير و القواعد حسب حاجياتهم و أهدافهم، و يعطي غارفلز مثال للتفاوض على السعر في مجتمع يكون فيه الثمن قارا و محددا مؤسساتيا ، و يقول أن سبب عدم التفاوض على السعر لا يتعلق بتمثل واستبطان الفرد- الفاعل لمعيار السعر القار، بل إن السبب يرجع قبل كل شيء إلى عملية توقع لانعكاسات سلبية لعملية التفاوض قد تجعله في وضعية الإحساس بالحرج.
تعج الحياة اليومية بمواقف وسلوكات لانهائية، و تبدو المعايير والقواعد الإجتماعية كمؤشرات لانهائية، و تبدو هذه القواعد الإجتماعية كمؤشرات تساهم في إنتاج و تحديد هذه السلوكات والمواقف المختلفة حسب الفاعلين والظروف المحيطة به، و لمقاربة هذه السلوكات و المواقف فإن مركز التحليل يجب أن يتغير، فعوض أن نقوم حسب التفاعليين بوصف القواعد والمعايير لاستنباط واستنتاج السلوكات المترتبة عنها ، فإننا على العكس من ذلك تماما يجب الإنطلاق من الإستعمالات يوظف فيها الفاعل أو الفاعلون هذه القواعد والمعايير ليتسنى لنا فهم سلوكه.
إن التنشئة الإجتماعية تؤهل الفاعل وتجعله يكتسب و يستبطن قائمة كبيرة من الأدوار يستعملها بذكاء حسب الظروف و السياقات، و هذه الدوار و الوضعيات تترك هامشا لتقدير استعمالها الذي يخضع للكفاءة التأويلية و البراغماتية التي تجعل الفاعل ينتبه ليبقى دائما منسجما في نظر الآخرين و واضحا في أفعاله.
إن الواقع الإجتماعي هو بناء و إعادة بناء مستمر و ليس تكرارا لنموذج واحد، إن النموذج نفسه ليس مهما، المهم هو عملية تحيينهActualisation في سياقه الخاص.
أما بالنسبة للسوسيولوجيا المعتمدة للبراديغم المعياري فإن المعيار و القواعد هي إنذارات خارجية يستوعبها الأفراد بالتعلم والتنشئة الإجتماعية و يستبطنونها على اعتبار أنهم مجرد فاعلين لإعادة الإنتاج الإجتماعي، و بذلك يصبح تفسيرهم للسلوك الإجتماعي والمواقف الفردية معتمدا على النموذج الإستبطاني المعتمد في العلوم الطبيعية، أي أن الفرد الموجود في وضعية "أ" سيتصرف منطقيا بالإعتماد على الدور "ب".
لقد عبر النموذج التفسيري المعياري عن محدودية خاصة مع "تالكوت بارسونز"، لأن استبطان و اعتماد القواعد والمعايير لم يكن أبدا موحدا بين كل الفاعلين بل هناك العديد منهم يتصرفون في حياتهم دون إعطائها اي اعتبار، كما أنه لا يوجد أي إكراه اجتماعي أو سوسيولوجي يفرض الإلتزام بالقواعد والمعايير، كل ما هناك أن الأفراد في قراراتهم الخاصة في موقف أو سلوك ما مطالبون بالتطابق والإنسجام مع هذه المعايير ، و ما دام أن هذه المعايير والقواعد لا تكون موضوع تأويل حسب السياق و شروطه عندما يكون الفاعل بصدد اتخاذ قراره، فإن المهمة الأساسية والعلمية التي يقوم بها الفاعل في هذه الوضعية هي تحديد الخطوط العريضة للأفعال المشتركة في هذه الحالة، واختيار إحداها تتطابق و نماذج الفعل الذي يقوم بهالآخرون في نفس هذه الحالة من خلال ما يسميه الإثنوميتودولوجيون البحث التوثيقي.
الأنـــــــــــــــــــــــــــــــــا :
لقد شغل الأنا التفكير السوسيولوجي الأمريكي منذ البراغماتيين والتحليلات السوسيولوجية لجورج هربرت ميد، و تعتبر الأنا حجر الزاوية بالنسبة للسوسيولوجيين التفاعليين في بناء نظريتهم و مشروعهم السوسيولوجي لأن الأنا يبنى اجتماعيا و هو نتاج التاريخ الشخصي المتسم بكل الوضعيات والمواقف والأدوار المختلفة التي مر منها الفرد في حياته، اما أنه في نفس الوقت نتيجة مؤقتة لهذه التجربة المكتسبة التي تغتني باستمرار.
و تعد اللغة المادة الاولية التي من خلالها يعي الأنا نفسه و ينفتح على الأخرين، كما أنها الوسيلة الملائمة للدخول في علائق وروابط بغض النظر عن الإيحاءات والإيماءات الدلالية التي يوظفها الجسد و تدخل في لإطار البعد الرمزي إلى جانب اللغة – الخطاب.
إن الأنا هو مكان الرقابة في إطار التفكير والعقل، و مجال المداولة الحميمية و الذكاء الإجرائي، إنه الآمر لاتخاذ موقف أو قرار تجاه الأوضاع المختلفة لأنه يعد مركز المعنى الذي تنبثق منه العلاقة بين الفاعل والعالم المحيط به.
لكن، لا يجب خلط او تشبيه الأنا بكائن أو تنظيم أو حتى بانه هيأة أخلاقية ، بل إنه شكل من الوعي الموجه للأفعال والممارسات والأفكار لدى الأفراد، إن الأنا منقسم و موزع اجتماعيا إلى ما لا نهاية، والأفراد الفاعلون يكونون في رحلة دائما لتقمص الأنا حسب الوضعيات والسياقات المختلفة.
جورج هربرت ميد :
ينطلق من مفهوم الأخر المعمم L’AUTRUI GENERALISE الذي يربطه بكل جماعة منظمة أو جماعة اجتماعية ، و يجعله المحدد الأساسي الذي يعطي للفرد وحدة الجماعة – وحدة الأنا UNITE DE SOI على اعتبار أن موقف الآخر المعمم هو موقف الجماعة، و يعطي مثالا عن ذلك بالفريق الرياضي، و يكتمل أنا الفرد حسب ميد عندما ياخذ بعين الإعتبار مواقف الآخرين تجاههم و تجاه أنفسهم فقط، و بإدماج كل ذلك في تجربته الشخصية، بل إن الشرط الأساسي لتحقيق الأنا واكتمالها هو عند تبني مواقف الجماعة التي ينتمي إليها ويشارك في انشطتها الإجتماعية المشتركة و في كل الأنشطة والقضايا التي تهمه، و يعطينا ميد مثال الحزب السياسي كشكل اجتماعي جماعي منظم تتداخل فيه مواقف الفرد والجماعة – الحزبن وتصبح وحدة أي أنـــا مكتملة .
إن ميد يؤكد على الأصل الإجتماعي للفعل، فالإنسان ليس كائنا اجتماعيا فحسب، بل إن وجوده رهين بالآخر / المجتمع، فالكائن الحي مضطر للحفاظ على بقائه أن يكون امتدادا لبيئته و متعاضدا مع الآخرين. والفرد لا يعرف اناه الخاصة إلا بتيني موقف الجماعة التي ينتمي إليها، فهو مضطر ليكون كائنا اجتماعيا أن يكون هو نفسه، و بذلك فإن ميد يرفض الموقف القائل بأن الوعي الفردي سابق عن التنظيم الإجتماعي، و الأنا بالنسبة له قبل كل شيء كائن اجتماعي يتميز بالقدرة على الإنتاج والإبداع والتقليد والمحاكاة ، و افعاله و سلوكه لا معنى لها خارج المحيط الإجتماعي، إن الوعي بالنسبة له مصاحب للفعل والسلوك، فيقول : " إننا واعون حينما يعطي ما نقوم به توجها – غاية- هدفا لما نقوم به.
و يصبح العقل الفردي شخصا، ذاتا، عندما يصبح موضوعا خاصا للفكر أو الوعي،أن يكون الفرد هو ذاته " أناه" ليس معناه التميز عن الآخرين، بل النظر إلى الذات من وجهة نظر الآخرين التي ليست وجهة نظر هذا او ذاك، بل هي وجهة نظر الآخر المعمم.. و ظهور الذات والأنا ينتج عنه تحويل المجتمع ماديا و اخلاقيا، فبواسطة العقل يعيد الشيء بناء العالم المادي، و بحضور الآشخاص/الآخرين يكف المجتمع أن يكون تجمعا لوحدات بيولوجية ليصير جماعة أخلاقية اجتماعية.
                               
بالتوفيق والتفوق