ماالسوسيولوجيا القروية ؟ ما حدودها و امتداداتها المعرفية ؟ ما طموحاتها القصوى ؟ماذا عن الرواد و بدايات التأسيس و الشرعنة العلمية ؟ و ما الذي نتغياه فعلا من هذه المعرفة التي تعلن الانتماء المجالي لكل ما هو قروي ؟ و فيما يفيد الدرس السوسيولوجي القروي تحديدا ؟
ربما تجدهذه الأسئلة لنفسها أكثر من مبرر منهجي في مفتتح هذا القول ، ليس فقط لأنها تضعناعلى طريق التساؤل النقدي ، بل لأنها تعبد ذات الطريق نحو مقدمات تمهيدية للاقترابأكثر من مطامح و رهانات السوسيولوجيا القروية .
فالمطمح المعرفي لهذا القول لنيكون غير بحث أولي عن بعض المداخل المؤدية إلى دوائر السوسيولوجيا القروية ، و علىسبيل التمهيد قبلا و بعدا ، ينفرض علينا مساءلة البدء السوسيولوجي القروي ، ومحاورة انشغاله العلمي و رواده أملا في الاقتراب أكثر من ماهية السوسيولوجياالقروية ، و اعتبارا لذلك كله سيكون الحفر الأركيولوجي التاريخي آلية أساســية ضمنآليات اشتــغالنا على هــكذا موضوع ، فالسوسيولوجيا الـــقروية في عــمقها ومشروعها المعرفي تجد ذاتها مدعوة بل مضطرة في كثير من الأحايين إلى استلهام مناهجالتاريخ و الجغرافيا و غير قليل من نتائج العلوم الأخرى .
فإلى البدء إذن...
البداية و الامتداد
هل يمكن القول بأن السوسيولوجيا القروية سابقة علىالسوسيولوجيا العامة ؟ فما دام التفكير الاجتماعي غارق في القدم و لا يقف بالمرةعند حدود أوغست كونت(auguste comte) ، فإن أول تفكير أو تفكر في " الاجتماعي " كانمتمحورا حول الظواهر الاجتماعية في سياقها الزراعي و القروي ، على اعتبار أن القريةسابقة على المدينة و أن نشاطات الصيد و الزراعة سابقة أيضا على مختلف النشاطاتالصناعية الأخرى التي امتهنها الإنسان بعدا .
لكن و بالرغم من عراقة التفكيرالسوسيولوجي القروي ، فإن البداية العلمية مع الظهور كفرع تخصصي ضمن خارطةالسوسيولوجيا العامة تعود بالأساس إلى منتصف القرن الماضي، بتواز تام مع احتدامالنقاش حول إشكالات التهيئة و الجهوية و ضبط المجال . فبعد الحرب العالمية الثانيةصار " الاجتماعي " أكثر تضررا ، و كان من الضروري أن تتضافر الجهود العلمية و فيمختلف المجالات من أجل تجاوز ذلك الوضع الكارثي .
و إذا كان القرن الثامن عشرقد تميز بالانشغال العميق من قبل رواد الفكر السوسيولوجي بشرعنة الحضور السوسيولوجيو تأكيد الحاجة إلى مقارباته و مناهجه في فهم و تفسير الظواهر الاجتماعية ، فإنالقرن الماضي سار في اتجاه تجاوز العديد من العوائق الإبستيمولوجية و بناء مجموعةمن التخصصات السوسيولوجية ، و في إطار هذا التجاوز و الانتقال لاحت السوسيولوجياالقروية كاستجابة معرفية لما صار يعتمل في القرية من ظواهر و حالات تستلزم إعمالالمقاربات أخرى .
فبعد الحرب العالمية الثانية صارت الحاجة أكثر إلحاحا إلى فروعسوسيولوجية تخصصية تفيد في فهم و تحليل أسئلة " الاجتماعي " ، و في ظل هذه الحاجة والأزمة المجتمعية بدأت مفاهيم عديدة من قبيل العالم القروي((le monde rural و الوسطالقروي( le milieu rural ) و المجتمعات أو الجماعات القروية les sociétés et) les communautés rurales) تستحــوذ على جــانب مـــهم من الـــنقاش الــسـياسـي والاجتماعي الدائر آنئذ . لقد وجد عالم ما بعد الحرب نفسه مدعوا للقضاء على الفوارقالتي نشأت بين القرى و المدن ، و في سبيل الوصول إلى ذلك كان لا بد من إصاخة السمعلصوت العلوم الإنسانية ، من هنا كان من الضروري العمل على " صناعة " سوسيولوجياقروية تنشغل أساسا بالمجتمع القروي و تفكر فيه و حوله بهدف تقديم خلاصات و إجاباتمحتملة بصدد حركياته و فعالياته . كانت البداية أزموية ، و هذا ليس بغريب عن حقلالسوسيولوجيا العامة ، على اعتبار أنها علم الأزمة ، فميلادها ارتــبط دومــابالأزمــة التي تــحاول الإجابة عن شروط إنتاجها و إعادة إنتاجها ، و عليه فميلادالسوسيولوجيا القروية كفرع تخصصي لم يكن ليختلف كثيرا عن الظهور الأول للسوسيولوجياالعامة.
و بالنظر إلى كون البراديغم السوسيولوجي (le paradigme sociologique) يلح على تجاوز لغة و تحليلات الحس المشترك، فإن السوسيولوجيا القروية ، ستجد نفسهامنذ الوهلة الأولى مطالبة بالقطع مع هذه اللغة ، فالعالم القروي كموضوع تنفرد به وتشتغل عليه هو محور كثير من الرهانات السياسية و الاقتصادية ، و هذا ما يساهم فيإنتاج و تداول كثير من أحكام القيمة حوله ، الشيء الذي يفرض على السوسيولوجياالقروية في امتدادها المعرفي أن تراهن بامتياز على الهدم و التفكيك و القراءة غيرالعادية لمختلف التفاصيل التي تعرفها تضاريس المجتمع القروي . و منه نخلص إلى القولبأنه إذا كانت الأزمة المجتمعية لعالم ما بعد الحرب هي التي حتمت ظهور السوسيولوجياالقروية ، فإن ذات الأزمة مضافا إليها الحس المشترك حول القرية و القروي ( le rural) هي التي ستبصم مسار هذا الفرع السوسيولوجي التخصصي.
الانشغال العلمي
فيما تفيد السوسيولوجيا القروية ؟ و ما دوائر انشغالها المركزية ؟ و هل من حدودمعرفية تسيج هذا العلم ؟ و ما تقاطعاته و تمفصلاته الأخرى مع باقي الفروعالسوسيولوجية الأخرى و مع علوم أخرى من خارج السوسيولوجيا ؟
علم الاجتماعالريــفي هو العلم الخاص بدراسة أهل الريف و ما تربطهم من صلات و تلك التي تربطهم وغيرهم من السكان غير الريفيين ، إنه العلم الذي يجعل من القرية محور اهتمامه وانشغاله المركزي ، و هذا ما يبرز بجلاء أن الحدود المعرفية لهكذا علم مرسومة بدقةمتناهية ، لكن مع ذلك فالتقاطعات التي تدشنها السوسيولوجيا القروية مع دوائر اشتغالمعرفية أخرى تجعل من الصعوبة بمكان تسييج السؤال السوسيولوجي القروي ضمن حدودالقرية فقط ، و لعل هذا ما دفع ساندرسونsanderson) (إلى التأكيد مرة أخرى على أنعلم الاجتماع الريفي هو علم الحياة في البيئة الريفية و يتضمن ذلك وصفا دقيقاللتجمعات البشرية و العلاقات المختلفة لتلك التجمعات و العوامل المؤثرة على عمل وتقدم و وظيفة هذه المجتمعات.
"القرية كظاهرة اجتماعية " يمكن أن يكون هكذاموضوع واحدا من الانشغالات العلمية للسوسيولوجيا القروية ، و يمكن أن يكون العنوانالأبرز لذات الانشغالات ، لكنه ليس الوحيد ، فالسوسيولوجيا القروية تجعل من المجتمعالقروي هدفها الأثير الذي تتوجه إليه بالدرس و التحليل ، و ذلك في مختلف صيغانبــنائه و تطوره ، و عبر مختلف فعالياته و حركياته من خلال التوجه بالسؤال والتفكيك إلى المشكلات الاجتماعية للمجتمع القــروي و أنماط العيش و المؤسسات والخدمات و التدخلات الدولتية و النظم الاجتماعية و العلاقات بين المدن و البوادي وغيرها من المواضيع التي تحتل فيها القرية و لو هامشا ضئيلا في إطار جدل التأثر والتأثير . فالسوسيولوجيا القروية بملاحظتها و تحليلها لتبلور و تطور مشاكل الوسطالقروي تقترح نفســها كمشروعمعرفي لفهم و تفهم الأفراد في هذا الوســط . و لكونالوسط القروي هو جزء من مجتمع عام و شاسع ، فإن السوسيولوجيا القروية لا تمنع نفسهامن دراسة المجتمع في كليته، الشيء الذي يساعد على الوصول إلى مستوى عال من الفهم والتفهم للوسط القروي كما يعلن عن نفسه.
هذا كله يدفع إلى التأكيد مجددا علىأن دوائر الانشغال العلمي للسوسيولوجيا القرية لا يمكن حصرها بالمرة في مجال القريةو لا في موضوع الإنسان القروي وحده ، و هذا ما يعني بالضرورة علائق التشبيك والتداخل التي تبصم هذا العلم ، فالسوسيولوجيا القروية توجد على خط التــماس معكـــثير من المعـــارف كالجـــغـــرافيا و الاقـــتصــاد و التاريخ و الإثنوغرافياو الأنثروبولوجيا و السوسيولوجيا الحضرية و سوسيولوجيا التنمية و علوم التعمير والتهيئة و الهندسة القروية . فكل هذه المعرف تنشغل بالمجتمع القروي و تؤسس علىظواهره و تفاعلاته الكثير من المقاربات و النتائج العلمية .
إذن فالسوسيولوجياالقروية تضع ضمن استراتيجياتها العلمية مطمحا تخصصيا تعلن من خلاله عن حدودها وامتداداتها ، و هو المجتمع القروي من غير شك ، و ذلك عبر ملاحقة تفاصيله و تفاعلاتهالدقيقة و العابرة ، فالمجتمع القروي وفقا لهذه الصيغة يعد سؤالا منطقيا و أساسيافي مطبخ السوسيولوجيا القروية . و إذا كان المجتمع عموما يشير في مبناه و معناه إلىمجموعة من العلاقات و المؤسسات و الأدوار و الظواهر أيضا ، فإن السوسيولوجياالقروية و من منطلق انشغالها المعرفي تجد ذاتها مدعوة إلى الاشتغال على هذه الأبعادالعلائقية و المؤسسية و المجتمعية عموما في رحاب القرية . ما القرية؟
لكن مع ذلك تظل الحدودالمعرفية للسوسيولوجيا القروية بعيدة عن الضبط المجالي ، فالمجتمع القروي و كمارأينا في السابق هو " مخطوب الود "من قبل الكثير من المعارف ، إنه رقم أساس في كثيرمن المعادلات العلمية ، و ليست السوسيولوجيا القروية وحدها التي بمقدورها الإجابةعن مختلف أسئلته و إشكالاته .
في هذا الصدد يشير ميشيل روبيرMichel robert) (إلىأن السوسيولوجيا القروية تعرف بالنسبة إلى حقل اشتغالها أكثر من أي تلوين نظري أصلي، فمجال الاشتغال هو الذي يمنحها التعريف المحتمل ، و هو الذي يكشف عن توجهاتها وطموحاتها العلمية . و في ذات السياق يبرز هنري مندراس( Henri mendras) بأنه إذا لميتم ربط السوسيولوجيا القروية بسوسيولوجيا فلاحية متخصصة ، فإنها سوف تعرف بحقلدراستها الذي هو المجتمعات القروية .
إذن ما المعنى الذي تحيل عليه القرية ؟ ماالقرية و المجتمع القروي؟ و من أي المداخل يمكن الوصول إلى هذا المعنى المحتمل ؟ هلنعرف القرية بالمنطق الإحصائي كما تذهب إلى ذلك السوسيولوجيا الأمريكية التي تجعلمن القرية ذلك المجال التي يقل فيه مجموع السكان عن 2500 نسمة ؟ علما بأن هذا السقفالإحصائي يعبر عن معنى المدينة في دول أخرى . أم ننضبط إلى التعريــف المهنيالـــذي تقـــترحه السوسيولوجيا الحضرية و الذي تميز به المدينة عن القريةباحتضانها لما يفوق 5000 منصب شغل غير فلاحي ؟ أم نرتكن إلى التعريف الإداري وفقاللتقسيمات المجالية التي يقترحها علينا مهندسو الإدارة الترابية و التهيئة الجهوية؟
اللافت للنظر بخصوص التعريف الإحصائي للقرية هو أن الاختلاف يظل على أشده بينالدول حول السقف السكاني الذي يفصل بين المدينة و القرية ، فبعضها مثلا لا يشترطإلا 2000 نسمة للتمييز بين المجالين، في حين نجد البعض الآخر يحصر الرقم في 200نسمة فقط . فالوسط القروي يتميز كثافة سكانية متواضعة كميا ، و كذا بفضاء زراعي فيالغالب و بأنشطة فلاحية، و الطريقة الأكثر انتشارا للتمييز بين القرية و المدينةتظل إحصائية ، فهناك عتبة 2000 نسمة لكل وحدة إدارية قاعدية في فرنسا مثلا، و 2500نسمة في الولايات المتحدة الأمريكية و 5000 نسمة في المكسيك و 10000 نسمة فيالسينغال، كما أن هذا المقياس الإحصــائي ينحدر إلى 1000 نسمة في كنــدا و 400 نسمةفي ألبانـــيا و 200 نسمة في الدول الاسكندينافية . و هذا ما يدفع إلى الأخذبتعريفات أخرى تركز على طبيعة الأنشطة ( نسبة الأنشطة الفلاحية من مجموع الأنشطةالعامة ) ، أو الكثافة السكانية العليا أو الافتقار إلى التجهيزات و المؤسسات .
و بالنسبة لكلمة rurale فهي مأخوذة من الأصل اللاتيني rus الذي يقابل كلمة urbs و الذي يدل على المدينة ، و هذا التقابل بين القرية و المدينة تحكم لزمن طويلفي تعريف كل واحدة منهما ، فالمدينة لا تعرف إلا بكونها نقيضا للقرية ، و هذهالأخيرة ذاتها لا تعرف إلا بكونها مختلفة عن المدينة في النشاطات و التنظيم المجاليو المؤسسي .
و إذا كان المجتمع لفظيا يطلق بمعنى أخص على المجموع من الأفرادالذين تؤلف بينهم روابط واحدة تثبتها الأوضاع والمؤسسات الاجتماعية، ويشار به إلىالاجتماع في الأسرة أو القرية أو القبيلة ومنه نقول المجتمع القروي, القبلي ، فإنهيصير وفقا لهذا الفهم عبارة شبكة من العلاقات الاجتماعية بين الفاعلين الاجتماعيين،فهو جسم من العلاقات والوظائف والمؤسسات التي تتحرك وتتفاعل ضمن نسق اجتماعي معينتحدده آليات ضبط ومعايير عقل جمعي. أما القروي فهو المنسوب إلى القرية أو البادية،وبالتالي فالمجتمع القروي هو عكس المجتمع المدني / الحضري، وعموما فالمجتمع القرويلا يتم تحديده من طرف الدارسين إلا بما ليس هو، أي يتم تحديده انطلاقا من تحديدالمدينة، فالمجتمع القروي نوظفه هنا كمجال جغرافي في مقابل المدينة، وأيضا كعلاقاتاجتماعية تعتمل في رحابه.
وإذا كان المجتمع القروي أكثر ارتباطا بالفلاحةوالفلاحين, فإن لفظة "فلاح" عامة جدا، وهناك بالفعل عدة فئات اجتماعية، مثل الوجهاءالذين يعدون دعائم الدولة، وهناك فعلا مجموع الفلاحين المرتبطين عاطفيا ودينيابالدولة، إلا أن هناك بموازاة ذلك صغار الفلاحين الفقراء الذين يتحملون مجموع القمعوالاستغلال في البلاد . فكيف السبيل إذن إلى تمييز العالم القروي ؟
مع الرواد
في سياق أزمة عالمما بعد الحرب تمت دعوة علماء الاجتماع للاشتغال على القرية أملا في تطوير قدراتالتغيير في المجتمع القروي ، و قد ترجم هذا الاشتغال عبر مسارين أساسيين تمثلا فيالسوسيولوجيا الأمريكية التي سارت في الاتجاه الأمبريقي و السوسيولوجيا الفرنسيةالتي اختارت درب المونوغرافيات ، و هذان الاتجاهان هما اللذان حسما لحظة التأسيسالعلمي للسوسيولوجيا القروية، هذا مع التأكيد على أن كلا الاتجاهين لم ينقطعا عناستثمار خلاصات علوم أخرى كالجغرافيا و الأنثروبولوجيا بدرجة أولى. و على العمومفالسوسيولوجيا القروية تدين ، بالنظر إلى نشأتها ، بالكثير إلى السوسيولوجياالفرنسية و الأنثروبولوجيا الأمريكية ، و هو ما يجعل البعض يؤكد بأن السوسيولوجياالقروية ما هي إلا نتيجة منطقية لزواج كاثوليكي بينهما معا
.
و بحثا عن البداياتالتأسيسية لهذا العلم ، قام مارسيل جوليفي ( Marcel Jollivet) برصد كرونولوجيلمساهمات الرواد الأولية في هذا الميدان ، و قد اهتدى من خلال جرده هذا إلى أنالأثر الأول في الدرس السوسيولوجي القروي يعود في فرنسا إلى جان ستوتزل(Jean stœtzel) الذي كان يدرس هذه المادة بمعهد الدراسات السياسية بباريس خلال سنتي 1948و 1949 ، و ذلك قبل أن يعهد بهذا الدرس إلى هنري مندراس( Henri mendras) ، إلا أن هذاالأخير يعد بحق المؤسس الفعلي للسوسيولوجيا القروية ، اعتبارا لكونه من بين أوائلالباحثين الذين كرسوا جهودهم المعرفية للشأن القروي ، فقد حاول منذ البدء أن يقدمنموذجا نظريا لتحليل المجتمعات الفلاحية ، مستلهما نتائج الأنثروبولوجيا الأمريكيةالتي انشغلت بالجماعات القروية منذ عشرينيات القرن الماضي .
و لقد راهن هنريمندراس في انشغاله بالمسألة القروية على الاعتماد على التاريخ و الاقتصاد و السياسةو باقي العلوم الأخرى التي تسعفه في اختراق تفاصيل المشهد القروي ، و لهذا فقد كانينجز أبحاثه في الغالب بتعاون تام مع اقتصاديين و مؤرخين.
مارسيل جوليفي يعدهو الآخر من رواد السوسيولوجيا القروية ، فقد أصدر بمعية زملاء له في هذا الحقلعددا من الدراسات القيمة التي ساهمت في تأجيج النقاش حول أسئلة العالم القروي ، وقد عرف مارسيل جوليفي كثيرا بمفهوم التداخل التخصصي l'interdisciplinarité الذي كانيستعيض عنه أحيانا بالتعدد التخصصي « multidisciplinarité » ou « pluridisciplinarité »، فقد كان يلح دوما على أن السوسيولوجيا القروية لم تكن قبلاتخصصا خالصا، بل هي فرع من فروع علم الاجتماع ، يتميز بكونه أبعد ما يكون معزولاتماما ، فالسوسيولوجي القروي ينفرض عليه من حين لآخر أن يكون مؤرخا و جغرافيا واقتصاديا و ديموغرافيا و إثنوغرافيا و عالم نفس أيضا ،إذ عليه أن يختبر مناهج كلهذه التخصصات لكي يتمكن من دراسة ظواهره . و وفقا لهذا التصور فقد اعتبر جوليفي غيرما مرة أن السوسيولوجيا القروية الفرنسية هي معرفة متعددة الاختصاصات بشكل أساسي ،و هذا ما يميزها عن السوسيولوجيا القروية الأمريكية.
و بخصوص العالم الجديدفيعتبر ليبرتي هايد بيليliberty hade bailey (1858-1954) المؤسس الفعليللسوسيولوجيا القروية و الصحافة القروية أيضا بالولايات المتحدة الأمريكية ،فبالرغم من تخصصه البيولوجي و النباتي تحديدا فقد ساهم ليبرتي منذ العشرينيات منالقرن الماضي في تأسيس سوسيولوجيا قروية أمريكية ، و ذلك منذ التحاقه بمدرسةالفلاحة بميشغان.
إن السوسيولوجيا القروية الأمريكية خرجت من رحم مدرسة شيكاكو، فمع اشتغال ويليام إيزاك توماس (William Isaac thomas) و فلوريان زنانيك ( Florian znanieck ) على الفلاح البولوني في كل من أوروبا و أمريكا ما بين 1918 و 1920 ، بدأت تتشكل الملامح الكبرى للسوسيولوجيا القروية بالعالم الجديد ، و يعد هذاالكتاب الصادر في خمسة أجزاء من الكتب المؤسسة للسوسيولوجيا الأمريكية عموما ، وليس فقط للسوسيولوجيا القروية أو لمدرسة شيكاكو، و في هذا الكتاب سيبلور الباحثانمفهوم الاختلال الاجتماعي(désorganisation sociale ) الذي سيظل مهيمنا على النقاشالسوسيولوجي للمدرسة خلال فترتها الذهبية ما بين 1915 و 1935.
لقد صارتالسوسيولوجيا القروية الأمريكية آنا تعرف نموا مطردا على مستوى إنتاج و تداولالنظريات و المفاهيم ، بل إن التراكمات المهمة التي عرفها هذا العلم في السنواتالأخيرة ما هي إلا نتاج خالص قادم من العالم الجديد ، من الولايات المتحدةالأمريكية و كندا و باقي دول أمريكا اللاتينية ، فهذه الدول تشهد اليوم فورة علىمستوى العلوم الإنسانية ، بل إنها استلمت مشعل هذه العلوم في شقها الأمبريقي منذزمن غير يسير.
هنا و الآن
لكن ماذا عن المغرب ؟ ماذا عن مساهمة آل علمالاجتماع المغاربة في تأصيل و بناء السوسيولوجيا القروية؟ و هل في الإمكان الحديثعن مدرسة سوسيولوجية قروية مغربية لها براديغماتها و توجهاتها الخاصة و الخالصة ؟ ومتى و كيف كان البدء السوسيولوجي القروي بالمغرب؟ ألا يمكن القول بأن السوسيولوجياالمغربية في مجموعها هي سوسيولوجيا قروية ، فلا السوسيولوجيا الكولونيالية و لاالأخرى التي تلتها بعد الاستقلال استطاعت أن تقلص من حضور السؤال القروي ضمن خارطةاشتغالها . فالإنتاج السوسيولوجي المغربي يظل في جانب مهم منه منخرطا في مساءلةالظواهر القروية ، بل إن الأبحاث و الرهانات غير القروية داخل مطبخ السوسيولوجياالمغربية تظل محدودة كميا و نوعيا .
مع محمد جسوس الذي يصنفه رشدي فكار ضمنالمؤسسين الأوائل لسوسيولوجيا العالم الثالث بالمغرب ، ستعرف السوسيولوجيا القرويةبالمغرب انطلاقتها الثانية ، بعد انطلاقتها الأولى المبكرة التي دشنتهاالسوسيولوجيا الكولونيالية ، فقد حاول محمد جسوس منذ البدء أن يؤجج النقاشالسوسيولوجي حول المجتمع القروي ، معتبرا إياه الحقل الحيوي الذي يترجم و يكشفمجموع تفاعلات النسق المغربي ، فمن خلال ذات المجتمع يمكن فهم كثير من الظواهر والقضايا التي تلوح في باقي الأنساق المجتمعية الأخرى ، و يمكن أيضا اكتشاف " مآلالمجتمع المغربي " الذي يعد تعبيرا أثيرا عند محمد جسوس.
و إذا كان محمد جسوسيدفع باتجاه تطوير السوسيولوجيا القروية في إطار وحدة علم الاجتماع القروي بكليةالآداب بالرباط و بالضبط قريبا من معهد العلوم الاجتماعية الذي تعرض خطأ و اعتسافاللإغلاق ، فقد كان بول باسكون ، بمعهد الزراعة و البيطرة بدوره يؤسس لسوسيولوجياقروية تدمن البحث الأمبريقي ، فعلى امتداد العديد من مؤلفاته ( ما يقوله 296 شاباقرويا ، المسألة الزراعية بالمغرب ، حوز مراكش ، دراسات قروية ، بني بوفراح ، دارإليغ و التاريخ الاجتماعي ، المسألة المائية بالمغرب ) حاول بول باسكون أن يؤسسلسوسيولوجيا قروية تستقي نظرياتها و توجهاتها من الميدان في البدء و الختام ، و علىهذا الدرب سيبلور باسكون نظريته عن المجتمع المزيج أو المركب ، كما سيحدد ملامحالسوسيولوجي و مهامه المركزية.
بعد الرحيل الغامض لبول باسكون و زميله عاريفستعرف السوسيولوجيا القروية بمعهد الزراعة البيطرة نوعا من الموت السريري ، لينتقلالنقاش مجددا إلى وحدة علم الاجتماع القروي بكلية الآداب بالرباط التي ستلتمع فيرحابها جملة من الأسماء التي بصمت مسار الفعل السوسيولوجي بالمغرب، مثلما ستساهم فيإنتاج العديد من الأبحاث و الدراسات القيمة حول المجتمع القروي المغربي . و لعل هذاكله ما يدفع إلى القول مجددا بأن السوسيولوجيا المغربية هي لحد الآن سوسيولوجياقروية في شقها الأكبر.
ال " كلنا " قرويون
ما يدفع إلى التفكير في هكذا نتيجة هو الطابع القروي للمجتمع المغربي ، فال " كلنا " قرويون ، بل إن الحدود بينما هو قروي و ما هو حضري مغربيا تظل تعسفية و غير منضبطة لمنطق محدد ، لهذا كلهيصير الدرس السوسيولوجي القروي ضرورة ملحة لقراءة تضاريس المجتمع المغربي ، بل إنالانشغال السوسيولوجي بالمجتمع القروي من شأنه أن يساهم فعلا في خدمة المشروعالنضالي للسوسيولوجيا, "فالعلاقات السلطوية ما زالت سائدة في العالم القروي، ومع مايطبعها من إكراه ومحسوبية وتطاول على حقوق المواطنين... وهي تؤكد المحن التي يعيشهاالعالم القروي" وهنا يحق لنا أن نتساءل مرات أخرى: ما الذي نريده من السوسيولوجيا والسوسيولوجيين؟ وما الذي نتغياه من علم الاجتماع القرويتحديدا؟
"إن العالم الفلاحي يمثل مشهد جمود تديره وترعاه النخب المحلية التي التحقت بالدوائر الإدارية كقواد وشيوخ ومقدمين" إنه عالم واقع بلا شك تحت رحمة المخزن الذي نجح كثيرا فيعمليات الاختراق والاحتواء، و "لهذا تظل البوادي هادئة تماما حتى عندما يكون النظامالسياسي معرضا لرجات" . فهذا "الثبات الاجتماعي" من جهة وهذا الاختراق المخزني منجهة أخرى ألا يستوجبان معا وقفة خاصة من أجل الخلخلة والتفكيك العملي والعلمي؟ أولا يقودنا الوضع الشاذ الذي ينخرط فيه المجتمع القروي إلى تلك المهمة الأساسيةالمبحوث عنها في علم الاجتماع القروي؟
إن تسخير السوسيولوجيا للنبش في هموموآمال المجتمع القروي أمسى مطلبا أكيدا في راهننا هذا، الذي تعالت فيه آهاتالفلاحين وزفراتهم الساخطة، فحاجتنا إلى سوسيولوجيا قروية أكثر جرأة في الطرحوالتحليل ضرورة قصوى ، بل إن الحاجة إلى هذه السوسيولوجيا لا يحددها فقط ما يعتملفي العالم القروي من ظواهر وحالات عصية على الفهم ، ولا توجبها حصرا محدوديةالدراسات والأبحاث التي تصدت لها، وكذا ضرورات توسيع دوائر الاهتمام العلمي بها،وإنما تفرضها فرضا خصوصيات المجتمع المغربي عموما.
فكم نتناسى طبيعة المجتمعالمغربي الذي هو قبل كل شيء مجتمع قروي، وأن أزمة المجتمع القروي هي في العمق مرآةلأزمة المجتمع المغربي، والطابع القروي لمجتمعنا لا ينحصر في بعض الأرقام المتعلقةبالوزن الديموغرافي لسكان البادية (45%) وبنية اليد العاملة في البادية (41%) وكذلكحجم الإنتاج الزراعي (20% من الناتج الداخلي الخام), فإلى جانب العوامل الاقتصاديةوالاجتماعية توجد عوامل تاريخية، حضارية، سياسية وثقافية، وكذلك عوامل تخص نمـطالعيش والسلوك، والتي تؤكد أن مجتمعنا لا زال قرويـا . كل هذا إذن يجعل البحث فيشجون المجتمع القروي مبررا ومشروعا جدا، خصوصا في عمق الانشغال بالعلاقات والتمثلات المرتبطة بالسلطة المخزنية، ويدعو في الآن ذاته إلى إعمال النظر العلمي فيعالم الفلاحين الذين تبدو العلاقات بينهم وبين الدولة جد مبهمة للغاية, ذلك أنهميعيشون دوما على خشيتها وأمام القرار الفالت من أيديهم. إنها إله رهيب ومصدر لنعمغير منتظرة.
على سبيل الختام
بعد هذا المار ذكره نطرح السؤال مجددا : ماالسوسيولوجيا القروية ؟ ما مراكز اهتمامها المعرفي ؟ و ما الذي نتغياه من هكذا تخصصسوسيولوجي ؟ و أي التعاريف تبدو منطقية و معبرة عن حقيقة السوسيولوجيا القروية ؟
كان التأكيد منذ البدء على أن ما ينطرح على حواف هذا القول ، لن يكون غير " فتحلشهية " الحديث عن السوسيولوجيا القروية ، طبعا لن يكون إلا مقدمة تمهيدية تحرض علىالتساؤل أكثر ما تراهن على تقديم الإجابات الجاهزة ، فمع الحديث عن البدء والامتداد و الانشغال المعرفي و القرية أولا و الرواد بعدا و الانعطاف نحو ال " هنا " و الآن ثم التأكيد على قرويتنا الغائرة ، لم نكن نهفو لا إلى تقديم جواب جاهز عنماهية السوسيولوجيا القروية ، و لا إلى أي تحديد صارم لانشغالاتها و آليات اشتغالها، فقط كان هم الاقتراب منها هاجسنا المركزي و سؤالنا البعدي .
السوسيولوجياالقروية وفقا لتطورها التاريخي لن تكون غير سوسيولوجيا مسكونة بأسئلة المجتمعالقروي في جميع حركاته و سكناته ، تفاعلاته و تحولاته ، اتساقه و اختلاله ، لن تكونأيضا غير معرفة متعددة المداخل و المشارب ، تؤمن بالتخصص العلمي لكنها تجد نفسها فيكل حين مدعوة لاستثمار خلاصات و مناهج كثير من العلوم الشقيقة و الصديقة ، و مع ذلككله فإن سبر أغوار هذه السوسيولوجيا لا يكون ممكنا إلا بالنزول إلى الميدان ، لأنهامعرفة ميدانية بامتياز .
ربما تجدهذه الأسئلة لنفسها أكثر من مبرر منهجي في مفتتح هذا القول ، ليس فقط لأنها تضعناعلى طريق التساؤل النقدي ، بل لأنها تعبد ذات الطريق نحو مقدمات تمهيدية للاقترابأكثر من مطامح و رهانات السوسيولوجيا القروية .
فالمطمح المعرفي لهذا القول لنيكون غير بحث أولي عن بعض المداخل المؤدية إلى دوائر السوسيولوجيا القروية ، و علىسبيل التمهيد قبلا و بعدا ، ينفرض علينا مساءلة البدء السوسيولوجي القروي ، ومحاورة انشغاله العلمي و رواده أملا في الاقتراب أكثر من ماهية السوسيولوجياالقروية ، و اعتبارا لذلك كله سيكون الحفر الأركيولوجي التاريخي آلية أساســية ضمنآليات اشتــغالنا على هــكذا موضوع ، فالسوسيولوجيا الـــقروية في عــمقها ومشروعها المعرفي تجد ذاتها مدعوة بل مضطرة في كثير من الأحايين إلى استلهام مناهجالتاريخ و الجغرافيا و غير قليل من نتائج العلوم الأخرى .
فإلى البدء إذن...
البداية و الامتداد
هل يمكن القول بأن السوسيولوجيا القروية سابقة علىالسوسيولوجيا العامة ؟ فما دام التفكير الاجتماعي غارق في القدم و لا يقف بالمرةعند حدود أوغست كونت(auguste comte) ، فإن أول تفكير أو تفكر في " الاجتماعي " كانمتمحورا حول الظواهر الاجتماعية في سياقها الزراعي و القروي ، على اعتبار أن القريةسابقة على المدينة و أن نشاطات الصيد و الزراعة سابقة أيضا على مختلف النشاطاتالصناعية الأخرى التي امتهنها الإنسان بعدا .
لكن و بالرغم من عراقة التفكيرالسوسيولوجي القروي ، فإن البداية العلمية مع الظهور كفرع تخصصي ضمن خارطةالسوسيولوجيا العامة تعود بالأساس إلى منتصف القرن الماضي، بتواز تام مع احتدامالنقاش حول إشكالات التهيئة و الجهوية و ضبط المجال . فبعد الحرب العالمية الثانيةصار " الاجتماعي " أكثر تضررا ، و كان من الضروري أن تتضافر الجهود العلمية و فيمختلف المجالات من أجل تجاوز ذلك الوضع الكارثي .
و إذا كان القرن الثامن عشرقد تميز بالانشغال العميق من قبل رواد الفكر السوسيولوجي بشرعنة الحضور السوسيولوجيو تأكيد الحاجة إلى مقارباته و مناهجه في فهم و تفسير الظواهر الاجتماعية ، فإنالقرن الماضي سار في اتجاه تجاوز العديد من العوائق الإبستيمولوجية و بناء مجموعةمن التخصصات السوسيولوجية ، و في إطار هذا التجاوز و الانتقال لاحت السوسيولوجياالقروية كاستجابة معرفية لما صار يعتمل في القرية من ظواهر و حالات تستلزم إعمالالمقاربات أخرى .
فبعد الحرب العالمية الثانية صارت الحاجة أكثر إلحاحا إلى فروعسوسيولوجية تخصصية تفيد في فهم و تحليل أسئلة " الاجتماعي " ، و في ظل هذه الحاجة والأزمة المجتمعية بدأت مفاهيم عديدة من قبيل العالم القروي((le monde rural و الوسطالقروي( le milieu rural ) و المجتمعات أو الجماعات القروية les sociétés et) les communautés rurales) تستحــوذ على جــانب مـــهم من الـــنقاش الــسـياسـي والاجتماعي الدائر آنئذ . لقد وجد عالم ما بعد الحرب نفسه مدعوا للقضاء على الفوارقالتي نشأت بين القرى و المدن ، و في سبيل الوصول إلى ذلك كان لا بد من إصاخة السمعلصوت العلوم الإنسانية ، من هنا كان من الضروري العمل على " صناعة " سوسيولوجياقروية تنشغل أساسا بالمجتمع القروي و تفكر فيه و حوله بهدف تقديم خلاصات و إجاباتمحتملة بصدد حركياته و فعالياته . كانت البداية أزموية ، و هذا ليس بغريب عن حقلالسوسيولوجيا العامة ، على اعتبار أنها علم الأزمة ، فميلادها ارتــبط دومــابالأزمــة التي تــحاول الإجابة عن شروط إنتاجها و إعادة إنتاجها ، و عليه فميلادالسوسيولوجيا القروية كفرع تخصصي لم يكن ليختلف كثيرا عن الظهور الأول للسوسيولوجياالعامة.
و بالنظر إلى كون البراديغم السوسيولوجي (le paradigme sociologique) يلح على تجاوز لغة و تحليلات الحس المشترك، فإن السوسيولوجيا القروية ، ستجد نفسهامنذ الوهلة الأولى مطالبة بالقطع مع هذه اللغة ، فالعالم القروي كموضوع تنفرد به وتشتغل عليه هو محور كثير من الرهانات السياسية و الاقتصادية ، و هذا ما يساهم فيإنتاج و تداول كثير من أحكام القيمة حوله ، الشيء الذي يفرض على السوسيولوجياالقروية في امتدادها المعرفي أن تراهن بامتياز على الهدم و التفكيك و القراءة غيرالعادية لمختلف التفاصيل التي تعرفها تضاريس المجتمع القروي . و منه نخلص إلى القولبأنه إذا كانت الأزمة المجتمعية لعالم ما بعد الحرب هي التي حتمت ظهور السوسيولوجياالقروية ، فإن ذات الأزمة مضافا إليها الحس المشترك حول القرية و القروي ( le rural) هي التي ستبصم مسار هذا الفرع السوسيولوجي التخصصي.
الانشغال العلمي
فيما تفيد السوسيولوجيا القروية ؟ و ما دوائر انشغالها المركزية ؟ و هل من حدودمعرفية تسيج هذا العلم ؟ و ما تقاطعاته و تمفصلاته الأخرى مع باقي الفروعالسوسيولوجية الأخرى و مع علوم أخرى من خارج السوسيولوجيا ؟
علم الاجتماعالريــفي هو العلم الخاص بدراسة أهل الريف و ما تربطهم من صلات و تلك التي تربطهم وغيرهم من السكان غير الريفيين ، إنه العلم الذي يجعل من القرية محور اهتمامه وانشغاله المركزي ، و هذا ما يبرز بجلاء أن الحدود المعرفية لهكذا علم مرسومة بدقةمتناهية ، لكن مع ذلك فالتقاطعات التي تدشنها السوسيولوجيا القروية مع دوائر اشتغالمعرفية أخرى تجعل من الصعوبة بمكان تسييج السؤال السوسيولوجي القروي ضمن حدودالقرية فقط ، و لعل هذا ما دفع ساندرسونsanderson) (إلى التأكيد مرة أخرى على أنعلم الاجتماع الريفي هو علم الحياة في البيئة الريفية و يتضمن ذلك وصفا دقيقاللتجمعات البشرية و العلاقات المختلفة لتلك التجمعات و العوامل المؤثرة على عمل وتقدم و وظيفة هذه المجتمعات.
"القرية كظاهرة اجتماعية " يمكن أن يكون هكذاموضوع واحدا من الانشغالات العلمية للسوسيولوجيا القروية ، و يمكن أن يكون العنوانالأبرز لذات الانشغالات ، لكنه ليس الوحيد ، فالسوسيولوجيا القروية تجعل من المجتمعالقروي هدفها الأثير الذي تتوجه إليه بالدرس و التحليل ، و ذلك في مختلف صيغانبــنائه و تطوره ، و عبر مختلف فعالياته و حركياته من خلال التوجه بالسؤال والتفكيك إلى المشكلات الاجتماعية للمجتمع القــروي و أنماط العيش و المؤسسات والخدمات و التدخلات الدولتية و النظم الاجتماعية و العلاقات بين المدن و البوادي وغيرها من المواضيع التي تحتل فيها القرية و لو هامشا ضئيلا في إطار جدل التأثر والتأثير . فالسوسيولوجيا القروية بملاحظتها و تحليلها لتبلور و تطور مشاكل الوسطالقروي تقترح نفســها كمشروعمعرفي لفهم و تفهم الأفراد في هذا الوســط . و لكونالوسط القروي هو جزء من مجتمع عام و شاسع ، فإن السوسيولوجيا القروية لا تمنع نفسهامن دراسة المجتمع في كليته، الشيء الذي يساعد على الوصول إلى مستوى عال من الفهم والتفهم للوسط القروي كما يعلن عن نفسه.
هذا كله يدفع إلى التأكيد مجددا علىأن دوائر الانشغال العلمي للسوسيولوجيا القرية لا يمكن حصرها بالمرة في مجال القريةو لا في موضوع الإنسان القروي وحده ، و هذا ما يعني بالضرورة علائق التشبيك والتداخل التي تبصم هذا العلم ، فالسوسيولوجيا القروية توجد على خط التــماس معكـــثير من المعـــارف كالجـــغـــرافيا و الاقـــتصــاد و التاريخ و الإثنوغرافياو الأنثروبولوجيا و السوسيولوجيا الحضرية و سوسيولوجيا التنمية و علوم التعمير والتهيئة و الهندسة القروية . فكل هذه المعرف تنشغل بالمجتمع القروي و تؤسس علىظواهره و تفاعلاته الكثير من المقاربات و النتائج العلمية .
إذن فالسوسيولوجياالقروية تضع ضمن استراتيجياتها العلمية مطمحا تخصصيا تعلن من خلاله عن حدودها وامتداداتها ، و هو المجتمع القروي من غير شك ، و ذلك عبر ملاحقة تفاصيله و تفاعلاتهالدقيقة و العابرة ، فالمجتمع القروي وفقا لهذه الصيغة يعد سؤالا منطقيا و أساسيافي مطبخ السوسيولوجيا القروية . و إذا كان المجتمع عموما يشير في مبناه و معناه إلىمجموعة من العلاقات و المؤسسات و الأدوار و الظواهر أيضا ، فإن السوسيولوجياالقروية و من منطلق انشغالها المعرفي تجد ذاتها مدعوة إلى الاشتغال على هذه الأبعادالعلائقية و المؤسسية و المجتمعية عموما في رحاب القرية . ما القرية؟
لكن مع ذلك تظل الحدودالمعرفية للسوسيولوجيا القروية بعيدة عن الضبط المجالي ، فالمجتمع القروي و كمارأينا في السابق هو " مخطوب الود "من قبل الكثير من المعارف ، إنه رقم أساس في كثيرمن المعادلات العلمية ، و ليست السوسيولوجيا القروية وحدها التي بمقدورها الإجابةعن مختلف أسئلته و إشكالاته .
في هذا الصدد يشير ميشيل روبيرMichel robert) (إلىأن السوسيولوجيا القروية تعرف بالنسبة إلى حقل اشتغالها أكثر من أي تلوين نظري أصلي، فمجال الاشتغال هو الذي يمنحها التعريف المحتمل ، و هو الذي يكشف عن توجهاتها وطموحاتها العلمية . و في ذات السياق يبرز هنري مندراس( Henri mendras) بأنه إذا لميتم ربط السوسيولوجيا القروية بسوسيولوجيا فلاحية متخصصة ، فإنها سوف تعرف بحقلدراستها الذي هو المجتمعات القروية .
إذن ما المعنى الذي تحيل عليه القرية ؟ ماالقرية و المجتمع القروي؟ و من أي المداخل يمكن الوصول إلى هذا المعنى المحتمل ؟ هلنعرف القرية بالمنطق الإحصائي كما تذهب إلى ذلك السوسيولوجيا الأمريكية التي تجعلمن القرية ذلك المجال التي يقل فيه مجموع السكان عن 2500 نسمة ؟ علما بأن هذا السقفالإحصائي يعبر عن معنى المدينة في دول أخرى . أم ننضبط إلى التعريــف المهنيالـــذي تقـــترحه السوسيولوجيا الحضرية و الذي تميز به المدينة عن القريةباحتضانها لما يفوق 5000 منصب شغل غير فلاحي ؟ أم نرتكن إلى التعريف الإداري وفقاللتقسيمات المجالية التي يقترحها علينا مهندسو الإدارة الترابية و التهيئة الجهوية؟
اللافت للنظر بخصوص التعريف الإحصائي للقرية هو أن الاختلاف يظل على أشده بينالدول حول السقف السكاني الذي يفصل بين المدينة و القرية ، فبعضها مثلا لا يشترطإلا 2000 نسمة للتمييز بين المجالين، في حين نجد البعض الآخر يحصر الرقم في 200نسمة فقط . فالوسط القروي يتميز كثافة سكانية متواضعة كميا ، و كذا بفضاء زراعي فيالغالب و بأنشطة فلاحية، و الطريقة الأكثر انتشارا للتمييز بين القرية و المدينةتظل إحصائية ، فهناك عتبة 2000 نسمة لكل وحدة إدارية قاعدية في فرنسا مثلا، و 2500نسمة في الولايات المتحدة الأمريكية و 5000 نسمة في المكسيك و 10000 نسمة فيالسينغال، كما أن هذا المقياس الإحصــائي ينحدر إلى 1000 نسمة في كنــدا و 400 نسمةفي ألبانـــيا و 200 نسمة في الدول الاسكندينافية . و هذا ما يدفع إلى الأخذبتعريفات أخرى تركز على طبيعة الأنشطة ( نسبة الأنشطة الفلاحية من مجموع الأنشطةالعامة ) ، أو الكثافة السكانية العليا أو الافتقار إلى التجهيزات و المؤسسات .
و بالنسبة لكلمة rurale فهي مأخوذة من الأصل اللاتيني rus الذي يقابل كلمة urbs و الذي يدل على المدينة ، و هذا التقابل بين القرية و المدينة تحكم لزمن طويلفي تعريف كل واحدة منهما ، فالمدينة لا تعرف إلا بكونها نقيضا للقرية ، و هذهالأخيرة ذاتها لا تعرف إلا بكونها مختلفة عن المدينة في النشاطات و التنظيم المجاليو المؤسسي .
و إذا كان المجتمع لفظيا يطلق بمعنى أخص على المجموع من الأفرادالذين تؤلف بينهم روابط واحدة تثبتها الأوضاع والمؤسسات الاجتماعية، ويشار به إلىالاجتماع في الأسرة أو القرية أو القبيلة ومنه نقول المجتمع القروي, القبلي ، فإنهيصير وفقا لهذا الفهم عبارة شبكة من العلاقات الاجتماعية بين الفاعلين الاجتماعيين،فهو جسم من العلاقات والوظائف والمؤسسات التي تتحرك وتتفاعل ضمن نسق اجتماعي معينتحدده آليات ضبط ومعايير عقل جمعي. أما القروي فهو المنسوب إلى القرية أو البادية،وبالتالي فالمجتمع القروي هو عكس المجتمع المدني / الحضري، وعموما فالمجتمع القرويلا يتم تحديده من طرف الدارسين إلا بما ليس هو، أي يتم تحديده انطلاقا من تحديدالمدينة، فالمجتمع القروي نوظفه هنا كمجال جغرافي في مقابل المدينة، وأيضا كعلاقاتاجتماعية تعتمل في رحابه.
وإذا كان المجتمع القروي أكثر ارتباطا بالفلاحةوالفلاحين, فإن لفظة "فلاح" عامة جدا، وهناك بالفعل عدة فئات اجتماعية، مثل الوجهاءالذين يعدون دعائم الدولة، وهناك فعلا مجموع الفلاحين المرتبطين عاطفيا ودينيابالدولة، إلا أن هناك بموازاة ذلك صغار الفلاحين الفقراء الذين يتحملون مجموع القمعوالاستغلال في البلاد . فكيف السبيل إذن إلى تمييز العالم القروي ؟
مع الرواد
في سياق أزمة عالمما بعد الحرب تمت دعوة علماء الاجتماع للاشتغال على القرية أملا في تطوير قدراتالتغيير في المجتمع القروي ، و قد ترجم هذا الاشتغال عبر مسارين أساسيين تمثلا فيالسوسيولوجيا الأمريكية التي سارت في الاتجاه الأمبريقي و السوسيولوجيا الفرنسيةالتي اختارت درب المونوغرافيات ، و هذان الاتجاهان هما اللذان حسما لحظة التأسيسالعلمي للسوسيولوجيا القروية، هذا مع التأكيد على أن كلا الاتجاهين لم ينقطعا عناستثمار خلاصات علوم أخرى كالجغرافيا و الأنثروبولوجيا بدرجة أولى. و على العمومفالسوسيولوجيا القروية تدين ، بالنظر إلى نشأتها ، بالكثير إلى السوسيولوجياالفرنسية و الأنثروبولوجيا الأمريكية ، و هو ما يجعل البعض يؤكد بأن السوسيولوجياالقروية ما هي إلا نتيجة منطقية لزواج كاثوليكي بينهما معا
.
و بحثا عن البداياتالتأسيسية لهذا العلم ، قام مارسيل جوليفي ( Marcel Jollivet) برصد كرونولوجيلمساهمات الرواد الأولية في هذا الميدان ، و قد اهتدى من خلال جرده هذا إلى أنالأثر الأول في الدرس السوسيولوجي القروي يعود في فرنسا إلى جان ستوتزل(Jean stœtzel) الذي كان يدرس هذه المادة بمعهد الدراسات السياسية بباريس خلال سنتي 1948و 1949 ، و ذلك قبل أن يعهد بهذا الدرس إلى هنري مندراس( Henri mendras) ، إلا أن هذاالأخير يعد بحق المؤسس الفعلي للسوسيولوجيا القروية ، اعتبارا لكونه من بين أوائلالباحثين الذين كرسوا جهودهم المعرفية للشأن القروي ، فقد حاول منذ البدء أن يقدمنموذجا نظريا لتحليل المجتمعات الفلاحية ، مستلهما نتائج الأنثروبولوجيا الأمريكيةالتي انشغلت بالجماعات القروية منذ عشرينيات القرن الماضي .
و لقد راهن هنريمندراس في انشغاله بالمسألة القروية على الاعتماد على التاريخ و الاقتصاد و السياسةو باقي العلوم الأخرى التي تسعفه في اختراق تفاصيل المشهد القروي ، و لهذا فقد كانينجز أبحاثه في الغالب بتعاون تام مع اقتصاديين و مؤرخين.
مارسيل جوليفي يعدهو الآخر من رواد السوسيولوجيا القروية ، فقد أصدر بمعية زملاء له في هذا الحقلعددا من الدراسات القيمة التي ساهمت في تأجيج النقاش حول أسئلة العالم القروي ، وقد عرف مارسيل جوليفي كثيرا بمفهوم التداخل التخصصي l'interdisciplinarité الذي كانيستعيض عنه أحيانا بالتعدد التخصصي « multidisciplinarité » ou « pluridisciplinarité »، فقد كان يلح دوما على أن السوسيولوجيا القروية لم تكن قبلاتخصصا خالصا، بل هي فرع من فروع علم الاجتماع ، يتميز بكونه أبعد ما يكون معزولاتماما ، فالسوسيولوجي القروي ينفرض عليه من حين لآخر أن يكون مؤرخا و جغرافيا واقتصاديا و ديموغرافيا و إثنوغرافيا و عالم نفس أيضا ،إذ عليه أن يختبر مناهج كلهذه التخصصات لكي يتمكن من دراسة ظواهره . و وفقا لهذا التصور فقد اعتبر جوليفي غيرما مرة أن السوسيولوجيا القروية الفرنسية هي معرفة متعددة الاختصاصات بشكل أساسي ،و هذا ما يميزها عن السوسيولوجيا القروية الأمريكية.
و بخصوص العالم الجديدفيعتبر ليبرتي هايد بيليliberty hade bailey (1858-1954) المؤسس الفعليللسوسيولوجيا القروية و الصحافة القروية أيضا بالولايات المتحدة الأمريكية ،فبالرغم من تخصصه البيولوجي و النباتي تحديدا فقد ساهم ليبرتي منذ العشرينيات منالقرن الماضي في تأسيس سوسيولوجيا قروية أمريكية ، و ذلك منذ التحاقه بمدرسةالفلاحة بميشغان.
إن السوسيولوجيا القروية الأمريكية خرجت من رحم مدرسة شيكاكو، فمع اشتغال ويليام إيزاك توماس (William Isaac thomas) و فلوريان زنانيك ( Florian znanieck ) على الفلاح البولوني في كل من أوروبا و أمريكا ما بين 1918 و 1920 ، بدأت تتشكل الملامح الكبرى للسوسيولوجيا القروية بالعالم الجديد ، و يعد هذاالكتاب الصادر في خمسة أجزاء من الكتب المؤسسة للسوسيولوجيا الأمريكية عموما ، وليس فقط للسوسيولوجيا القروية أو لمدرسة شيكاكو، و في هذا الكتاب سيبلور الباحثانمفهوم الاختلال الاجتماعي(désorganisation sociale ) الذي سيظل مهيمنا على النقاشالسوسيولوجي للمدرسة خلال فترتها الذهبية ما بين 1915 و 1935.
لقد صارتالسوسيولوجيا القروية الأمريكية آنا تعرف نموا مطردا على مستوى إنتاج و تداولالنظريات و المفاهيم ، بل إن التراكمات المهمة التي عرفها هذا العلم في السنواتالأخيرة ما هي إلا نتاج خالص قادم من العالم الجديد ، من الولايات المتحدةالأمريكية و كندا و باقي دول أمريكا اللاتينية ، فهذه الدول تشهد اليوم فورة علىمستوى العلوم الإنسانية ، بل إنها استلمت مشعل هذه العلوم في شقها الأمبريقي منذزمن غير يسير.
هنا و الآن
لكن ماذا عن المغرب ؟ ماذا عن مساهمة آل علمالاجتماع المغاربة في تأصيل و بناء السوسيولوجيا القروية؟ و هل في الإمكان الحديثعن مدرسة سوسيولوجية قروية مغربية لها براديغماتها و توجهاتها الخاصة و الخالصة ؟ ومتى و كيف كان البدء السوسيولوجي القروي بالمغرب؟ ألا يمكن القول بأن السوسيولوجياالمغربية في مجموعها هي سوسيولوجيا قروية ، فلا السوسيولوجيا الكولونيالية و لاالأخرى التي تلتها بعد الاستقلال استطاعت أن تقلص من حضور السؤال القروي ضمن خارطةاشتغالها . فالإنتاج السوسيولوجي المغربي يظل في جانب مهم منه منخرطا في مساءلةالظواهر القروية ، بل إن الأبحاث و الرهانات غير القروية داخل مطبخ السوسيولوجياالمغربية تظل محدودة كميا و نوعيا .
مع محمد جسوس الذي يصنفه رشدي فكار ضمنالمؤسسين الأوائل لسوسيولوجيا العالم الثالث بالمغرب ، ستعرف السوسيولوجيا القرويةبالمغرب انطلاقتها الثانية ، بعد انطلاقتها الأولى المبكرة التي دشنتهاالسوسيولوجيا الكولونيالية ، فقد حاول محمد جسوس منذ البدء أن يؤجج النقاشالسوسيولوجي حول المجتمع القروي ، معتبرا إياه الحقل الحيوي الذي يترجم و يكشفمجموع تفاعلات النسق المغربي ، فمن خلال ذات المجتمع يمكن فهم كثير من الظواهر والقضايا التي تلوح في باقي الأنساق المجتمعية الأخرى ، و يمكن أيضا اكتشاف " مآلالمجتمع المغربي " الذي يعد تعبيرا أثيرا عند محمد جسوس.
و إذا كان محمد جسوسيدفع باتجاه تطوير السوسيولوجيا القروية في إطار وحدة علم الاجتماع القروي بكليةالآداب بالرباط و بالضبط قريبا من معهد العلوم الاجتماعية الذي تعرض خطأ و اعتسافاللإغلاق ، فقد كان بول باسكون ، بمعهد الزراعة و البيطرة بدوره يؤسس لسوسيولوجياقروية تدمن البحث الأمبريقي ، فعلى امتداد العديد من مؤلفاته ( ما يقوله 296 شاباقرويا ، المسألة الزراعية بالمغرب ، حوز مراكش ، دراسات قروية ، بني بوفراح ، دارإليغ و التاريخ الاجتماعي ، المسألة المائية بالمغرب ) حاول بول باسكون أن يؤسسلسوسيولوجيا قروية تستقي نظرياتها و توجهاتها من الميدان في البدء و الختام ، و علىهذا الدرب سيبلور باسكون نظريته عن المجتمع المزيج أو المركب ، كما سيحدد ملامحالسوسيولوجي و مهامه المركزية.
بعد الرحيل الغامض لبول باسكون و زميله عاريفستعرف السوسيولوجيا القروية بمعهد الزراعة البيطرة نوعا من الموت السريري ، لينتقلالنقاش مجددا إلى وحدة علم الاجتماع القروي بكلية الآداب بالرباط التي ستلتمع فيرحابها جملة من الأسماء التي بصمت مسار الفعل السوسيولوجي بالمغرب، مثلما ستساهم فيإنتاج العديد من الأبحاث و الدراسات القيمة حول المجتمع القروي المغربي . و لعل هذاكله ما يدفع إلى القول مجددا بأن السوسيولوجيا المغربية هي لحد الآن سوسيولوجياقروية في شقها الأكبر.
ال " كلنا " قرويون
ما يدفع إلى التفكير في هكذا نتيجة هو الطابع القروي للمجتمع المغربي ، فال " كلنا " قرويون ، بل إن الحدود بينما هو قروي و ما هو حضري مغربيا تظل تعسفية و غير منضبطة لمنطق محدد ، لهذا كلهيصير الدرس السوسيولوجي القروي ضرورة ملحة لقراءة تضاريس المجتمع المغربي ، بل إنالانشغال السوسيولوجي بالمجتمع القروي من شأنه أن يساهم فعلا في خدمة المشروعالنضالي للسوسيولوجيا, "فالعلاقات السلطوية ما زالت سائدة في العالم القروي، ومع مايطبعها من إكراه ومحسوبية وتطاول على حقوق المواطنين... وهي تؤكد المحن التي يعيشهاالعالم القروي" وهنا يحق لنا أن نتساءل مرات أخرى: ما الذي نريده من السوسيولوجيا والسوسيولوجيين؟ وما الذي نتغياه من علم الاجتماع القرويتحديدا؟
"إن العالم الفلاحي يمثل مشهد جمود تديره وترعاه النخب المحلية التي التحقت بالدوائر الإدارية كقواد وشيوخ ومقدمين" إنه عالم واقع بلا شك تحت رحمة المخزن الذي نجح كثيرا فيعمليات الاختراق والاحتواء، و "لهذا تظل البوادي هادئة تماما حتى عندما يكون النظامالسياسي معرضا لرجات" . فهذا "الثبات الاجتماعي" من جهة وهذا الاختراق المخزني منجهة أخرى ألا يستوجبان معا وقفة خاصة من أجل الخلخلة والتفكيك العملي والعلمي؟ أولا يقودنا الوضع الشاذ الذي ينخرط فيه المجتمع القروي إلى تلك المهمة الأساسيةالمبحوث عنها في علم الاجتماع القروي؟
إن تسخير السوسيولوجيا للنبش في هموموآمال المجتمع القروي أمسى مطلبا أكيدا في راهننا هذا، الذي تعالت فيه آهاتالفلاحين وزفراتهم الساخطة، فحاجتنا إلى سوسيولوجيا قروية أكثر جرأة في الطرحوالتحليل ضرورة قصوى ، بل إن الحاجة إلى هذه السوسيولوجيا لا يحددها فقط ما يعتملفي العالم القروي من ظواهر وحالات عصية على الفهم ، ولا توجبها حصرا محدوديةالدراسات والأبحاث التي تصدت لها، وكذا ضرورات توسيع دوائر الاهتمام العلمي بها،وإنما تفرضها فرضا خصوصيات المجتمع المغربي عموما.
فكم نتناسى طبيعة المجتمعالمغربي الذي هو قبل كل شيء مجتمع قروي، وأن أزمة المجتمع القروي هي في العمق مرآةلأزمة المجتمع المغربي، والطابع القروي لمجتمعنا لا ينحصر في بعض الأرقام المتعلقةبالوزن الديموغرافي لسكان البادية (45%) وبنية اليد العاملة في البادية (41%) وكذلكحجم الإنتاج الزراعي (20% من الناتج الداخلي الخام), فإلى جانب العوامل الاقتصاديةوالاجتماعية توجد عوامل تاريخية، حضارية، سياسية وثقافية، وكذلك عوامل تخص نمـطالعيش والسلوك، والتي تؤكد أن مجتمعنا لا زال قرويـا . كل هذا إذن يجعل البحث فيشجون المجتمع القروي مبررا ومشروعا جدا، خصوصا في عمق الانشغال بالعلاقات والتمثلات المرتبطة بالسلطة المخزنية، ويدعو في الآن ذاته إلى إعمال النظر العلمي فيعالم الفلاحين الذين تبدو العلاقات بينهم وبين الدولة جد مبهمة للغاية, ذلك أنهميعيشون دوما على خشيتها وأمام القرار الفالت من أيديهم. إنها إله رهيب ومصدر لنعمغير منتظرة.
على سبيل الختام
بعد هذا المار ذكره نطرح السؤال مجددا : ماالسوسيولوجيا القروية ؟ ما مراكز اهتمامها المعرفي ؟ و ما الذي نتغياه من هكذا تخصصسوسيولوجي ؟ و أي التعاريف تبدو منطقية و معبرة عن حقيقة السوسيولوجيا القروية ؟
كان التأكيد منذ البدء على أن ما ينطرح على حواف هذا القول ، لن يكون غير " فتحلشهية " الحديث عن السوسيولوجيا القروية ، طبعا لن يكون إلا مقدمة تمهيدية تحرض علىالتساؤل أكثر ما تراهن على تقديم الإجابات الجاهزة ، فمع الحديث عن البدء والامتداد و الانشغال المعرفي و القرية أولا و الرواد بعدا و الانعطاف نحو ال " هنا " و الآن ثم التأكيد على قرويتنا الغائرة ، لم نكن نهفو لا إلى تقديم جواب جاهز عنماهية السوسيولوجيا القروية ، و لا إلى أي تحديد صارم لانشغالاتها و آليات اشتغالها، فقط كان هم الاقتراب منها هاجسنا المركزي و سؤالنا البعدي .
السوسيولوجياالقروية وفقا لتطورها التاريخي لن تكون غير سوسيولوجيا مسكونة بأسئلة المجتمعالقروي في جميع حركاته و سكناته ، تفاعلاته و تحولاته ، اتساقه و اختلاله ، لن تكونأيضا غير معرفة متعددة المداخل و المشارب ، تؤمن بالتخصص العلمي لكنها تجد نفسها فيكل حين مدعوة لاستثمار خلاصات و مناهج كثير من العلوم الشقيقة و الصديقة ، و مع ذلككله فإن سبر أغوار هذه السوسيولوجيا لا يكون ممكنا إلا بالنزول إلى الميدان ، لأنهامعرفة ميدانية بامتياز .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق