حملت سيمون دي بوفوار رسالتها للعالم حيث لعبت خلال مسيرتها الأدبية دورا رياديا في حركة تحرير المرأة .
فسيمون دي بوفوار(1908-1986)، أديبة فرنسية مثقفة حصلت على دبلوم في الفلسفة سنة1929 بتفوق، رفضت الخضوع لمصيرها المرسوم كأم وزوجة وكان لقاءها مع الكاتب جان بول سارتر حسب قولها:" الحدث الرئيسي في وجودها" (الكل مهم فعلا) 1972.
عاشت دي بوفوار هاجسا استحكم جل نشاطها الفكري، وهو هاجس الحرية وعلى الخصوص حرية المرأة ومن خلال ذلك حرية الكائن الإنساني عموما.
ويبقى مؤلفها " الجنس الآخر" 1949 من أهم وأشهر مؤلفاتها داخل فرنسا وخارجها والذي كان المرجع والمُعبّر عمّا كتب عن المسألة النسوية لفترة معيّنة، عالجت فيه وشخّصت الأوضاع التاريخية والاجتماعية والنفسية والخضوع الثقافي للمرأة لمجمل هاته الطابوهات الصمّاء.
ساهمت دي بوفوار في الحركة الثقافية الفرنسية عبر سيرتها الذاتية التي ركّزت فيها على تجاربها كأنثى وامرأة ابتداءا من كتابها، قوة السن 1960، وقوة الأشياء 1963، الموت السهل 1964، الكل يهم فعلا 1972، احتفال الوداع 1981، وذاكرة فتاة صغبرة 1985.
تحدثت في" قوّة الأشياء" عن رغبتها في إبراز ومساءلة الوضعية النسوية حيث قالت:" رغبة مني في الحديث عن نفسي، أرى أنه ينبغي لي وصف الوضعية النسائية" (1)
وقد انطلقت الكاتبة عند تشخيصها لوضعية النساء من تساؤل مشروع هو " من هي المرأة ؟" لتحدد هويتها والتي وجدتها هوية مُستلبة، من اختلاق الرجل وحده.
وقد ألقت نظرة مقارنة على عالم النساء الأمريكيات لتستشعر وإيّاهن نفس موقف التحدّي الذي ينتابهن خاصة ما يثبت شعور الأنثى بنفسها الذي يطغى على حضورهن الجسدي والنفسي تقول معربة عن هذا التحدي " إذا كانت الأنوثة وحدها لاتكفي لتعريف المرأة ورفضنا أن نفسّرها بمفهوم "المرأة الخالدة" وبالتالي إذا كنا، نسلم ولو يصورة مؤقتة، أن هناك نساء على الأرض، فعلينا حينئذ أن نتساءل ما هي المرأة ؟"(2).
عاشت المرأة الفرنسية عند دي بوفوار اضطهادا نظريا رغم أنها عمليا كانت متفتحة على فضاءات الضوء ومحلات تسويق الأنثى للبحث عن الآلهة بمنظار الحب..حب الرجل، تقول:" يشاهد لدى كثير من الورعات هذا الخلط بين الرجل والإله" (3)، وبذلك فالمرأة حسب دي بوفوار تخلق علاقة غير واقعية على المستوى الانتربولوجي مع كائن واقعي.
فهل حقّا أن الرجل الديمقراطي يستطيع الابتعاد عن الذاتية في طرح المسألة النسائية بصورة موضوعية ؟، وأين حدود الموضوعية هاته حينما نعلم أن القيود التي تلُفُّ أرجل النساء مصنوعة من معدن السلطة السياسية التي تُسخِّر اللاهوت والفلسفة والقانون لخدمة مصالحها؟.
إن معالجة موضوع المرأة ليس جديدا، وبالرغم من ذلك فقد ترددت سيمون طويلا في القدوم على تأليف كتاب حول المرأة حيث قالت:" ترددت طويلا قبل أن أقدم على تأليف كتاب حول المرأة"(4).
ويمكن طرح تساؤلات مشروعة حول هذا التردد وبنائه من الناحية النفسية لألتقي بالطرح الذي رسمته الدكتورة نادية العشيري حول التطرق لموضوع المرأة والخوف من ردود أفعال الآخرين أفرادا وجماعات (5).
ـ هل يحدد سبب تردد دي بوفوار قوّة المجتمع الذكوري الذي لا يستسيغ صوت المرأة المرفوع، على اعتبار ما يثيره استخدام اسم المرأة من حساسية للتقليدين ؟(6).
ـ هل تشكل كتابة المرأة نشازا يحرك لدى الذكر دوائر خوفه على مكانته وقيمه من الاقتحام؟.
ـ هل تكتب المرأة خصوصية علاقتها بالرجل فقط وبذلك فهي تكتب صمت النساء...جهل النساء... بكاء النساء... وبالتالي أميتهن؟.
ـ هل فن الكتابة سابق على الحرية أم أنه يليها؟.
ـ هل تردد سيمون يعني أن حريتها لم تنضج بعد لتصبح حرية دائمة؟
إن هذه التساؤلات وإذ تؤكد الحضور القوي لردود الأفعال لدى الآخرين تجعل سيمون تلخص عبره مشكلة الإنسان الفرنسي مع الحرية ..الحرية التي تجعل الرجل حسب دي بوفوار مادة ثورية وبذلك تصبح الأديبة بإبداعاتها الثورية حرّة أمام بنية الحياة الاجتماعية الموروثة، وقد جعل ريمبو الحرية شرطا من بين الشروط الأساسية لممارسة الإبداع الشعري حيث قال :" عندما تتكسر عبودية المرأة الدائمة، ويمنحها الرجل البغيض حتّى ذلك الحين حريتها، آنذاك ستغدو شاعرة هي الأخرى" (7).
إن الدور الحقيقي للمرأة الساردة هي الثورة على النسق القيمي المهيمن ونسف الأصنام التي يستدعيها الرجل باستمرار لتغدو مقاييسه التي يمتلك بها الجنس الآخر، باهتة، وقد طالبت دي بوفوار بتحريك أزمة القيم الأنثوية التي تعتبر ممارسات قائمة عمليا وغائبة على الصعيد النظري تقول في كتابها "الجنس الآخر"، " المرأة هي أيضا تعرف القيم التي يقوم الذكر بتحقيقها بصورة فعلية، والحقيقة أن النساء لم يجابهن قيم الرجال بقيم أنثوية " (8).
إلا أن سيمون لم تكن تقصد أن الكتابة هي السبيل الوحيد الذي يضع الخريطة النفسية والاجتماعية لذاتية المرأة ولم تكن تعني أن الكتابة الشعرية والفكرية ستجعل المرأة، حقيقة فاعلة في تموُّج العالم حيث تقول: " ليست الأفكار والأشعار هي التي تُؤدي إلى تحرير المرأة" (9)، فبينما يهيمن الرجل عن طريق الكتابة الوظيفية التي تجعله يسيطر على مجالات السلطة والمعرفة وبالتالي القوة، حيث تعتبر اللغة هي فضاءه المثالي لتسكيك القيم وفرض سيكولوجية السلطة الذكورية على الواقع، إلى أن جاء القرن الثامن عشر بالحل حيث " أخذ بعض الرجال المشبعين حقّا بالديموقراطية يواجهون المسألة بصورة موضوعية " (10).
وترى كاتبتنا هنا أن وضعية التوازن التي تبحث عنها ما زالت غير مكتملة العناصر بسبب:
ـ شموخ التقاليد وصعوبة تصريف المرأة لحياتها الجنسية بدون تدخل مسألة التبعية التي تربطها بمصيرها التقليدي.
ـ تسهيل المجتمع لاستسلام المرأة لمصيرها التقليدي الذي يؤثر على مردوديتها وانطلاقتها في تفعيل تحررها لتحقيق توازنها الداخلي.
ـ احتدام الصراع بينها والرجل لاسترجاع ذاتها عبر تحطيم الأصنام التي تخندقت فيها وجعلتها تابعا ومُلحقا وذلك عبر تحطيم تفوق الرجل والتنكر لحقيقته وقيمه.
ـ المرأة ذاتها وفي سعيها الدائم للقضاء على أسطورة أنوثتها وتحررها من عبوديتها تكتشف أن أسطورة الذكر مُنْغرسة عميقا في كيانها ذاته تقول دي بوفوار" إن سحر الرجولة لا يزال محافظا على تأثيره الكبير لدى النساء وما انفك يستند على قواعد وأسس اقتصادية واجتماعية راسخة" (11).
إن تحرر المرأة رهين بمدى استطاعتها تغيير الصورة التي ينظر بها الرجل لها ولخصائصها الجسدية والنفسية، ومدى تحررها من الموروث الثقافي الذي يشكل سلبا حيواتها اللاواعية، وهذا الدور منوط بالمرأة الكاتبة التي تملك ناصية اللغة لتبليغ المشاعر والأحاسيس" للآخر " الذي تمثل المرأة في عُرفه الجنس" الآخر"، فالأنثى تحوّل إلى امرأة ضمن واقع ذكوري متسلّط تشكّلت شخصيته انطلاقا من مفهوم السلطة التي وضعت ملامحها وحدودها السلطة الاقتصادية عبر العصور وبذلك صرخت سيمون دي بوفوار " إن الشخص لا يولد امرأة، بل يصبح امرأة "، ومن ثم أصبح النضال الاجتماعي من أهم ركائز التغيير في وضعية المرأة، هذا التحول في مسار المرأة الكاتبة وكل امرأة كاتبة هو أساس الانخراط الصعب للتحسيس بوضعية المرأة وبالتالي تغيير أوضاعها نحو الأفضل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق