يقول جبرا في مقدمة البئر الأولى أن مرحلة الطفولة هي أصل الكينونة، وهو بذلك يوافق ووردزوورث أن الطفل هو والد الرجل. وينتقي جبرا ابراهيم جبرا أحداثاً معينة تركت بصماتها عليه، ورغم ما في هذه الطفولة من قسوة وظلم إلا أن لهذه المرحلة سحرها ووهجها.
الحياة لجبرا هي سلسلة آبار، لكن البئر الأولى هي الأهم وهي الأغنى لأن فيها تتجمع التجارب والرؤى والأصوات بأفراحها وأحزانها. وكل ما يأتي بعدها يتفاعل معها ويساعد صاحبها على تطوير مفاهيمه للحياة وتكيفه معها.
كيف تشكلت البئر الأولى عند جبرا؟
خبرات كثيرة توفرت لجبرا في بئره الأولى، صقلت حواسه، ووسعت مداركه، تفاعل معها بما يحمل من قيم جسدتها قصص أبيه وأفكار أخيه الأكبر يوسف، وبلورت لديه مفاهيم الخير والعدالة الإجتماعية. الأسرة، المدرسة يخففان من حدة قسوة الظروف المعيشية بتشجيع دافىء. صحيح أن كثيراً من هذه الخبرات تولد في اطار ظروف حياة صعبة من الفقر والحاجة، لكن جمال الطبيعة كان ملاذ جبرا، وساعد على أن تتحول هذه الظروف إلى حوافز من أجل خلق بدائل مبدعة لحل مشاكل يصعب حلها بالطرق المعروفة.
جبرا يزرع الأرض ويربي الدجاج والبط والخرفان والخنازير، ويراقب سلوك الحيوانات والطيور. يراقب قطته فلة وهي تطارد الجرذان، ويتابع علاقة أخته سوسن بالقطة. يراقب سلوك الدجاجة التي تفقس بيض البط، وسلوك الخنازير عندما تكتشف، في غياب الرقيب، أن باب الحظيرة مفتوح، فتقرر الهرب من الحظيرة، سلوك الحمير عندما يتدخل غريب في حركتها، وسلوك الناس عندما يشتد الفقر فيبكي الرجال، سلوك القوي عندما يفتقر إلى الحكمة فيصبح أشبه بالمارد الذي سمع عنه ولم يره.
جبرا يعرف معنى أن يعطي الفرد من أجل استمرار الآخرين حين يرى والده يكد ويكدح، وما يجنيه لا يكفي لقمة العيش مما يضطره إلى بيع حذاء ابنه جبرا الذي كسبه كجائزة، من أجل استيفاء مصاريف العيد. جبرا يحلم بالحذاء الجديد ولا يلبسه، وتظل هذه حسرة في نفسه، إلى أن يدرك أنها أيضاً حسرة في نفس أبيه حين يسمعه يخاطب أمه، "ليتك يا مريم لم تبيعي ذلك الحذاء. حرمنا الولد منه، ونحن في عيد." لكن أمه التي هي الأخرى فعلت ما فعلت بحكم الحاجة تحاول التخفيف من الشعور بالذنب قائلة، "الذي صار، صار. والبركة فيك يا أبو يوسف، غداً نشتري له ألف حذاء!" لكن جبرا يعرف أن الأمر ليس سهلاً وهو يراقب أباه يصنع لنفسه وطا ينتعله لكل يوم كي يوفر حذاءه الذي بدأ في الإهتراء، والذي لا يملك أن يشتري غيره، للقداس .
جبرا يعرف كيف يفرح الكل من أجل واحد حين يجد من العائلة تشجيعاً ، "عفارم". الكل يتفرج بفرح على دفتره الجديد، وقد عمل بجد من أجل أن يحصل على ثمنه. كل شيء كان يمكن التغاضي عنه إلا عندما يتعلق الأمر بالمدرسة، أو الكذب. لذلك، عندما يستخدم جبرا الدفتر من أجل عمل طقاعات، ويلجأ إلى الكذب من أجل أن يداري غلطته، ويتغيب عن المدرسة دون علم أهله، ويعود إلى البيت عند موعد الانصراف، تقف الأم منه موقفاً حاسماً. ورغم دفاع الجدة عنه، إلا أنه لا يَسْلم من "أكل قتلة" من النوع الفاخر. وربما كان أهم دور لعبته العائلة هو ذلك التشجيع والتعامل مع حماقاته بنوع من التغاضي، أو النكتة أو بتسامح ومحبة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، أورد هنا بعض الأمثلة لتعامل العائلة مع جبرا في بعض المواقف. مثلاً، في حكاية حبرا مع الهيطلية، يدعو جبرا رفاقه، من باب التباهي، لتناول الهيطلية، والسبب أنه يريد أن يثبت لهم أن عندهم هيطلية، والتي كانت شيئاً لا يتكرر حدوثه كل يوم في بيت لحم في ذلك الوقت بسبب ظروف الحياة الصعبة. وعندما لا يبقى منها شيئٌ للأب الذي سيعود من عمله في المساء متعباً وجائعاً، يكتشف جبرا نتيجة تباهيه أمام رفاقه، فيطلق ساقيه للريح قبل أن تكتشف أمه ما حدث. ويظل الخوف يطارده إلى أن يعيده الجوع. لكنه يظل خائفاً أن يدخل البيت، فينادى على جدته، لكن أخاه يوسف يخرج إليه ضاحكاً وهو يقول، " تعال، ادخل! تطعم غيرك بالملعقة وأنت تأكل بالمغرفة! عال والله! ويجر جبرا إلى الداخل ليقابل أمه التي كانت عيناها تقدحان بالغضب. ويصف جبرا تلك اللحظة التي تراه فيها أمه قائلاً، " وفجأة رأيت الغضب في عينيها يذوب إلى ما يشبه الضحك، حين قالت، "يا شيطان! أتوزع أكلنا على الناس؟ أتحسب نفسك ابن سليمان جاسر؟ اشبع أولاً، وبعدين أطعم الناس
وفي موقف آخر، يكتشف يوسف أن جبرا استخدم كتابه الإنكليزي المزين بالصور من أجل أن يعمل صندوق العجب، فيقول عندما يرى جبرا يجهش بالبكاء، " يلعن أبو الكتاب،" ويلتفت يوسف حوله يميناً ويساراً، بكبرياء ويقول، "لا أريد أن يراك أحداً أحد تبكي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق