تقدم رواية الشاعر والكاتب الآيسلندي شون “الثعلب الأزرق” الصادرة عن منشورات تلغرام التابعة لدار الساقي، مفهوما مختلفا في المعالجة الدرامية، سواء من خلال الأسلوب أو ضغط الزمن أو توزيع الحدث على شخوص عدة بدلا من اقتصارها على بطل أساسي، ومحيط ثانوي. والواقع أن الكاتب الذي نال أرفع الجوائز الأدبية للشمال، يقدم للقارئ عموما جملة مقتضبة، تنفلت من أية ضرورات سردية، ولا تتنازل عن كيانها الفني لصالح الثرثرة السردية. ينعزل الفصل الأول من العمل، في أسلوب نثري، مقتضب/ مختزل، وغير بعيد في الوقت نفسه عن سلطة الجملة الشعرية. غير أن ما يعزز من الجمالية ههنا، هو التماثل الدقيق بين الموضوع وتقنية استعراضه. إذ نشهد أولا، مطاردة بين صياد وأنثى ثعلب
وبغض النظر عن احتمالات المعنى والرمزيات الاجتماعية والفلسفية التي تقيم تحت قشرة هذه المطاردة، فإننا نلتفت إلى بعدين. الأول سينوغرافيا المشهد: أرض أفقية نسبيا، عارية تقريبا، تتدخل فيها تقلبات مناخية (النورديك)، وتخترق البعد الثاني مباشرة. وهو البعد العمودي، المرتبط بالقرارات والتفاعلات النفسية لدى كل من الصياد والطريدة، دون إعطاء الأفضلية لواحد منهما على الآخر. هذا التوتر بين الجينة الجغرافية الفجائية، التي تفرض شرطها الطارئ على طرفي المطاردة، وبين المكوّن البسيكولوجي الذي ينعزل كمادة نشطة لا يفاضل فيها الكاتب بين إنسان وحيوان، يتم في لغة حيادية تقريبا، وغير متكلّفة. بمعنى أنها لغة تترك أمر تفسيرها لاحقا كمهمة من حق القارئ. وهي كذلك لغة شديدة التأني، متقطعة، نثرية، تشبه الوطء الحذر على الثلج، ويبدو الكاتب فيها وكأنه استخدم الممحاة أكثر مما استخدم القلم. في علم الرياضيات، يشبه الأمر تحديد مجموعة من النقاط تكوِّن مساراً بين محوريِّ إحداثيات. والواقع، أن المنهج الذي يسلكه الكاتب الآيسلندي، يقدم، احتمالات جديدة للتعاطي مع المفهوم القصصي والسردي
غير أن هذا التقشف في اللغة، يأتي ملغوما بإيقاع بطيء. فالتقشف لا يفضي بالضرورة إلى السهولة، والبطء لا ينتج الاستياء، والاقتضاب في العبارة لا يؤدي إلى فرض المتلقي حساباته على العمل. تقطيع الجملة، وفصلها كخلية بصرية على حدة، ومن ثم تضمينها تشبيهات شعرية جديدة، ونبرة متهكمة، يجعل من هذه الجملة، مستوعبا صغيرا لإحدى مفارقات الحياة. ومن هنا، تتحول الحياة، إلى عينة منفصلة عن العالم، معزولة عن النظم البشرية الهائلة الحراك، منكفئة في تقاليدها الخاصة، بمعنى أصح، حياة مصونة تماما. وفي هذه العينة من الحياة، تتوالد حيوات أقل خفوتا، لكن أبلغ في حدتها، إضافة إلى عبثيتها في بعض أوجهها. قد يدل هذا على أن الجملة حكما كثيفة، وقد يكون هذا الاعتبار صحيحا إلى حد ما، غير أن ما يبعث على الارتباك، هو مرونة هذه الجملة الروائية في الوقت نفسه. وهذه التقنية في رفع الوجه الجمالي، تشكل معوّضاً عن النشرات الفاحصة للحياة والتي تكثر في العديد من الأعمال الروائية. ليبدو النتاج الشمالي الجديد، نسيجا مشدودا قوامه السرد والتأمل، كضفيرتيّ “دي أن إيه” معقودتين ببعضهما
الثعلب الأزرق” رواية لا تتوخى المينيمالية حصراً على المستوى التقني، ذلك أن المينميالية تنسحب حتى في مكوِّنيْها الزمني والإنساني. سقف العمل، لا يشترط بناؤه تطوّرا سياسيا عاما، ولا يستقدم تعقيدات مجتمعية أو دينية بالغة أو تضاربات فكرية عميقة أو جدالات وجودية مثلا. وبالتالي فإنها رواية لا تجاهر بإيديولوجية ما، كأن تقول مثلا أن هذه الإيديولوجية شأن سام مطلق يُستحَق الدفاع عنه ونقاشه، وتأليف دراما حواليه. إنها رواية الفردية، الأنا الملتصقة بحاجاتها، والمعرّضة للتشرذم والهذيان والصدمات غير المدعوة. أما قضية هذه الأنا، أو مسألتها، فتمس جذورها تاريخ الشخص ومؤلّفه البيولوجي والعاطفي، وتنطوي على انشغالات تصيب الكيان الفردي، أي أنها لا تنوي تأجيج إشكاليات “القضية الكبرى” في الحب والحرب والعبودية ونمط الحياة، أو استهلاكها. وكل ذلك يأتي موزعا كفتات بين ثنايا العمل. وما يثير الفضول، أن الكاتب تعمّد (كما يبدو لنا على الأقل)، تخليص الرواية من أية شخصية رئيسة مهيمنة، وتوزيع “الحياة”، وإن بشكل غير متكافئ، على الشخصيات. وهو توزيع أنيق، بحيث لو أخذنا أية شخصية من العمل، فإنه يمكن الانطلاق منها إلى كتابة الرواية بصيغة أخرى. بهذا نحن أمام عمل روائي متمهل حتى في بناء الادوار (بغض النظر عن مدى تطابقه مع الأرشيف). يتم فيه تسيير الظرف اليومي، بحيث تتقاطع تفاعلاته بخبث مع الطموح الفردي غير المنتبه
الرواية تستند إلى الفترة بين التاسع والسابع عشر من يناير 1883. بذلك، فإن أحداثها تنحصر في ما يتجاوز الأسبوع بقليل. قسّمها شون على ثلاثة فصول/ ثلاثة فترات. وعزلها عن بعضها ظاهريا. أي أن الأمر متاح أن نعيد قراءتها بترتيب آخر، بالتالي، التلاعب بالزمن وتنظيمه، من خلال سلطة الحدث نفسه، بما يخدم روزنامة المخيلة، وما يصب في خانة الأدب أولا، والإختبارات الجديدة التي باستطاعة هذا الفن أن يقدمها للقارئ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق