ربما لم يكتب عزيز نسين العديد من المسرحيات مقارنةً بقصصه، لكن المسرح والحبكة المسرحية لا تخلو من أعماله القصصية والروائية، وتكاد أعماله أن تكون في بعضها خليطاً بين الجنسين.
تسيطر الكوميديا، والرؤيا النقدية السياسية الاجتماعية الاقتصادية على تفكير نسين وقلمه، ويمكن اعتباره المقاوم الأكبر للسلطات في العالم، والمضطهد الأول الذي تدوسه السلطات التركية في أكثر من عهدٍ من عهودها، فهو لا يخرج من مخفرٍ حتى يلتحق بسجن، ولا يهرب من رقابةٍ إعلامية حتى يتوقف وتوقف أعماله، حتى أضحت حياته في معظمها هروباً من السلطة التركية التي لم يستطع مهادنتها.
عزيز نسين 1915 - 1995 واسمه الحقيقي «محمد نصرت» ولد في إحدى الجزر القريبة من استانبول، والواقعة في بحر مرمره لعائلةٍ فقيرة، استخدم اسم «عزيز نسين» -الذي عرف به فيما بعد - كاسمٍ مستعار، وكنوعٍ من الحماية ضد مطاردات الأمن السياسي في تركيا، ولكن رغم ذلك فقد دخل السجون مرات عديدة.
ويعتبر نسين واحداً من أهم كتاب الكوميديا السوداء في العالم والمضحك المبكي في حياته أنه وبرغم شهرته الواسعة في كل أرجاء العالم كمبدع فذ إلا أن بلده الأم تركيا لم تعطه من حقه سوى القليل، وكانت دائماً – ممثلةً بأجهزة الأمن والمخابرات – تعتقله، وتزج به في السجون.
كتب في العديد من الصحف التركية، وأصدر مجلة أسبوعية خاصة به باسم «السبت»، تمكن بالتعاون مع الأديب التركي «صباح الدين علي» من إصدار جريدته الشهيرة «ماركو باشا» التي وصلت مبيعاتها إلى 60000 نسخة يومياً. اعتقل بسبب مقالاته في الجريدة وحوكم أمام محكمة عسكرية عرفية وحكم عليه بالسجن عشرة أشهر وبالنفي بسبب انتقاده في أحد مقالاته للرئيس الأمريكي هنري ترومان. وأغلقت على إثر مواقفه هذه جريدة «ماركو باشا» مع اعتقاله، فعاود إصدارها باسم «معلوم باشا»، ثم راح يعيد إصدار المجلة، مع تغيير اسمها في كل مرة يتم فيها اعتقاله وإيقاف الجريدة عن الصدور، فمن «معلوم باشا» إلى «مرحوم باشا» ثم «علي بابا»، ثم «باشاتنا»، ثم «ماركو باشا الحر»، وأخيراً جريدة «مدد».
حكم عليه بالسجن ستة عشر شهراً بسبب ترجمته لأجزاء من كتاب كارل ماركس «رأس المال»، عمل مصوراً وصاحب دكانٍ لبيع الكتب لكن السلطات التركية تابعت ملاحقته وسجنه.
نال السعفة الذهبية من إيطاليا عامي «1956» وفي عام «1957» انتخب نائباً لرئيس اتحاد الأدباء الأتراك، ثم انتخب رئيساً لنقابة الكتاب الأتراك بعد تأسيسها. ونال الجائزة الأولى في المسابقة التي أجريت في تركيا تخليداً لذكرى الشاعر الشعبي «قراجه أوغلان» عن مسرحياته «ثلاث مسرحيات أراجوزية». وكذلك جائزة اللوتس الأولى من اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا
أنشأ وقفاً نذر له ريع كل أعماله الأدبية، وكانت مهمة هذا الوقف رعاية الأطفال الأيتام حتى آخر مراحل الدراسة الجامعية، وتأمين عمل أو مهنة لمن تعثر منهم في دراسته، وقد استقبل هذا الوقف أول فوج من الأطفال الأيتام في أواخر العام 1977.
أهم أعماله المسرحية: ثلاث مسرحيات أراجوزية، وحش طوروس، حرب المصفرين، وماسحي الجوخ.
ومن أعماله القصصية:
لا تنس تكة السروال، خصيصا للحمير، أسفل السافلين، الطريق الطويل، الفهلوي «زوبك»، مجنون على السطح، الهداف، صراع العميان، آه منا نحن معشر الحمير، الحمار الميت لا يخاف الذئب، الطريق الوحيد، بتوش الحلوة، قطع تبديل للحضارة، الاحتفال بالقازان، يحيى يعيش ولا يحيا.
كانت علاقة نسين بأمه دراماتيكية، حيث تركت أثرها في مخيلته منذ كان طفلاً وسطرت منهجه الفكري بخطوط حزينة أخذت شكل السخرية السوداء الناقمة على التخلف البغيض والنفاق المستشري في المجتمع التركي آنذاك.. لقد جاءت كتاباته عن أمه بقدر عظيم من التبجيل والحب الذي وصل إلى درجة عالية من القدسية. وفي الوقت ذاته دمج بين هذا التبجيل والغضب وقلة الحيلة والثورة على التخلف والجهل الذي عامل المجتمع التركي به المرأة التركية، والذي تجلى في إحدى قصائده النادرة:
أنت الأجمل من بين كل الأمهات
“أنت الأجمل من بين أجمل الأمهات.. في الثالثة عشرة كان زواجك، في الخامسة عشرة كانت أمومتك.. في السادسة والعشرين جاءت منيتك.. هكذا قبل أن تعيشي. كم أدين إليك بهذا القلب المليء بالحب، فأنا لا أملك حتى صورتك، كانت خطيئة أن تكون لكِ صورةً فوتوغرافية.
لم تشاهدي الأفلام ولا المسرحيات، ولم تشهدي الكهرباء ولا الغاز ولا الموقد الكهربائي، ولم توجد أغراض البيت ومستلزماته لديك، لم تسبحي في البحر يوماً. لم تستطيعي القراءة ولا الكتابة. ولكن من وراء حجابٍ أسود كانت عيناك الجميلتان تنظران إلى العالم.
أتتك المنية وأنت في السادسة والعشرين، قبل أن تعيشي، من هنا أقول: لن تموت الأمهات قبل أن يعشن. هذا ما كان عليه الأمر. أما الآن فهذا ما يصير إليه الأمر.
لكم تمنيت لو أعطي مقابل كل قطعةٍ من تلك القطع التي طرزتها يدا أمي كل كتبي وكل ما سأكتبه».
وتظهر حرفية نسين وعمق الرؤيا النقدية له في هذا النموذج من روايته الجميلة “الطريق الوحيد”:
“عملي الاحتيال، أتعرفون أن قانون العقوبات التركي يحدد أخفض العقوبات للاحتيال؟ لأن الاحتيال يتم بالتبادل بين طرفين – المحتال والمحتال عليه – كلٌ منهما يريد الاحتيال على الآخر. في الحقيقة إن المحتال عليه مذنبٌ بقدر المحتال، لأشرح لكم: محتال يحاول بيع قطعة أرضٍ بمائة ألف ليرة بالرغم من أن قيمتها مليون ليرة، المحتال عليه يريد شراء قطعة الأرض التي يعرف أن قيمتها مليون ليرة بمائة ألف ليرة، أي أنه يخدع البائع ويحتال عليه، إن كافة الاحتيالات تتم بالتبادل، لا يوجد أي احتيالٍ بدون طرفين يرتكبان ذنباً بآنٍ واحدٍ. في الحقيقة إن المحتال عليه هو شريك المحتال. وفهمت أن أخطر أنواع الاحتيال هو احتيال الشخص على نفسه، وبما أنه من أجل الاحتيال لا بد ممن وجود طرفين فأنا أصبح طرفين في شخصٍ واحدٍ. ولكن كيف أحتال على نفسي؟ بخديعة الطريق الوحيد، التي كنت مؤمناً بها. فالناس يحتالون على أنفسهم بكذبة الطريق الوحيد هذه: تجد العاهرة حجةً لاتجاهها هذا، فتقول: وماذا أفعل؟ ليس لدي حلٌ آخر. سقطت في الطريق السيئ، ولكن هل الحقيقة عدم وجود أي حلٍ آخر؟ أم أنها تقول: “ليس لدي حلٌ آخر” لتحتال على نفسها. من الممكن أن تجد امرأةً أخرى في وضعٍ مماثلٍ، أو أكثر سوءاً لكنها لا تقول: “ليس لدي حلٌ آخر”، وتجد حلاً، ولا تغدو عاهرة.. “ليس أمامي طريقٌ آخر اضطررت إلى السرقة”، “وماذا يمكنني أن أفعل؟ ابني جائع زوجتي مريضة.
إذا قال الإنسان لا يوجد أمامي طريقٌ آخر، أي إذا ربط كل الحلول بهذا الطريق الوحيد، هذا يعني أنه بدأ يحتال على نفسه.
ترى كم من الكتاب استطاعوا إيجاز فكرةٍ بهذه البساطة والعمق؟”
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق