ما إن قيض لهذا الكتاب الظهور حتى بات من أكثر كتب السنة إثارة للجدل والمحاجة والتفنيد، فهو يروي قصة فكرة مثيرة تتنكب المألوف، أطلقها فيزيائي شاب لا مع، قد تزيح أينشتاين عن عرش ملكه، وتغير -جذرياً وإلى الأبد- أسلوب نظرتنا إلى الكون.
حسبك أن تنطق بكلمة "ضوء" في سياق فيزيائي، ليردد الناس معظم المبدأ الراسخ: أن لا شيء أبداً أسرع من سرعة الضوء. وهذا حق، فما من شيء أسرع منها البتة. غير أن للضوء خصيصة أخرى مذهلة أحاطها أينشتاين بهالة مصونة في نظريته النسبية الخاصة، مفادها أن الضوء ينتقل بسرعة واحدة فقط، لا تتغير ولا تتبدل، وذلك من ثوابت الطبيعة التي تعد مقدسة، ومن أسس الفيزياء الحديثة المسلم بصحتها. لكن ماذا لو قيل إنها خاطئة؟
ما الذي يحمل شخصاً في مقتبل الثلاثينيات من عمره، وتوفرت له كل المقومات التي تؤذن بمستقبل مهني واعد أمامه، على أن يخاطر بمكانته فيما يبدو أنها فكرة حمقاء تنافي قوانين ألبرت أينشتاين؟ يبين ماكيويجو في كتابه الطريف الرائد هذا أن التفاوت الذي يفترضه في سرعة الضوء يحل عدداً من المشكلات المستعصية في علم الكون. ففي حين أن من الحقائق المقررة المقبولة أن الكون قد بدأ بـ"انفجار عظيم"، ما زالت ثمة جوانب من الكون مستغلقة على التفسير وهي مفارقات مذهلة حيرت عقول العلماء لعقود من الزمان، ومع ذلك فإنها سرعان ما تحل جميعاً بنقله بارعة واحدة باعتماد فكرة التفاوت في سرعة الضوء. كذلك قد يكون لهذه الفكرة آثارها المدهشة حقاً فيما يتصل بارتياد الفضاء والثقوب السوداء وتمدد الزمن ونظرية الأوتار. ومن عجب أن فكرة السرعة المتفاوتة للضوء قد تساعد في الكشف عن النظرية الموحدة الكبرى التي فات أينشتاين نفسه التنبه إليها.
ولسنا هنا بصدد القول إن ماكيويجو على صواب وأينشتاين على خطأ، فهذا غير مهم، بل إن الكتاب يتناول أفكاراً معينة وموقعها من الكون. وهو يبحث في العوامل التي تقارب بين العلماء فتتضافر جهودهم، وتلك التي تباعد بينهم فيتنافرون. إنه كتاب عن السعي الجاهد ليتقبل الناس فكرة تطرحها بقبول حسن، وما هو -في جوهره- إلا تدوين لرؤية علمية ذاتية.
والكتاب أيضاً قصة رجل في محاولة غير اعتيادية لفك مغاليق الطبيعة الحقيقية للكون. وفي إبان مسعاه لبلوغ ذلك يجد ماكيويجو إلهامه في أبعد الأماكن احتمالاً وأقلها واقعية. من ذلك: مراقبة نفر من المتهتكين الذين أخذتهم النشوة وهم يلوحون بأيديهم وداعاً للشمس الجانحة إلى المغيب في موقع كو الهيبي النائي، ومنه: الخوض في موضوع نظرية الأوتار مع زميل في حانة متداعية في نوتنك هيل، ومنه أيضاً: عبور الميادين الرياضية لمدينة كامبردج مشياً في يوك كئيب ماطر...
ويتجرأ جواو ماكيويجو، شأن ريتشارد فاينمان وآخرين من سلفه، ليتحدى مبادئ راسخة الجذور منذ زمن طويل، في كتابه هذا الذي يحكي قصة تلك الرحلة، وهي قصة ما زالت تنجلي حقائقها وتنحل عقدها شيئاً فشيئاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق