قبل أكثر من عامين، وتحديداً في الثالث من نيسان/أبريل عام 2012، كتبت على صفحات هذه الصحيفة (القدس العربي) أٌقترح حل جماعة الإخوان المسلمين في مصر، أو اقتصار عملها على نطاق الدعوة، مع الاكتفاء بحزب الحرية والعدالة كحزب سياسي مستقل. وكانت المناسبة حينها قرار الحركة ترشيح خيرت الشاطر لرئاسة الجمهورية بعد أن ظلت تؤكد حتى ذلك الحين عزوفها عن الترشيح أو حتى دعم مرشح. وكان ذلك العزوف اعترافاً من الحركة بأنها كانت تثير مخاوف الكثيرين، وقد تتعرض لهجمة كبرى إذا سعت إلى الوصول إلى السلطة. وقلت حينها إن إشكالية هذا الوضع لا يمكن معالجتها جذرياً إلا بإبعاد الحركة عن الساحة السياسية، إما بحلها أو اقتصار عملها على المجال الدعوي كما كان أول شأنها.
بعد عام من كتابة ذلك المقال، ساءت الأمور كثيراً كما هو معروف، وتحول اسم الإخوان إلى ‘ماركة سامة’ كما ذكرت في مقال نشر هنا في ايار/مايو 2013، مما جعل مقترح الحل أكثر وجاهة. فقد بلغ الأمر بعد ما حدث من تحركات شعبية (رغم أنها لم تكن مبررة) ومن شحن إعلامي، أن أصبح مجرد الانتماء إلى الإخوان تهمة. وقد ساهم خطاب الحركة وحكومة مرسي في ذلك، كما نشهد من تكرار نفي تهمة ‘أخونة’ الدولة. فكأن حركة الإخوان عصابة مارقة تريد اختراق الدولة، وليست مجموعة من المواطنين الصالحين تتقدم لخدمة وطنها بعد أن انتخبها الشعب ومنحها ثقته!لكل هذا تأكدت إشكالية بقاء الأمور على ما هي عليه، ولم يعد مناص من تغيير جذري. وهذا ما عضدته الأحداث اللاحقة، من انقلاب ثم قيادة بعض دول الخليج لحملة توشك أن تصبح عالمية ضد حركة الإخوان. وفي حقيقة الأمر، لن تحتاج الدول الغربية إلى كثير ضغط خليج لتبدأ حملة ضد الإخوان، لأن إسرائيل وأنصارها واليمين الأوروبي (وبعض فصائل اليسار) كانت تقود حملة أصلاً ضد الإسلاميين منذ سنوات.
من المؤكد بالطبع أن هذه الحملة لن تفشل فقط، بل ستؤدي إلى عكس المطلوب. فلا يخفى أن نجاح الحركات الإسلامية وشعبيتها لا تتأتى إلا جزئياً من برامج هذه الحركات، جيث لم تكن لمعظمها برامج أصلاً. وإنما تميل الشعوب إليها كراهية في التيرات المنافسة، المفلسة سياسياً وفكرياً وأخلاقياً. فما الذي يا ترى يجذب الجماهير لحزب يتسمى باسم دكتاتور مات مهزوماً، مما يؤكد الخواء من أي محتوى فكري، ناهيك عن توجهات ديمقراطية؟ وماذا يغري الشعب لتجربة المجرب في بعث النظام المباركي الفاشل تحت لافتة جديدة، ولكن بنفس الوجوه؟ وما هي الضمانة لنجاح حملات القمع ضد الإسلاميين التي فشلت مع الناصرية والساداتية والمباركية؟ يكفي أن الحركات الإسلامية هي الأقوى في دول مثل سوريا، التي ما زالت تحكم بالإعدام على كل متهم بمجرد الانتماء إليها، وفي تركيا، التي حرمت ولا تزال مجرد الحديث عن الإسلام في خطاب سياسي، ناهيك عن تونس والجزائر وغيرها. فهذه الحملات فشلت بسبب قبح وإفلاس القائمين عليها وهو خير دعاية لأي بديل، حتى لو كان ‘بوكو حرام’.
ولكن المؤكد أن هذه الحملات ستكون كارثة أكبر إذا نجحت. ذلك أنه، وبخلاف ما يروج له خصوم الإخوان، فإن ظهور الحركات الإسلامية المتطرفة جاء بسبب فشل أو غياب الحركات الإسلامية المعتدلة. فقد نشأت حركات مثل الجهاد الإسلامي والجماعة الإسلامية والحركات السلفية في غياب حركة الإخوان، ولم ‘تخرج من عباءتها’ كما يحلو للأمن المصري وحاشيته من المحللين ترداده. بنفس القدر فإن ظهور حركة طالبان الباكستانية والجماعات المتطرفة الأخرى يعود إلى فشل الجماعة الإسلامية وغيرها من الحركات والأحزاب في الاستجابة لتطلعات المواطنين. وعليه فلو نجحت الجهود الرامية إلى إقصاء الإخوان من الساحة، فإنها لن تخلو للأحزاب القائمة التي لفظها الناس، بل ستبرز إلى الساحة حركات أخرى، إسلامية وغيرها لا تسر كثيراً الأنظمة القائمة ولا داعميها الخارجيين.
إضافة إلى ذلك، فإن هذه ليست مرحلة عادية في تاريخ المنطقة العربية، إذ أننا بالفعل أمام مرحلة تغيير ثوري يصعب التنبؤ بمآلاتها. فقد اكتشفت الشعوب قدرتها على التغيير، وعرفت أنها ليست مجبرة على الصبر على حكام لا ترضى عنهم. يكفي أن نشاهد الاختلاف في ردة فعل الشعوب تجاه القمع. فعندما نفذ عبدالناصر مخططه في عام 1954 بالاعتقال الجماعي والإعدامات لقيادات الإخوان، صمت الجميع، ولم يتحرك الشارع لنصرة المظلومين. أما اليوم، فالبرغم من مجزرة رابعة التي راح ضحيتها المئات، وأحكام الإعدام بالجملة، واستخدام الرصاص الحي في فض التظاهرات، فإن الشارع المصري ما زال يتحرك بعد مرور قرابة عام على الانقلاب الدموي. أما سوريا التي صمتت أمام تدمير حماة عام 1982 على رؤوس أهلها، فإنها لم تصبر هذه المرة على اعتقال وتعذيب بضعة عشر طفلاً في آذار/مارس 2011. وفي سوريا كما كان الشأن في ليبيا، لم يتراجع الناس خطوة أمام استخدام الدبابات والطائرات لقمع التظاهرات، وما يزالون صامدين رغم تدمير نصف سوريا وتشريد نصف شعبها، وقتل أو خطف كل من طالته يد النظام من الرافضين. لقد سقط حاجز الخوف وأفلس بنك القمع.
ولكن غياب الرؤية المشتركة حول اتجاه التغيير عرقل التقدم. فقد رفضت الشعوب الدكتاتورية، ولكنها لم تتوافق بعد على نظام حكم بديل. وقد استخدم عبيد الطغيان سلاح بث الفرقة والطائفية وتخويف فئات الشعب من بعضها البعض لاستعادة مواقعهم. ولكن هذه سياسة تدمير ذاتي للشعوب والأوطان، خاصة حين تستخدم ضد الأغلبية من قبل أنظمة تعرف أنها أنظمة أقليات (وإلا لما ذا تخشى الديمقراطية؟). فاستخدام الأقليات لقمع الاغلبية هو أقصر الطرق لتدمير الأوطان، لأنه حين يفشل (وهو فاشل لا محالة) سيرتد على هذه الأقليات، ويؤدي إلى مسلسل لا نهائي من التدمير المتبادل لا يسلم معه وطن.
هناك عليه مسؤولية أخلاقية أمام خصوم الدكتاتورية عامة والإسلاميين خاصة من أجل تلافي مثل هذا التدمير. فبوسع حركة الإخوان الثبات على موقفها، وانتظار أن تدمر الأنظمة المناوئة نفسها، وتتكاثر التنظيمات المتطرفة يميناً ويساراً ، وهو ما سيقع لا محالة إذا استمرت المواجهات القائمة. ولكن هذا سيؤدي إلى مخاطر من نوع ما شهدته سوريا والعراق، من هيمنة للتنظيمات المتطرفة التي لن تدع للإخوان ولا لغيرهم موطئ قدم. وكانت حركة الإخوان قد نجحت في السبعينات في استمالة وتحييد كوادر التطرف، ولكن من المستبعد أن يتكرر هذا.
هناك إذن حاجة إلى مراجعة جذرية للنهج الإخواني. وليس من الضرورة أن يكون حل التنظيم أو إعادة تشكيل الساحة الإسلامية هو الحل كما اقترحنا، ولكن لا مفر من تثوير الساحة السياسية ببناء جبهة ديمقراطية عريضة يكون الإسلاميون جزءاً منها. ولعل في مبادرة بروكسيل التي أطلقتها الأسبوع الماضي قوى سياسية مصرية من مختلف الأطياف مؤشراً للاتجاه الذي ينبغي التحرك نحوه: أي استعادةِ المسار الديمقراطي باستيعاب كل التيارات على أساس مبادئ مشتركة، وإبعاد الجيش عن السياسة، واحترام حقوق الإنسان والحريات الديمقراطية.
د. عبدالوهاب الأفندي (القدس العربي)
كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق