قسنطينة..قبلة العشاق و ملتقى التناقضات
تقول الأسطورة التي لم تقل شيئا و ظلت صامتة لقرون، أنه في القديم عندما لم يكن هناك شيء، مرّ غيم ذات يوم بذات أرض فأغرم بها ، فدنا منها واقترب و اختلس من خدها قبلة فكانت هناك قسنطينة.. مدينة الهوى التي تهاوت من أعلى جسورها قلوب العاشقين، فتناثرت كحروف قصيدة عجز الشعراء عن إتمامها..
قسنطينة المدينة التي أوعزت السماء إلى ماسينيسا أن يحييها فشيدها بالكبرياء على حافة المستحيل، ثم دعا أن تموت على أعتابها فحولة كل طاغية.. فيأتي من بعده قسطنطين ليعيدها للحياة و يفتتن بها، ولا يجد من سبيل إلى تملكها سوى أن يشتق لها اسما من اسمه، فتغدو قسنطينة بعد أن كانت سيرتا و يستمر الصراع في الحياة الأخرى بين ماسينيسا و قسطنطين حولها و يبقى غرورها وحده متربعا على الصخر و لا تعبأ هي بأحد.
قسنطينة قبلة الطامحين..فر إليها يوما فتى تركي من إزمير لا يحمل معه سوى ذلك البريق في عينيه، فاستقبلته و ألبسته برنسها و غذته من كبرياءها فهام بها حبا ومات فيها عشقا و ارتدت نساءها السواد حزنا عليه.
قسنطينة الفاكهة المحرمة التي لن ينالها احد إلا أن يبيع إيمانه.. المرأة المرغوبة و المستعصية بأبوابها السبع و جسورها السبع، و التي أوقفت الفرنسي لسبع سنين على أسوارها عاجزا فاغرا ثغره ولم يجد لها من سبيل سوى ان يحدث ثغرة في سورها ليدخلها و يهيم بها لقرن و خمس وعشرين سنة، و يهديها جسورا وأنصبة و يغدق عليها علّها تمنحه سرّها، حتى إذا سكر بخمر حبها لفظته خارجها و لم تمنحه شيء..
قسنطينة المدينة التي فتنت الأولياء فتطهروا في تربتها و خطبوا ودها بالزوايا و الأضرحة.
هي المدينة التي تجلس على طرفي النقيض، فتأتيك مرة كغانية في ثوب راهبة، و أخرى كتقية في هيئة فاجرة...تراها أحيانا عجوزا قد أثقل خطوها تاريخ ترتديه خلخالا في قدمها اليسرى بوزن ألفين و خمسمائة قرن من القِدم، و قد تبدو أحيانا صبية تفتحت أنوثتها على حين غرة ذات صباح ندي فغدت تقلبها بين كفيها في حمام تركي..
هي المدينة التي التقى فيه التاريخ بالجغرافيا فدعاها لفنجان قهوة وقت العصر بمقهى النجمة، فجلس التاريخ بثقله و الجغرافيا بعلوها و انفرجت الشفاه عن بسمة بامتداد جسر.
المدينة التي كشفت عن ساقيها فمر بينهما واد يفصل الصخرتين في عمقها السحيق، فانتقمت منه بغرورها و لاقاتهما في الأعلى بسبع جسور.
في قسنطينة تضيق الشوارع و تتسع القلوب، و تزهر الحياة في تفلجات الصخر..
في قسنطينة يرقد في الأسفل جسر للشيطان، و يحرسها من الأعلى نصب للأموات، و بينهما تسير الملائكة في الشوارع تحيي أهلها كل صباح و توزع بينهم الحياة و الرزق.
قسنطينة المدينة التي سرّ الله بها فأهداها سماء بلون "أزرق قسنطيني"، فغارت من سماءها السماء..
المدينة التي يجدد الغيم عشقه لها في كل مرة يمر بها، فيعود و يقترب أكثر و يمتزج بجسورها ثم ينضح مطرا..
وحدها قسنطينة المدينة التي تعتق المالوف خمرا، فتسمعه و تسكر..و في عز نشوتك و سكرك تقول لك قم بنا نصلي ‼
قسنطينة محظية الرومان و الأتراك و العرب..لم يدخلها عرق إلا هام بها..بكاها اليهود كما بكوا أورشليم " ملكوت الله على الأرض" لكنها لم ترأف بهم كما لم ترأف بغيرهم ممن أشركوا في هواها..
قسنطينة المدينة الخرافة، وحدها التي تنحدر من السماء إلى الأرض و غيرها يطاول ببنيانه علّه يبلغ السماء..
مدينة الهواء.. تهب نسائمها برائحة الورد و زهر الليمون و تأخذ قطرة من عنفوانها لتوزعها على أهلها فتكفي الجميع..
قسنطينة المدينة التي أكرهها صبابة ، و أمقتها عشقا..أهيم بها سرّا و ألعنها علانية..توهمك أنك تسكنها، ثم تكتشف أنها تحتلك و تطغى عليك.
نشر هذا المقال اولا في هذا الموقع .كل الحقوق محفوظة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق