الخميس، 10 يوليو 2014

عن قوة الضعف


احمد خالد توفيق
مجلة الشباب - يوليو 2014

لو كانت الحياة تسير بمنطق القوة فحسب، لما كان للضعفاء أي فرصة للوجود.  ولتحقق هذا الخليط الدارويني النيتشوي النازي من الأفكار، حيث ينقرض الضعفاء بلا توقف، وفي النهاية نصل إلى الرجل مكتمل القوة .. السوبرمان القادم فوق جثث الملايين الذين لم يصمدوا. 

قال لي صديقي ساخرًا وهو يتحسس عويناته:
ـ"الحمدلله أنني اخترت الزمن الصحيح .. لو جئت منذ مليون عام فلم أكن لأظفر ببيت أو زوجة أو طعام. كان الأقوياء سيقهرونني، وكنت سأمضي باقي حياتي مذعورًا فوق غصن شجرة. دعك من أن عويناتي ستتهشم في أول ثلاث دقائق !"
طبعًا سيظل على غصن الشجرة بعض الوقت إلى أن يأتي قرد ليركله ويأخذ مكانه. 

عندما كنت طبيبًا مقيمًا،  كان لي صديق أنجب طفلة أصيبت بحالة بسيطة من صفراء حديثي الولادة، واستدعى الأمر نقل بعض الدم لها.  كانت الساعة الثالثة بعد منتصف الليل عندما كنت أزورها في حضّانة المستشفى بعد نقل الدم، وأتبادل المزاح مع أبيها، عندما ظهر طبيب الأطفال وهو صديق مشترك، سألني عن فصيلة دمي. فقلت بلا اكتراث:
ـ"أو موجب .. لماذا تسأل ؟"

لم أدر إلا بطبيب الأطفال يجرني من ساعدي جرًا نحو بنك الدم، ثم يقول للفني الذي أرهقه السهر، ويفتح عينيه بصعوبة:
ـ"صحته طيبة كالثيران .. لا تخش شيئًا.. خذ منه ما تريد من دم "

وتم إجراء توافق الدم مع عينة دم يحتفظ بها الفني في الثلاجة.. كان هذا قبل عصر إجراء أبحاث التهاب الكبد والإيدز طبعًا، لهذا كان المريض يتلقى الدم فور التبرع به. 

انغرست إبرة التبرع بالدم الغليظة في وريدي .. آي .. ورأيت الدم الأحمر القاني يتدفق إلى الكيس... فقط لو استطعت أن أفهم !

عدت مع طبيب الأطفال إلى الحضّانة، فرأيت طفلة رضيعة لونها كلون الليمون، وجوارها تذكرة تحمل اسم (شيماء). ورحت أراقب الممرضة وهي تعلق كيس الدم وتبدأ عملية نقله إلى الجسد الصغير..  دمي يسري في هذا الجسد الذي لم يقض على الأرض سوى يوم أو اثنين ..

الآن صار من حقي أن أفهم، فقال لي طبيب الأطفال بطريقة روتينية ملول:
ـ"حالة فقر دم متقدمة . أنيميا تكسيرية .. كدنا نفقدها وكنت أبحث عن أحمق له ذات الفصيلة.. الحمدلله أنني وجدت واحدًَا عند الفجر"
كل هذا جميل ولكن أين أهلها؟
ـ"لا نعرف .. لقد تركوها واختفوا .. فقط أطلقوا عليها اسم شيماء"

كان الشيء الصغير يقرقر وينظر لنا بعينين تائهتين، وأقسم أنني شعرت بأن صفرتها تزول بالتدريج.  شعرت بأنني فخور وأن يومي لم يضع هباء.. من يبالي بهذا الدم ؟.. عندي الكثير منه، أما هي فيكفيها ربع لتر على الأكثر وهو ما أخذوه فعلاً..

في اليوم التالي جاء صديقي ليتفقد ابنته الرضيعة، زميلة شيماء في الحضانة .. وجد أنها – شيماء – لوثت ثيابها ولم تجد الممرضات كافولة، فأخذن من الكوافيل التي اشتراها لابنته.  مع الوقت صار لشيماء نصيب في كل شيء : الكوافيل .. الرضعات .. الثياب .. المال أيضًا لأنه ترك للعاملات مالاً يشترين به ما تحتاج له، من دواء أو ألبان .. إلخ

لم يظهر أهلها قط،  لكنها صارت أختًا لابنة صديقي وصار كل شيء يُقسم على الاثنتين. لا أعرف مصيرها بعد ذلك، لكني شعرت بقشعريرة لا شك فيها.

لماذا دخلت أنا الحضّانة في ذلك اليوم  وذلك الموعد؟.. لقد كنت مجرد أداة لتبقي هذه الرضيعة حية. إنها في حجم صفحة هذه المجلة، لكن الله سخرنا لها أنا وصديقي والممرضات وطبيب الأطفال. تريد دمًا فلا تفتش عنه مذعورة في بنوك دم وزارة الصحة، إنما يأتيها وهي مستريحة هانئة .. تريد كوافيل فلا تبتاعها بل تأتيها ببساطة حيث هي .. هناك قوة أعظم وأكبر ترعى هذه الصغيرة، وإلا لكانت ملقاة تلتهمها الكلاب في أقرب كومة قمامة.

عندما عملت في قسم الأطفال في مستشفى عام كبير في طنطا،  كانت هناك في العنبر رضيعة ترقد في فراش وحدها، وقد كتب على تذكرتها هذا الاسم الكئيب: (لقيطة  - مجهولة الأب والأم)... ليس هذا عنوان رواية عبد الحليم عبدالله المؤثرة، لكنها الحقيقة.  طفلة أخرى وجدوها على كومة قمامة جوار المستشفى. هناك ترقد وتنظر للسقف غير عالمة بالورطة التي فيها، ولا تدري كم هي مثيرة للشفقة. من أقسى الأمور ألا يدرك المرء فداحة ما خسره بينما الآخرون يدركون  .. ليس لها سند من أي نوع في الحياة.. هي كائن منبوذ جاء بالخطأ في لحظة لذة محرمة، وقد كان ثمن إصلاح الخطأ هو حياتها. عندما تكتب قصيدة ساذجة فأنت تمزق الورقة وتلقيها بعيدًا .. فعل الأبوان هذا على نطاق أكبر.  فقط لن تتعذب القصيدة ولن تقضي العمر عاجزة عن معرفة هويتها.

كان هناك في مستشفانا مختص شهير في طب الأطفال تؤمن به الأمهات كأنه ساحر قبيلة ، وكان يمر معنا على الأسرة في العنبر، هنا رأيت الأمهات يلاحقنه طالبات منه أن يفحص هذه الطفلة كما فحص أطفالهن. رأيتهن يحطن به بشراسة ليتأكدن من أنه يمارس الفحص (بذمة). وفيما بعد عرفت أن هناك من تكفلت برضاعة الطفلة من ثدييها، ومن تولت تبديل ثيابها، ومن تولت التربيت عليها لتنام ..  لقد صارت هذه التعسة الدقيقة تملك ألف أم.
هل تبناها أحد ؟.. هل وجدت الخلاص ؟.. لو ظلت حية فهي في الثلاثين من عمرها اليوم. 

هل تريد مثالاً آخر ؟
القط الصغير التعس المتسخ الذي وجدته تحت سيارة في شارعنا، فابتعت له بعض اللبن وحملته إلى بيتنا شاعرًا بالإثم والخطيئة .. هذا السيناريو يتكرر بالحرف كل عام، وزوجتي لا تطيق أي فوضى في البيت .. لا تتحمل أن ترى علبة ثقاب في غير موضعها.  وفي كل مرة أقول لها:
ـ"إذن تخلصي منه أنت ما دمت تجدين الأمر سهلاً"


ومن قال إنه سهل؟.  سرعان ما تكتشف أنها لا تملك قسوة أتيلا ملك الهون أو أبي لهب .. بعد لحظات كما يحدث في كل عام، تسمع صوت الماء يتدفق في الحمام وصراخ الشيطان الصغير بينما هي تحممه، وتطلب مني أن أبتاع زجاجة (لايسيد) لقتل البراغيث، وتضع قطرة مضاد حيوي في عينيه الملتهبتين، ثم تصطنع له (بزازة) من قطارة دواء.. تجففه وتحتضنه لتعطيه وجبته الأولى وهي لا تكف عن لومي وتقريعي على هذه العادة البذيئة .. عادة اصطحاب قطط الشارع إلى البيت.

بعد أيام يصير القط كل شيء في حياتها، وتملأ الثلاجة بالسمك المجمد، ويصير في المطبخ سمك مسلوق كريه الرائحة دومًا، دعك طبعًا من وعاء امتصاص فضلات القط ..

يغدو القط أهم فرد في الأسرة بمرور الوقت، وفي الغالب يهرب بنفسه عندما ينضج جنسيًا فنحن لا نجسر على طرده أبدًا..

هذا القط الصغير الهش قد نجح في استعباد شخصين بالغين، ليقوما له بكل شيء وليطعماه ويتخلصا من فضلاته.   هذه القوة الكاسحة التي لا اجد لها تفسيرًا..

هذا هو ما أعنيه بقوة الضعف .. ثمة كائنات هشة يبلغ من ضعفها أنها قوية جدًا، وأنها قادرة على ترويض المردة.  انعدام الحيلة قد يبلغ مبلغًا يحرك الجبال. في عالم الأدب والفن تحضرني أمثلة بديعة.  هناك للأديب الأمريكي العظيم ناتانييل هوثورن قصة ساحرة – لا أذكر اسمها للأسف – عن فتاة قبيحة واهنة فقيرة، تغرق نفسها في النهر .. ينقذها سيد وسيم قوي ويجففها ويحملها لبيته إلى جوار النار. تنظر له في ثبات وتكرر: "أنت ستحبني .. أليس كذلك ؟"

تكرر هذا الرجاء وهو لا يرد، "أنت ستحبني .. أليس كذلك ؟.. هه ؟... ". إلى أن يقع في النهاية تحت سطوة عينيها النافذتين الواسعتين وضعفها .. وتنتهي القصة به وهو يضمها إلى صدره. لقد استسلم !

في قصة ستيفن زفايج البديعة (حذار من الشفقة)،  نرى قصة طريفة أخرى. النصاب اليهودي يخدع امرأة ساذجة بريئة فيجعلها تتخلى له عن كل ممتلكاتها، زاعمًا أنه يستثمرها لها،  وهي تشكره على أن الله أرسله لها ..  هذه الحمقاء لا تدرك أنها صارت معدمة وأنها سوف تتسول لقمتها غدًا. والأدهى أنها تشكره على نبله وتقول له إنه قديس. لقد قضت عليه تمامًا!...ينظر لنفسه في المرآة، إلى وجهه الشاحب المصفر وعينيه الغائرتين، ثم يرى وجهها الصبوح المفعم بالسعادة فيدرك كم أن الله يحبها ويبارك براءتها، بينما هو ملعون كإبليس .. لا يجد شيئًا يصلح به غلطته سوى أن يتزوجها ليرعاها !!

هناك فيلم أمريكي تلفزيوني بديع (قصة واقعية) عن كاتبة تصاب بداء ألزايمر اللعين – اسمه ألزايمر من فضلك و (ال) ليست أداة تعريف !! –  وفي حفل تكريمها يصاب عقلها بالشلل نهائيًا وتنسى القراءة .. تقف حائرة تنظر للجمهور بعينين ذاهلتين، هنا يتقدم زوجها ليضمها لصدره ويكمل هو قراءة الخطاب. سوف تبكي وأنت تراها منكمشة حائرة تنظر للناس، وليس لها من أي سند في العالم سوى الحب .. لا شك عندك في أن هذا الزوج سوف يفديها بحياته نفسها لو اقتضى الأمر. 

قوة الضعف .. هذا هو ما أكرره ... 

ليست هذه بالطبع دعوة لأن نكون ضعفاء.. لكنها دعوة لأن نتذكر القوة الكامنة في الحب والعطف. الحنان يسري في الاتجاهين، وكما نمنح الحنان للآخرين فإننا نتلقاه في اللحظة ذاتها، كالمعادلات ذات الاتجاهين التي كنا ندرسها في حصة الكيمياء. هناك قوة ربانية عليا تحمي الضعفاء وترعاهم، بشرط ألا يزول الحب والرحمة من قلوب الآخرين .. لا أجد تفسيرًا أفضل من هذا لطفلة المستشفى (شيماء) التي نالت دمي وكافولات ابنة صديقي، ولا الرضيعة التي فازت بألف أم ، ولا القطة التي سخرت زوجين بالغين لخدمتها. ربما أستطيع كتابة هذه الفكرة بشكل أفضل وأكثر تماسكًا فيما بعد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق