وصايا دافنشي: مقاطع من كتاب نظرية التصوير
ليس هناك ما يدعو لمدح فنان ما، لأنه يتقن عمل شيء واحد، ويجيد رسمه إلى حدٍ بعيد، سواء أكان ذلك جسدًا عاريًا، أم وجهًا إنسانيًا، أم بلادًا، أم حقولا أم حيوانات وأثوابًا أو أيًا من التفاصيل الأخرى، إذ لا وجود لعبقرية فذة تكتفي بمشاهدة ودراسة شيء واحد فقط وتقتصر عليه كمادة للعمل، ولا غرابة إذا ما استطاع الفنان الذي يسلك هذا المسلك أن ينجز أعمالا جيدة.
*** *** ***
لن تصبح مصورًا جيدً، إلا إذا صرت قادرًا وشاملا في فنك، على نحوٍ كوني، بحيث تستطيع محاكاة كافة أشكال الأشياء التي خلقتها الطبيعة، ولن تستطيع أن تصل إلى ذلك المستوى إلا إذا واظبت على مشاهدة الأشياء وإعادة صياغتها في عقلك، فإذا ذهبت إلى الحقول والمزارع عليك أن تتوجه بذهنك إلى تنوع الكائنات واختلافها وانظر مرة إلى هذا الشيء ومرة إلى ذلك الآخر.
تعيسٌ ذلك المعلم [الفنان] ، الذي تفوق أعماله قدرته على الحكم عليها وتقييمها، وعليه كي يكتمل فنه، أن يسلك ذلك الطريق الذي يجعل وعيه يتجاوز أعماله.
*** *** ***
المصور الذي لا يخالجه الشك، لا يتعلم سوى القليل، وعندما يتجاوز العمل الفني قدرة المبدع على التقييم والحكم، فإن هذا المبدع لا يتحصل إلا على نزر قليل من الخبرة، أما إذا تجاوز الفنان بوعيه العمل الفني، فإنه يفتح الطريق لنفسه، كي يتطور بلا توقف، إلا إذا كان البخل مانعًا كافيًا.
*** *** ***
ليس هناك ما هو قادر على خداعنا، أكثر من آرائنا نحن في أعمالنا، فقدرتنا على الحكم والتقييم تكون صائبة، عندما نقيم أعمال الخصوم، وتفقد صلاحيتها مع الأصدقاء، وهذا يرجع إلى أن الصداقة والعداوة، التآلف والكراهية، هم أكبر وأقوى ما يمكن أن يطرأ على الحيوان من مشاعر.
ولهذا يتعين عليك أيها المصور أن تدقق، وأن تستمع بحذر وشغف لما يقوله خصومك عن أعمالك، لا ما يقوله الأصدقاء والمحبون، فالكراهية أقوى من الحب، والكره قادر على أن يدمر الحب وينهيه.
فإذا كان من بصدد إطلاق حكم عليك هو صديق لك، فإنه سيكون مجرد "أنت آخر"، وذلك بعكس الخصم أو العدو، ولذلك يمكن أن تخدعنا آراء الأصدقاء.
وهناك فصيلة ثالثة من الآراء، وهي تلك الآراء التي تتولد من مشاعر الغيرة والحسد، وتكتسب سيماء المداهنة والتملق، إنها تهدف بما تكيله من مدح وإطراء كاذب إلى وضع غشاوة على عين المبدع.
*** *** ***
هي نصيحة ذات نفع كبير للفنان إذ تساعد على تفتيح ملكاته وإطلاعه على عديد من الابتكارات، رغم أنها تبدو قليلة القيمة، بل ومثيرة للسخرية، ونصيحتي هي أن تتأمل أيها المصور الجدران الملطخة، والأحجار المختلطة، فإذا كنت تبحث عن تصور لموقع ما، يمكنك أن ترى فيها صورًا وأشكالا لبلدان متنوعة، تزينها الجبال، وتجري فيها الأنهار وسترى الأحجار، والأشجار، والسهول الواسعة، والتلال على اختلاف أشكالها، كما يمكنك أيضًا أن ترى معارك مختلفة، وأفعالا سريعة تقوم بها مخلوقات غريبة الأشكال، وستشاهد العديد من الوجوه والملابس وأشياء أخرى كثيرة لا يمكن حصرها هنا. ويمكنك أن تختصر هذه الأشكال في بناء متكامل، وأشكال قيمة، ومن يتعامل مع تلك الجدران والأحجار، يشبه من ينصت إلى أصوات الأجراس، فيسمع في دقاتها كل اسم أو حرف أو كلمة يمكن أن يتخيلها.
لا تقلل من شأن نصيحتي هذه، وأحب أن أذكرك أنه لن يضيرك كثيرًا، أن تتوقف بعض المرات، لتأمل الآثار والبقع المنتشرة على جدار أو حائط، أو في رماد النيران، أو في السحب والأوحال وما شابه ذلك من مواقع، فسوف تجد فيها إذا ما أحسنت التأمل ، ابتكارات مبهرة، لمعارك أوحيوانات أو بشر، كما تتيح الفرصة لتصورات جديدة للمواقع والبلدان والوحوش والشياطين وما شابهها.
وستكون هذه التأملات من بواعث تكريمك وتشريفك، إذ أن عبقرية المصور تتفتح عند تأمل الأشياء المختلطة والمتداخلة، وتخرج منها بابتكارات وحلول جديدة، ولكن عليك قبل ذلك أن تتعلم جيدًا رسم الأجزاء والأعضاء التي يتكون منها الشكل المنوط تصويره، وأن تكون قد استوعبت جيدًا تفاصيل الحيوانات وأجزاء البلاد، وأقصد بذلك الأحجار والنباتات وما تضمه من أشياء أخرى.
*** *** ***
ثبت لي أيضًا أن هناك أمرًا لا يمكن التقليل من أهميته، وهو ضرورة أن يحتفظ المصور بعقله في حالة بحث مستمر، حتى عند الذهاب إلى الفراش للنوم في غرفة مظلمة، فإذا ما وجدت نفسك في حلكة الفراش، عليك أن تعمل خيالك وأن تتذكر الأسطح والحدود الخارجية للأشكال التي درستها مؤخرًا، أو أن تقلب الذهن في أشياء أخرى لاحظتها وتثير التساؤل والتأمل، فهذا فعل محمود، ويفيد في تثبيت الأشياء بالذاكرة.
*** *** ***
على المصور أن يسعى دومًا ويكد، حتى يصبح فنانًا شاملا. وهذا لأن مكانه الفنان تهتز من أساسها، عندما تنحصر مهارته في رسم شيء ما دون غيره، فيأتي تصويره جيدًا لذلك الشيء، بينما تبدو رسوماته للأشياء الأخرى ضعيفة أو رديئة.
وهذا هو ما يحدث لبعض الرسامين، الذين يدرسون الجسد العاري في نسبه الصحيحة والمتناسقة فقط، ولا يهتمون بالبحث في تنوعاته وحالاته فهناك رجال ذوو أعضاء سليمة متناسقة، ولكن قد تكون أجساد رجال آخرين مختلفة، فهناك أيضًا الطويل والسمين والقصير والنحيف ومتوسط لقامة.
ومن لا يلتفت إلى هذه التنوعات ويهتم برصدها، فسيرسم دائمًا أشخاصًا متشابهين، فيبدون كما لو كانوا قد صيغوا من قالب واحد أو كإخوة في عائلة واحدة، وهذا ما يجب ألا تقع فيه، وعليك أن تحذره وأن تعيد النظر فيه مليًا.
*** *** ***
يجب ألا يقلد المصور طريقة مصور آخر في العمل، لأنه سيحط بذلك من قدر نفسه، فيصبح حفيدًا للطبيعة بعد أن كان ابنًا لها.*** *** ***
أكثر أخطاء المصور جسامة هو تكرار نفس الأوضاع، ونفس الوجوه، ونفس نسق الثياب داخل موضوع واحد يصوره، وأن يجعل أغلب هذه الوجوه شبيهة بوجهه.وقد عادت عليَّ هذه الظاهرة بمتعة خاصة في أحيان كثيرة، إذ كنت أتعرف على بعض الرسامين الذين يصورون شخوصًا تبدو كما لو كانت منقولة من الطبيعة. ولكنهم يظهرون في الأفعال والحركات نفس ما يقوم به المصور ذاته.
فإذا كان حاضر البديهة سريع الحديث يقظ الحركة، فستجد أن شخوصه يظهرون بنفس الدرجة من السرعة واليقظة أما إذا كان المصور شارد الذهن، فسنجد شخوصه شاردة ملتوية الأعناق على نفس النحو؛ حيث تظهر كما لو كانت تجسيدًا للكسل والخمول أو صورة رسمت من الطبيعة للكسل نفسه.
وإذا كان بالمثل مشوشًا وفاقد للاتساق تظهر شخوصه بلا تماسك أو ترابط. وإذا كان مجنونًا، فسنجد أن جنونه يطل واضحًا من خلال الشخوص والموضوع الذي اختاره لهم، فلا نجدهم عاكفين على إنجاز فعل بعينه ولا ينتبهون لما يؤدونه من أفعال، بل ينظر كل منهم في اتجاه مغاير كما لو كانوا في حالة حلم.
وهكذا ترتبط الأفعال والأحداث والشخوص التي نشاهدها في اللوحات بما يحدث في نفس المصور من أمور.
بحثت تكرارًا عن السبب الكامن وراء هذا الخطأ ويبدو لي أنه من الصواب أن نقول بأن الروح التي تسكن جسدنا هي السبب في ذلك، لأنها تجعل حكمنا على الأمور حكمًا يتعلق بنا كأفراد.
وهكذا تقودنا الروح لأن نصور كافة أشكال الإنسان على النحو الذي تحدده هي للجمال وتهواه: طول الأنف وقصره .. إلخ، كما تحدد ملامحه.
ويبدو أن لحكم الروح قوة بالغة، حتى أنها تحرك يد المصور لكي يعيد دائمًا تصوير ذاته، بينما تجعله يعتقد أنه اتبع طريقته الخاصة في رسم الإنسان، ولذلك لا يرى ما يقع فيه من أخطاء.
إذا شاهدت الروح جسدًا يشبه الجسد الذي تسكنه، فإنها تحبه أو يتكرر حبها له دومًا. ولهذا السبب أيضًا يقع الكثيرون في الحب ويتخذون من أشباههم أزوجًا وزوجات، وغالبًا ما يأتي الأبناء من هذه الزيجات مشابهين لوالديهم.
يبدو كل من القبح والجمال أكبر قدرًا وأكثر حضورًا عندما يدخل الواحد منهما في علاقة مع الآخر.
يمكن أن يتساوى الكثير من الأشخاص في درجة الجمال، ولكنهم لن يتطابقوا أبدًا في أشكال هذا الجمال. بل على العكس سنجد أنهم يختلفون باختلاف عددهم.
على المصور الجيد أن يصور أمرين أساسيين معًا وهما الرجل ومفهومه العقلي، وأول الأمرين سهل، أما ثانيهما فصعب، لأنه يتطلب صياغة الأوضاع وحركات الأعضاء ويمكن تعلم هذا من الخرس، لأنهم يتفوقون في ذلك الأمر على سائر البشر.
مقاطع من كتاب: نظرية التصوير
*** *** ***
يبدو كل من القبح والجمال أكبر قدرًا وأكثر حضورًا عندما يدخل الواحد منهما في علاقة مع الآخر.
**** *** ***
يمكن أن يتساوى الكثير من الأشخاص في درجة الجمال، ولكنهم لن يتطابقوا أبدًا في أشكال هذا الجمال. بل على العكس سنجد أنهم يختلفون باختلاف عددهم.
*** *** ***
على المصور الجيد أن يصور أمرين أساسيين معًا وهما الرجل ومفهومه العقلي، وأول الأمرين سهل، أما ثانيهما فصعب، لأنه يتطلب صياغة الأوضاع وحركات الأعضاء ويمكن تعلم هذا من الخرس، لأنهم يتفوقون في ذلك الأمر على سائر البشر.
*** *** ***
لا تضع في قصتك التعساء الباكين والدامعين بجوار الضاحكين الفرحين، فالطبيعة تخبرنا أننا نبكي في صحبة الباكين، وأن صحبة الضاحكين تسر النفس وتبهجها وأن الدموع والضحكات لا يتواجدان معًا.*** *** ***
ليس كل جميل مطلوبًا في التصوير، وأقول هذا لأولئك المصورين الذين يهيمون بجمال الألوان فيقتصدون عن عمد واضح في وضع الظلال بحيث يصعب إدراكها، كما لا يجتهدون في توضيح تجسيد الألوان وبروزها وهو منهج خاطئ مثل خطأ هؤلاء البلغاء وأهل الخطاب القادرين على صياغة عبارات جميلة بلا أي مضمون.مقاطع من كتاب: نظرية التصوير
ليوناردو دافنشي
ترجمة وتقديم عادل السيوي
ترجمة وتقديم عادل السيوي
كل الحقوق محفوظة لمدونة http://ahmed-elhadary.blogspot.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق