" لقد عودنا الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن أن نظفر بالطريف في كل كتاب يخطه وفي كل موضوع يطرقه؛ وهاهو ذا، في الكتاب الذي بين يديك، يأتينا بما كنا نظن أن العقل ينكره، بل أن يحيله، في معضلة لطالما شغلت " إنسان هذا الزمان"، وحيّرت العقول ولا تزال، ألا وهي " العلاقة بين الدين والسياسة"! فقد تحدى فيلسوفنا المسلمات المقررة والاعتقادات المرسخة، مقتحماً عقبات العقل وحدود العلم، وجاءنا بمقاربة لهذه المشكلة ليست من جنس المقاربات المعهودة، لأنها لا تخاطب العقل المجرد في الإنسان، وإنما تخاطب عقله المؤيد بالروح؛ إذ تقرر أن الإنسان أشبه بالكائن الطائر منه بالكائن الزاحف.
مقتطفات من الكتاب
مقدمة
كلما تأملت أحوال الانسان في هذا الزمان واستغرقت في هذا التأمل لم أزدد الا يقينا بأنه لا كائن أنسى منه حتى اني لو خيرت في وضع تعريفه فما كنت لأعرفه بغير كونه " الموجود الذي ينسى أنه ينسى " ولو خيرت في اشتقاق اسمه فما كنت لأقول غير أنه اشتق من لفظ " النسيان " بدل لفظ " الأنس " وحتى لو صح أن اسمه مشتق من " الأنس " فما كنت لأعتقد الا أنه أنس بما يجعله ينسى ما لا ينبغي نسيانه , لحرصه على بقاء نسيانه , انه ينسى كل شيء يذكره بأنه لا يملك من أمره شيئا لا خلقا ولا رزقا ينسى أنه كان في ظلمات بعضها فوق بعض بدءا بظلمة العدم وانتهاء بظلمة الحس , ينسى أنه لم يخلق ذرة من ذرات بدنه ولا نسمة من نسمات روحه كما ينسى أنه كان في فاقات بعضها أشد من بعض بدءا بفاقة النور وانتهاء بفاقة العلم ينسى أنه لم يرزق عينه بصرا ولا أذنه سمعا ولا لسانه نطقا ينسى هذا وما دونه وما فوقه حتى كان له النسيان ذكرا وهل في النسيان أشد من أن ينسى من لا ينساه ولا يغيب عنه أبدا ومن هو أقرب اليه من نفسه , ومن يحول بينه وبين قلبه !
لما كان النسيان أول بلاء ابتلي به الانسان , وكان " انسان هذا الزمان " لا ينتهي عن النسيان مصرا عليه أيما اصرار كان لا بد أن تجري الأمور بين يديه بضد مقتضياتها لأن مقتضياتها توجب التذكر وهو لا يبرح ينسى وهكذا فما حقه أن ينزل في أعلى الرتب من الموجودات أو المعقولات , صار يراه في أسفلها وما حقه أن ينزل في أسفل الرتب من الموجودات أو المعقولات صار يراه في أعلاها حتى بلغ من قوة نسيانه أن أضحى يقلب الحق باطلا والباطل حقا ويقلب الخير شرا والشر خيرا .
ثم أخذ ينظر للباطل الذي جعله حقا وللشر الذي جعله خيرا مبتدعا مقولات هائلة وواضعا مسلمات قاطعة ومستنبطا قضايا كبيرة ومثبتا دعاوى عريضة حتى أنشأ عالما خادعا قانون الوجود فيه النسيان : عليك أن تنسى من أين أتيت والى أين تذهب , وأن تنسى أنك الحي الذي يموت وأنك كما بدأت تعود , عليك أن تنسى من حقه أن تذكره أول ما تذكر وأن تذكره كلما نسيت أن تنسى من لو شاء لما نسيت ولهلكت متى نسيت , عليك أن تنسى يوم تلاقيه ويسألك عن نسيانه حتى ان من لا ينسى فأجدر به أن ينسى اذ ما هو الا غريب يريد الشذوذ لنفسه أو عليل يريد البقاء لعلته كأن هذا العالم لا يؤوي الا الانسان الأفقي الذي لا يذكر الا ما يراه بصره ولا قبل له بالانسان العمودي الذي يذكر ما لا يراه بصره وتراه بصيرته .
ومهما يكن الأمر فان حضور الذكر خير من ذهول النسيان لأن نور الوجود خير من ظلمة العدم والذكر وجود والنسيان عدم وان الانسان العمودي أوسع وجودا من الانسان الأفقي لأن مجال الفضاء أفسح من مدى المكان والانسان العمودي في فضاء والانسان الأفقي في مكان فهل من سبيل الى الخروج من هذا العالم الناسي , وقد أشربت قلوب أهله بمقولاته ومسلماته وقضاياه ودعاويه حتى لا تكاد تتصور بديلا له , ساكنة تحت مجاريه راضية بمراضيه كأنما هو القدر المحتوم الذي لا يخطئ أحدا ؟ فكما أن هذا العالم الأفقي هو نفسه جاء بديلا لعالم لم يكن ينسى ما صار ينساه مغترا بسلطانه فكذلك في الامكان انشاء بديل لهذا العالم لا ينسى ما ينساه أي عالم ذاكر يؤوي انسانا عموديا فلكل عالم ناس عالم بديل يدفع نسيانه .
ولا يخفى أن النسيان الأكبر الذي أصاب هذا العالم والذي أرخ لحداثته نسيان مزدوج جعل الانسان الأفقي لا يقدر خالقه حق قدره اذ نسي كيف كان " التدبير " و " العبادة " يأتلفان في حياة الانسان ائتلافا حيا حتى اذا دبر كان عابدا واذا عبد كان مدبرا .
بيانات الكتاب
الاسم : روح الدين: من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية
تأليف : طه عبد الرحمن
الناشر : المركز الثقافي العربي
عدد الصفحات : 530 صفحة
الحجم : 10 ميجا بايت
مقتطفات من الكتاب
كلما تأملت أحوال الانسان في هذا الزمان واستغرقت في هذا التأمل لم أزدد الا يقينا بأنه لا كائن أنسى منه حتى اني لو خيرت في وضع تعريفه فما كنت لأعرفه بغير كونه " الموجود الذي ينسى أنه ينسى " ولو خيرت في اشتقاق اسمه فما كنت لأقول غير أنه اشتق من لفظ " النسيان " بدل لفظ " الأنس " وحتى لو صح أن اسمه مشتق من " الأنس " فما كنت لأعتقد الا أنه أنس بما يجعله ينسى ما لا ينبغي نسيانه , لحرصه على بقاء نسيانه , انه ينسى كل شيء يذكره بأنه لا يملك من أمره شيئا لا خلقا ولا رزقا ينسى أنه كان في ظلمات بعضها فوق بعض بدءا بظلمة العدم وانتهاء بظلمة الحس , ينسى أنه لم يخلق ذرة من ذرات بدنه ولا نسمة من نسمات روحه كما ينسى أنه كان في فاقات بعضها أشد من بعض بدءا بفاقة النور وانتهاء بفاقة العلم ينسى أنه لم يرزق عينه بصرا ولا أذنه سمعا ولا لسانه نطقا ينسى هذا وما دونه وما فوقه حتى كان له النسيان ذكرا وهل في النسيان أشد من أن ينسى من لا ينساه ولا يغيب عنه أبدا ومن هو أقرب اليه من نفسه , ومن يحول بينه وبين قلبه !
لما كان النسيان أول بلاء ابتلي به الانسان , وكان " انسان هذا الزمان " لا ينتهي عن النسيان مصرا عليه أيما اصرار كان لا بد أن تجري الأمور بين يديه بضد مقتضياتها لأن مقتضياتها توجب التذكر وهو لا يبرح ينسى وهكذا فما حقه أن ينزل في أعلى الرتب من الموجودات أو المعقولات , صار يراه في أسفلها وما حقه أن ينزل في أسفل الرتب من الموجودات أو المعقولات صار يراه في أعلاها حتى بلغ من قوة نسيانه أن أضحى يقلب الحق باطلا والباطل حقا ويقلب الخير شرا والشر خيرا .
ثم أخذ ينظر للباطل الذي جعله حقا وللشر الذي جعله خيرا مبتدعا مقولات هائلة وواضعا مسلمات قاطعة ومستنبطا قضايا كبيرة ومثبتا دعاوى عريضة حتى أنشأ عالما خادعا قانون الوجود فيه النسيان : عليك أن تنسى من أين أتيت والى أين تذهب , وأن تنسى أنك الحي الذي يموت وأنك كما بدأت تعود , عليك أن تنسى من حقه أن تذكره أول ما تذكر وأن تذكره كلما نسيت أن تنسى من لو شاء لما نسيت ولهلكت متى نسيت , عليك أن تنسى يوم تلاقيه ويسألك عن نسيانه حتى ان من لا ينسى فأجدر به أن ينسى اذ ما هو الا غريب يريد الشذوذ لنفسه أو عليل يريد البقاء لعلته كأن هذا العالم لا يؤوي الا الانسان الأفقي الذي لا يذكر الا ما يراه بصره ولا قبل له بالانسان العمودي الذي يذكر ما لا يراه بصره وتراه بصيرته .
ومهما يكن الأمر فان حضور الذكر خير من ذهول النسيان لأن نور الوجود خير من ظلمة العدم والذكر وجود والنسيان عدم وان الانسان العمودي أوسع وجودا من الانسان الأفقي لأن مجال الفضاء أفسح من مدى المكان والانسان العمودي في فضاء والانسان الأفقي في مكان فهل من سبيل الى الخروج من هذا العالم الناسي , وقد أشربت قلوب أهله بمقولاته ومسلماته وقضاياه ودعاويه حتى لا تكاد تتصور بديلا له , ساكنة تحت مجاريه راضية بمراضيه كأنما هو القدر المحتوم الذي لا يخطئ أحدا ؟ فكما أن هذا العالم الأفقي هو نفسه جاء بديلا لعالم لم يكن ينسى ما صار ينساه مغترا بسلطانه فكذلك في الامكان انشاء بديل لهذا العالم لا ينسى ما ينساه أي عالم ذاكر يؤوي انسانا عموديا فلكل عالم ناس عالم بديل يدفع نسيانه .
بيانات الكتاب
الاسم : روح الدين: من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية
تأليف : طه عبد الرحمن
الناشر : المركز الثقافي العربي
عدد الصفحات : 530 صفحة
الحجم : 10 ميجا بايت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق