يستقصي المؤرخ البريطاني روي بورتر(2002-1946) الكيفية التي قاربت بها الثقافة الغربية الجنون وعالجته. ويبدأ الكتاب بعرض مفهوم الجنون كما ساد في العصر السابق على الكتابة، وذلك حين نظر إلى الجنون بوصفه تلبّساً شيطانياً أو إلهاماً سماوياً. ويتتبع المؤلف تأثير هذه الأفكار التي ظلت حاضرة في الغرب حتى القرن الثامن عشر، ثم يتناول مولد العلوم الطبية مثلما طوّرها فلاسفة الإغريق وأطباؤهم. كما يتولى بالدرس معاني الجنون وموتيفاته الثقافية التي مثلت مادة ثرة متحت منها الفنون والآداب.
مقتطفات من الكتاب
يتساءل بولونيوس بحكمته وفطنته الحاضرتين : أليس تعريف الجنون الجنون بذاته ؟ وقد أصاب شيخ شكسبير المتحذلق كبد الحقيقة المرة هذه أفليس الجنون لغز الألغاز ؟
كما حمل أساتذة الطب العقلي أكثر الآراء ادهاشا حول الموضوع الذي يزعمون التضلع فيه ونلمس هذا لدى توماس زاز أستاذ الطب العقلي في جامعة سيراكيوز " نيويورك " فهو ينكر في كتابته أسطورة المرض العقلي " 1961 " وصناعة الجنون " 1970 " وجود " المرض العقلي " فلم يكن هذا الأخير كما يقول زاز حقيقة من حقائق الطبيعة بل أسطورة من صنع الانسان ويضيف مفصلا :
" يعرف الطب العقلي عادة بوصفه اختصاصا طبيا يعنى بتشخيص الأمراض العقلية وعلاجها أما أنا فأؤكد أن هذا التعريف الذي مازال قائما ومقبولا بصورة كبيرة يلحق الطب العقلي بمبحثي الكيمياء القديمة والتنجيم ويعينه بذلك علما زائفا والسبب وراء ذلك واضح وجلي اذ لا وجود لما يمكن أن يسمي " المرض العقلي " ليس الطب العقلي وفقا ل " زاز " الذي اعتنق هذه الآراء طوال العقود الأربعة الماضية مرضا حدد العلم طبيعته وبينها بل هو أسطورة لفقها الأطباء العقليون بغرض الحصول على التقدم المهني .
كما تبناها المجتمع لما تتيحه من حلول سهلة في التعامل مع من خرج على أعرافه .
فقد انخرط الأطباء ومن شايعهم على مدى قرون عديدة كما يدعي زاز في عملية نفعية " لصناعة الجنون " وذلك بالصاق التصنيفات الطبعقلية بأناس مخصوصين فهؤلاء الأخيرون أوبئة اجتماعية وشواذ ومشاكسون خطرون ولم يكن المشتغلون في الطب العقلي الوضعي في حمى هذا الهوس التصنيفي والوصمي أقل انخراطا في هذه الحمى من فرويد ومريديه الذين نفخوا باختراعهم مفهوم اللاوعي حياة جديدة تبعا ل " زاز " في ميتافيزيقيات العقل البائدة ولاهوتيات الروح .
ويرى زاز أن أي أمل في العثور على أساليب مرضية للمرض العقلي سواء في الجسد أو العقل ناهيك عن العالم السفلي لدى فرويد ما هو الا خطأ تصنيفي أو اعتقاد زائف فليس المرض العقلي واللاوعي سوى توصيفات مجازية وتضليلية وبتشييئهم مثل هذا الكلام غير المحكم ينخرط الأطباء العقليون في تصوير النفس البشرية تصويرا ساذجا أو يغدون متورطين في ضرب من الامبريالية المهنية المستترة .
وذلك بادعائهم معرفة لا يمتلكونها وتغدو المقاربات المعيارية وتاريخه في ضوء ذلك كله باطلة بما تستحضره من افتراضات غير مشروعة وأسئلة سيئة الصوغ .
ولم يكن زاز وحيدا في هذا الاتجاه فقد ظهر كتاب " الجنون والحضارة " عام 1961 م لمؤلفه الباريسي ميشيل فوكو مؤرخ الفكر المعروف اذا ذهب الأخير الى أن الجنون ليس حقيقة طبيعية بل بناء ثقافي كرسته شبكة من الممارسات الطبية والطبعقلية والادارية .
وعليه فان كتابة دقيقة لتاريخ الجنون لن تكون رواية حول مرض ما وعلاجه وانما مجموعة من الأسئلة حول الحرية والتحكم والمعرفة والسلطة .
ومضى اثنان من الأطباء العقليين البريطانيين البارزين وهما ريتشارد هنتر وايدا ماكبلين بصورة أقل راديكالية في الاتجاه مؤشرين في الوقت ذاته تقريبا الى المأزق البعيد أدخل فيه الطب العقلي نفسه نقرأ :
ليست هناك طريقة موضوعية في وصف النتائج السريرية من دون لجوء الى التفسير الذاتي .
ولا وجود لقاموس اصطلاحي مضبوط ومتسق ينسحب فيه المصطلح على جميع الحالات وعليه يقع المرء على تشعب عريض في التشخيصات كما أن هناك تدفقا مطردا لمصطلحات جديدة وتغيرا دائما في منظومة المصطلح فضلا عن القدر الكبير من الفرضيات التي يصار الى طرحها بوصفها حقائق .
كما يبقى علم نشوء المرض مبحثا غانما وتغلب على التصنيفات الصفة الأعراضية وبذلك فهي اعتباطية وربما غير قادرة وكانت العلاجات الفيزيقية امبريقية ورهينة الموضة الدارجة أما العلاجات السيكولوجية فكانت في طوري الطفولة والتنظيم .
وقد قلبت الصيغ المثيرة التي صدر عنها كل من فوكو وزاز التاريخ التقدمي التقليدي للطب العقلي رأسا على عقب وصيرت أبطاله أوغادا بيد أنها جوبهت بردود قوية .
بيانات الكتاب
تأليف : روى بورتر
الترجمة : ناصر مصطفى
الناشر : هيئة أبوظبي للثقافة والتراث
عدد الصفحات : 258 صفحة
الحجم : 4 ميجا بايت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق