يرتبط هذا المفهوم ارتباطاً وثيقاً بفرانسيس فوكوياما الذي لم يعرفه معظم العلماء في هذا المجال إلا بعد أن نشر كتابه نهاية التاريخ والرجل الأخير عام 1991 . وجاء الكتاب رداً على مسألة طرحت في مقال نشره الكاتب قبل ثلاث سنوات. وبين ليلة وضحاها، أصبحت عبارة «نهاية التاريخ » تستخدم مرادفاً لفترة ما بعد الحرب الباردة، وسرعان ما أصبح فوكوياما مفكراً مشهوراً. وقد كان ذلك مؤسفاً من بعض النواحي؛ لأن حكمة أقواله تاهت في الجدل. لم يقل فوكوياما إن نهاية «التاريخ » اقتربت، بمعنى أن السياسات والحروب والنزاعات ستتوقف عن الحدوث. ولم يقل إن انهيار الشيوعية سيضمن قيام الديمقراطية الليبرالية في الدول كلها. إن حكمة أفكاره التي تُعَد مزيجاً عبقرياً من الفلسفة السياسية والتحليل التاريخي واستشفاف المستقبل تكمن في قراءة نصوصه بدقة، وهذا ما غفل عن فعله عديد من النقاد. فحين يرى النقاد التشاؤم الموجود بين سطور نص فوكوياما، لن يجدي نفعاً أن يحتفوا به، أو ينددوا بآرائه على أساس الافتراض الخاطئ بأن كتابه ليس سوى صورة لروح الانتصار في نهاية الحرب الباردة.
يعود فوكوياما بقوله «نهاية التاريخ » إلى تاريخ الفكر المنظوم المتعلق بأول المبادئ الشرعية حول التنظيم السياسي والاجتماعي. وبراهينه معيارية في الأصل؛ ففي نهاية القرن العشرين، أثبت تحالف الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية قوته فعلياً ومعنوياً أمام أي نظام سياسي اقتصادي بديل، ويعود السبب في ذلك إلى قدرته على تلبية حاجات الإنسان الأساسية.
وبحسب فوكوياما، إن طبيعة الإنسان مؤلفة من رغبتين رئيسيتن. الأولى هي الرغبة في السلع المادية والثروة. أما الثانية فهي أن يدرك الناس من حولنا قيمتنا كبشر. الرأسمالية هي النظام الاقتصادي الأكثر فاعلية في زيادة إنتاج السلع والخدمات وفي استغلال التكنولوجيا العلمية لإرباء الثروات الكبيرة. غير أن النمو الاقتصادي ليس سوى جزء من الحكاية، حيث يدعو فوكوياما إلى اعتماد مفهوم الاعتراف الذي أطلقه الفيلسوف الألماني هيغل، بالإضافة إلى نظرية التاريخ الغائي لتفسير تفوق الديمقراطية الليبرالية على منافساتها في الساحة السياسية. يستطيع النمو الاقتصادي أن يتعزز في ظل من الأنظمة السياسية الكثيرة بما فيها الفاشية والشيوعية، لكن الديمقراطية الليبرالية وحدها تلتقي مع حاجات الإنسان الأساسية كالاعتراف والحرية السياسية والمساواة. إن هيغل هو من افترض أن نهاية التاريخ ستحل عندما ينجز البشر نوع الحضارة الذي يرضي رغباتهم الأساسية. بالنسبة إلى هيغل، نقطة النهاية هذه هي الدولة الدستورية. وفي نصه، يشير هيغل إلى أن نابليون كان الرائد في هذا المجال في بداية القرن التاسع عشر. ويقول فوكوياما إننا بحاجة إلى اعتماد مثالية هيغل الفلسفية من جديد والتخلي عن فلسفة ماركس وأتباعه المادية، التي تقول إن الاشتراكية ضرورية لتخطي اللامساواة في المجتمعات الرأسمالية. كما يجد فوكوياما في نظريات هيغل تفهماً عميقاً لطبيعة الإنسان لا توحي به أفكار فلاسفة آخرين كتوماس هوبز وجون لوك اللذين يقدمان الحفاظ على النفس على الإدراك.
إضافة إلى هيغل، يأتي فوكوياما على ذكر أفلاطون وألكسندر كوييف؛ وهو أحد أفضل مفسري فلسفة هيغل في القرن العشرين. وينقل فوكوياما فكرة «تيموس » من أفلاطون وقد تترجم بالروحانية أو الشجاعة أو الرغبة. «الميغالوثيميا » هي «تيموس » الرجال العظماء محركي التاريخ كقيصر وستالين. من جهة أخرى، «إيزوثيميا » هي المطالبة المتواضعة بالاعتراف بواسطة المساواة لا التفوق، والتاريخ هو صراع بين هذين الشغفين. أما عبقرية الديمقراطية الليبرالية فتتجلى في أنها تمثل نهاية الصراع. وإن جدلية السيد والعبد هي محرك أول للتاريخ الذي لا يمكن أن يشهد الاستقرار ما دام البشر منقسمين إلى سادة وعبيد. فلن يقبل هؤلاء إطلاقاً بصفة التبعية المنسوبة إليهم، وهنا تظهر عبقرية الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية في قدرتها على المصالحة بين أنواع الرغبة التي ذكرها أفلاطون؛ فتحل المساواة السياسية في المجتمع بدلاً من التفوق والسيطرة. وحجة هؤلاء الذين يناضلون من أجل السيطرة هي فكرة إيجاد الثروة التابعة للفكر الرأسمالي وجمعها.
ويعتمد فوكوياما أيضاً على تفسير فلسفة هيغل الذي قدمه ألكسندر كوييف، الفيلسوف السياسي الروسي المنفي. ففي الأربعينيات، كتب كوييف عن أن دولة الرفاه قد حلت مشكلات الرأسمالية التي طرحها ماركس. وقد نجحت الرأسمالية في إزالة تناقضاتها الداخلية. بالإضافة إلى ذلك، هي لا تؤمّن الازدهار المادي فقط، إنما أيضاً الأفكار والقيم المتجانسة وتضعف اصطدام الأيديولوجيات بين الدول، لذا فهي تقلل من خطر الحرب والتهديد بها. إن هيغل نفسه لم يعتقد أن نهاية الحرب بين الدول قد تكون محتملة على الصعيد الدولي. اتفق كوييف وفوكوياما على أنه فيما تستمر الحروب، يعزز تجانسُ القيم بين القوى العظمى عملية السلام في الدول الكبرى، وهي الأهم على المدى البعيد.
تبلورت آراء فوكوياما الفلسفية بالتزامن مع تدقيق مفصل قام به لدراسة ما قيل إنه اتجاه لا مفر منه نحو قيام أنواع من الحكومات الديمقراطية الليبرالية في القرن العشرين. وأقر بأن اقتصاد السوق الحرة والديمقراطية البرلمانية في أوروبا الجنوبية وأمريكا اللاتينية وأجزاء من آسيا وأوروبا الشرقية، مع بعض الاستثناءات المهمة، أصبحا معيار اليوم. كما أعلن أن عدد الدول الديمقراطية الليبرالية كان 13 دولة فقط في عام 1940 ، ثم أصبح 37 دولة في عام 1960 ، و 63 دولة في عام 1990 . كما رسم انخفاض نسبة الحروب بين الدول الديمقراطية مع مرور الزمن، مبرهناً أن السلام بين الدول على علاقة وثيقة بموقفها تجاه معايير الديمقراطية الليبرالية.
لكن «نهاية التاريخ » في نظر فوكوياما ليست بالضرورة خبراً ساراً. فعلى الرغم من انتصار الديمقراطية الليبرالية على منافسيها بوصفها نموذجاً معيارياً، يهتم فوكوياما بدور «الميغالوثيميا » الثانوي أمام «الإيزوثيميا » الذي قد يكون عبارة عن اختيار المساواة على حساب التميز. إذا كانت المساواة سائدة بصورة كلية وما من مسائل عظيمة لتناضل الشعوب من أجلها، فقد يثور الناس على النظام الذي فرض السلام والأمن. لا يمكن الاعتماد على المساواة في الحقوق والراحة المادية فقط، وإلا لأصبحنا كما يقول فوكوياما (مردداً ما قاله نيتشه) «آخر البشر ». وأنهى فوكوياما كتابه بنبرة تحذيرية تقول إنه إذا لم يكن هناك من طرق للتعبير عن «الميغالوثيميا » في المجتمعات التي بلغت «نهاية التاريخ » (ووفقاً لإحصاءاته الخاصة، أقل من ثلث الدول بلغ هذا الحد)، فسوف تنكمش الديمقراطية الليبرالية وتموت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق