لا أسئلة شائكة في بيت غسّان كنفاني
غسان وآني كنفاني
سحر مندور:
يدخل المرء إلى منزل عائلة غسّان كنفاني في ساقية الجنزير في بيروت، شاعراً بالهيبة. ففي هذا البيت التي تسكنه الزوجة آني والإبنة ليلى، لم يتحوّل النضال إلى ذكريات. هنا، التتمة تسبق الذكرى. السياسة لم تتوقف عند زمن الفدائيين الأوائل، وإنما استمرت في الطباعة والنشر، في التعليم والتربية، وفي المقاطعة والعيش. هنا، لا يتهيّب الحديث أمام توازنات الحاضر والأسئلة الشائكة، من شروط التطبيع إلى يد الثقافة في السياسة، ومن جواز السفر الأجنبي إلى المخيّم. وعند الخروج من بيت كنفاني المتوسط الحال، المليء بالـلوحات الآسـرة والتفاصيل الدافئة، لا مفر من فكرةٍ تخطر على البال: بينما نكبر نحن، يبقى هو متيناً في شبابه. مَن عرفوا اســــمه أطـــــفالاً كأديبٍ شهيد، باتوا اليــوم أكبر منـــه في الــــسنّ.. هو الــــذي بلغ استشهاده فــــي السادسة والثــــلاثين من عمره. نحن وآني وليلى، نكبر. أما هو فتراه يستمر في الصورة شاباً حادّاً، وعلى الدرب رفيقَ نقاش.
رجلٌ في الشمس
- فلنبدأ من أعماله. هي كلها هنا؟
ليلى: لدينا الطبعات الأولى من كتب غسان. ولكن لدينا عدد محدود من المخطوطات. أنا أتصور أنه كان يرسلها للطباعة، ولا يكترث بعدها لطلبها من المطبعة. وكان الظرف حرباً.. ولدينا الأغلفة الأولى كلها. هو رسم أغلفة «أم سعد»، و«أرض البرتقال الحزين»، و«رجال في الشمس». لكننا نفتقد الكثير من اللوحات.. لدينا هنا هذه («المسافر في الصحراء»، معلّقة على الحائط)، وهذه («القارئ»)..
آني: أتعرفين لماذا؟ كان غسان يرسم وكانت تلك هوايته. ثم كان الناس يأتون ويُعجبون برسومه، فيهديهم إياها. أهدى معظم رسومه. بقي لنا بعض منها، وأعاد لنا الأصدقاء رسوماً أهداهم إياها.
- هل كان يختار الرسم في أوقات أو فترات معينة؟
آني: عندما كان يريد فعلياً أن يرتخي من توتره، كان يرسم. لكنه كان أيضاً يصنع تصاميم للصحف التي اشتغل فيها، وكان يخطط كلمات، كما فعل مع كلمة «فلسطين». وصمّم ملصقات للثورة، لوغوهات، أغلفة، بلا إشارة إلى أنه هو الذي رسمها. في الماضي، لم يكن يذكر للمصمّم اسم. أنظري، هذا غلاف «عائد إلى حيفا»، رسمه له بهجت عثمان (الفنان المصري الراحل)، ما كنت لأعرف ذلك لولا أن بهجت ترك توقيعه الصغير هنا.
- «رجال في الشمس» كتبها ورسمها في أثناء احتجازه في المنزل لمدة شهر، أليس كذلك؟ إن لم يكن للرواية أساسٌ في قصص الناس، تراه يُوجِد الأساس في استعارات من حياته هو..
آني: أنظري، كان العام 1962. ووقعت محاولة من «القوميين السوريين» لإحداث انقلاب. فجال عناصر الجيش على المباني، يفتّشونها. كنا حينها نعيش في بناية «صيدلية المدينة» في الحمراء. فلما وصلوا إلى بنايتنا، سألوا الناطور عن بيتنا فأبلغهم بأن سيدة أجنبية تقطن فيه وحدها. ذهبوا.. لكن غسان لم يكن يمتلك أوراقاً رسمية تخوّله الإقامة في البلد. كان وجوده غير شرعيّ. لشهرٍ، بقي في البيت. وخلال هذا الشهر، كتب «رجال في الشمس». إلى حالة الأسر، استحضر جزءاً آخر من حياته. فهو كان يعمل في الكويت، ويقضي الصيف في دمشق. فكان يقود سيارته أو يستقل الباص إليها، تحت شمس الصيف في الصحراء.
ليلى: في قصصه القصيرة أيضاً يوجد الكثير منه. «عالمٌ ليس لنا» و«موت السرير رقم 12»، .. لو يعرف المرء قصته، كان ليستشعر وجوده في أماكن كثيرة من قصصه.
آني: «ورقة من غزّة» (قصة قصيرة في «أرض البرتقال الحزين») لها علاقة بأخيه، غازي، عندما انتقل إلى سكرمنتو..
- كان يقضي وقتاً طويلاً مع الناس؟ متى كان يكتب؟
آني: خلال عمله الصحافي إن في «المحرر» أو «الأنوار» أو «الهدف»، كان مكتبه دائماً مليئاً بالناس، صحافيين من العالم ومراسلين وطلاب، وكانت لديه قدرة مدهشة على أن يكتب مقالاته بينما الناس حوله. وكان سريعاً جداً في الكتابة. وفي الليل، كان يكتب الرواية والقصة القصيرة.
ليلى: وكانوا يقولون لي إنه كان قارئاً سريعاً أيضاً، ويتذكّر كل ما يقرأه. الكثير من أصدقائه يقولون إنهم لا يفهمون كيف وجد الوقت ليكتب هذا كله، علماً أنه مات عن عمر 36 سنة. يعني، عملياً، أنجز ذلك كله في 16 عاماً. 18 رواية، ناهيك عن الدراسات، والرسوم، والمقالات، والأوراق التي قدمها في المؤتمرات، والبيانات..
- كيف كان يومه العادي ليكون؟ متى يستيقظ؟
آني: لم يكن عادةً يستيقظ باكراً، وإنما حوالي العاشرة صباحاً، فعمله كصحافي كان يبدأ متأخراً. ولا تنسي، كان مريضاً بالسكّري. فأول ما يفعله في الصباح هو شرب القهوة، ثم يذهب ليتلقى حقنته. كان يأخذ حقنتين، كل يوم.
ليلى: في تلك الأيام، كان يجب أن تغلي الحقن، وتخلطي الأنسولين، لم يكن العلاج مثل اليوم. وهو أصيب بالسكري باكراً، في الثانية والعشرين من العمر، كان في الكويت. هو وعمّتي فايزة، أم لميس، أصيبا به. النوع الأول من السكّري. وللمفارقة، كانا مقرّبين جداً أحدهما من الآخر.
آني: لم يكن أحد في عائلتهما قبلهما يعاني منه، لا الأب ولا الأم ولا الجدود. لكنه أحياناً ينام في الجسم عبر الأجيال، حتى إصابة الشخص بصدمة توقظه، أو مثلاً، في حالة فايزة، أصيبت به بعدما أنجبت لميس.
«الباسبور الأجنبي »
- هل ذهبتم يوماً إلى فلسطين، بجواز السفر الدنماركي؟
آني: أنا زرت فلسطين لكن قبل العام 1967، برفقة أهلي وفايز. ذهبنا إلى أريحا، بيت لحم، الخليل، ذهبت إلى كل مكان. زرنا أصدقاء غسان، وكانت رحلة سعيدة. واليوم، الجميع يقولون لنا: هيا تعالوا، وأشقاء غسان يعيشون في رام الله يعزموننا. لكني لا أمتلك الشجاعة لأذهب، لأن مجرد فكرة الحواجز تفقدني صوابي من الغضب.
ليلى: صعب. صعبة الزيارة لمّا تعرفين أنك تذهبين إلى مكانٍ محتلّ. وأنا لا أعتبر زيارة شبيهة محقّة، أو صائبة: فقط لأننا نحمل جوازات سفر أجنبية يمكننا أن نفعلها. وكل الناس هنا الذين يقتلون أنفسهم ليعودوا، مستعدين يناموا على الطريق بس تكون أرضهم إلهم، لا يقدرون على الذهاب. لا أشعر بأن الزيارة هي فعل صائب، أو صحيح.
- وماذا عن الرأي القائل بإمكانية إغراقهم في حال العودة بالجوازات الأجنبية؟
ليلى: هذا غير صحيح. بالباسبور الأجنبي، لا يمكنك العودة. تبقين زائرة، لا تستقرين، يجب أن تخرجي من البلاد كل ثلاثة أشهر، لا يحق لك أن تسكني، هناك إجراءات كاملة تسجنك في وضعية الزائرة. تبقى من الجواز الأجنبي رمزيته، وتسمعين الناس يحتفون بها: ذهبت إلى فلسطين، وبرمتها كلها.. طيب، حسناً، يمكنك أن تذهبي إلى اليونان وتبرميها كلها، تلك ليست المسألة. في «عائد إلى حيفا»، يقول جملة تعليقاً على مفاجأة فتح الإسرائيليين للمعابر مباشرةً بعد حرب 1967، وأنا دائماً أستخدمها: يجب على كل الأبواب ألا تُفتح إلا من جهةٍ واحدة. وهي بالنسبة إليّ تعني فكرة التحرير: مش هني اللي بيفتحولنا.
نساء فلسطين
- دور النساء محوري في اليوميات الفلسطينية.
ليلى: لمّا كنا في برج البراجنة، وكان كفاح وفادي يتحدثان عن التاريخ والمخيمات، ورد ذكر جوع الناس في حصار العام 1986، وأتذكر أن أم حسين (أم سعد) اخبرتني أنهم كانوا يقتلعون الحشيش ويغلونه بالماء ويأكلونه. في نهاية الأمر، النساء كنّ مَن فكّ الحصار عن المخيم. إذ حملن أطفالهن، واتجهن إلى الحاجز، وقالوا: نحن جوعانين، نحتاج أن نأكل. بالطبع، كان هناك تنسيق أمني، لكنهن كن المبادرات. وقتلت منهن 42 إمرأة قنصاً، لمنعهن من الخروج.
- كيف كان يرى غسان المرأة وحريّتها في المجتمع؟
آني: أذكر نقاشات كثيرة كان يخوضها غسان مع مجموعات اسكندنافية ناشطة في مجال حقوق المرأة. كان يقول لهم إنه لا يمكن تحرير المرأة من دون تحرير الرجل. رأى تحرير المرأة كجزء من تحرير الإنسان، كجزء من تحرير الفلسطيني. ولكن هذا لا يعني أنه لم يكن يدعم المطالب النسوية. وكان هناك عملٌ كثير يحصل أيضاً. تعليم النساء في المخيمات كان متقدّماً. و«اتحاد المرأة الفلسطيني» كان قوياً جداً. وأذكر عين الحلوة في العام 1982، النساء كن اللواتي قاومن في المخيم واحتفظن به، الرجال كانوا من عمر 13 حتى 65 في معتقل أنصار.
ليلى: في حرب المخيمات أيضاً، مخيم برج البراجنة كان خالياً من الرجال.
آني: ثم أن الرجال كانوا ممنوعين من العمل، فيجلسون في البيت أو في المقهى، ينتظرون مرور الوقت. أما النساء فكنّ يصنعن كل شيء: يعملن، يأتين بالمال، يشترين الحاجيات، ينظفن، يطبخن، يهتممن بالأطفال، بالتعليم، ..
ليلى: بيقولولك اليوم: روحي الساعة 7 الصبح على المخيم، بتلاقيه كله نسوان بالشارع، رايحات ع أشغالهن.
آني: والنساء يعملن أيضاً بكثافة في المنظمات غير الحكومية. معنا، النساء يشكّلن نسبة 90 في المئة من فريق العمل، ويعشن في المخيم. وغسان كان يرى هذا كله، فهو أيضاً يساريّ وقوميّ عربيّ، كما أنه قرأ الكثير من الكتب الأجنبية، واحتكّ بالفكر العالمي جيداً.
لائحة غولدا مائير
- من قصّتك الشخصية، يخيّل للمرء أن اختيارك النضال من أجل القضية الفلسطينية سَبَقَ اختيارك لغسّان زوجاً، وليس العكس.
آني: أتعرفين، في أوروبا، بعد العام 1948، كان الجميع يعرفون أنه قد بات لليهود وطن وأسّسوا فيه دولة هي إسرائيل والجميع سعيدٌ بذلك بعد الحرب العالمية، لكن أحداً لم يعرف أي شيء عمّا أصاب الفلسطينيين، أبداً. أتيت من عائلة طبقة عاملة ومناضلة ويسارية، ولكننا لم نعرف شيئاً عن ذلك رغم انغماسنا في قضايا عالمية كثيرة آنذاك! عندما شاركت بمؤتمرٍ في يوغوسلافيا، كان مؤتمر الطلاب العالمي، أخبرني طالبان فلسطينيان بما جرى، وكانا يمتلكان الوثائق الكافية لتأكيد أقوالهما. شعرت بغضبٍ شديد لأني لم أعرف شيئاً قبلها. صدمت، فقد كان ذلك بعد مرور 12 عاماً على إعلان دولة إسرائيل! العالم كان قد تمكّن من دفن القضية الفلسطينية. جسدياً، في المخيمات. وعقلياً وفكرياً، عبر عدم ذكرهم أبداً.
- وكيف وصلت إلى هنا؟
آني: خلال مراسلاتي مع الشباب الفلسطينيين الذين تعرفت إليهم في يوغوسلافيا، وعدتهم بأن آتي لزيارتهم في دمشق. وفعلاً، زرت المدينة لأسبوعين، ثم كانت بيروت الخطوة الثانية. ولمّا التقيت غسان فيها، كان التواصل في سياقٍ نضاليّ، ونمت العلاقة الشخصية بعدها. وكانت خطتي تقتضي أن أكمل بعد بيروت إلى القاهرة، لكنها توقفت في بيروت (تضحك). أتيت إلى هنا في أيلول 1961، وتزوّجنا في تشرين الثاني 1961. بدأت العمل في روضة أطفال لبنانية في بيروت، بعدما طلب مني غسّان أن أبقى. كما عملت لسنتين في السفارة الدنماركية مع الملحق الزراعي. ثم في العام 1967، عملت في روضات «بابا رشاد»، و«مس قمر». وبعد اغتيال غسّان، عملت لسنة في «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» مع أنيس الصايغ، وكان محمود درويش هناك أيضاً.. وفي العام 1974، بدأت تجهيز روضة غسان الأولى، في برج البراجنة.
- اليوم، تغيّر المشهد في العالم. الغرب الأوروبي الأميركي بات أكثر اطلاعاً على القضية الفلسطينية. كيف تم هذا التغيير، بحسب مراقبتك؟
آني: طبعاً، كانت هناك حركة لتأمين المعرفة. أذكر العمل في العام 1967 مع لجنة المرأة العربية للإعلام التي أمّنت توثيقاً جيداً لما جرى حينها. كما كثرت اللجان الإعلامية، أضف إليها الصحف. أتعرفين، كانت لي صديقة اسكندينافية لم تتفاعل مع القضية بالقدر الذي توقعته منها لما أخبرتها عن فلسطين، ولكن، في العام 1975، تمت ترجمة «رجال في الشمس» إلى السويدية. قرأتها، وكتبت لي: الآن فهمت. ما أود أن أقوله هو أن العمل السياسي ساهم طبعاً في التغيير، لكن العمل الثقافي كان له أثر كبير، مع ناس مثل محمود درويش الذين تمت ترجمتهم باكراً إلى اللغات الإسكندينافية. في الستينيات والسبعينيات، كان الناس منخرطين جداً بالقضايا العالمية من فيتنام إلى جنوب أفريقيا، فقرأوا وتأثروا وشكّلوا حركة تضامن صلبة. وكان هناك دور بارز للمؤرخين الإسرائيليين الذين كتبوا الحقيقة، مثل ايلان بابيه وغيره. ثم، أتى الكثيرون إلى هنا ليروا، ورأوا المخيمات.. لا أذكر أحداً أتى من اسكندينافيا، ولو كان ضمنياً متحمّساً لإسرائيل، وخرج من المخيم من دون أن يبدّل رأيه. حتى جنرالات الأمم المتحدة المتقاعدين: معظمهم يأتي متحمّساً لإسرائيل، ويذهب متحمّساً للفلسطينيين. فالإجابة هي المعرفة. الخطر الأكبر هو الجهل، التجهيل.
- ما يذكّر بـــــلائحة المفكــــــرين الفلســـــطينيين المقرّر قتلُــــــــهم، وهي لائحة تُنســـــَب إلى غـــــولدا مائير، وفيها اسم غسان.
آني: كان غسان الاسم الأول على اللائحة. وفعلاً، بعده كرّت سبحة الاغتيالات. ولكن الحركة الثقافية الفلسطينية استمرّت بالنشاط والتقدّم! أنظري اليوم في السينما، والأدب، الرسم، وحتى الرقص الشعبي، وصولاً إلى كرة القدم. النضال له وجوهٌ عديدة، وأذكر شعاراً للجبهة الشعبية تقول فيه إن كل مثقف هو فدائي وكل فدائي هو مثقف. ليس من الكافي أن تتدرّب على القتال، ولكن يجب أيضاً أن تدرّب العقل فكرياً.
- وفي المخيمات، اليوم؟
آني: هي العين التي يختار المرء أن يلقيها على المخيم. يُصوّر على أنه مليء بالمجرمين والسلاح، يُسمّى بؤرة في معظم وسائل الإعلام المحلية والعالمية، غير أن الواقع أكثر تعقيداً من ذلك بكثير. توجد مدارس، روضات، متاجر، نوادٍ صغيرة، ورش خياطة وتطريز، ميكانيك، ... هو مجتمع، يوجد كل شيء في المجتمع. هم يحتاجون ذلك ليستمروا بالحياة. الحركة موجودة، لكن الكاميرا تختار ما ترى.
- ولكن أثر الثقافة يبدو منحسراً اليوم في الواقع الفلسطيني. هل للسياسة يدٌ في ذلك؟
ليلى: في الستينيات، كان الوضع مختلفاً. كانوا مخلوطين أكثر ببعض، الثقافة والسياسة والسلاح والناس. نتجت عن ذلك أخطاء، وكانت تجربة تُراجع، لكني أتكلم عن المجتمع. الآن، أصبحت الكتل مستقلة. قبل، كان الحراك شمولياً أكثر. قد يُقال: لكنه عاد علينا بالحال التي وصلنا لها. ولكن، فعلياً سلوك منحى المفاوضات وصل إلى نتائج مأساوية أيضاً!
العلاقة بالإسرائيليين
- غسان كان يستقبل صحافيين أجانب كثراً. ومنهم من كان مناصراً للصهيونية.
آني: (تضحك) وكان حادّاً جداً معهم! أذكر مرة، أتته صحافية بجنسية أجنبية، اكتشف الأمن الفلسطيني بعد تفتيش غرفتها سراً في الفندق أنها إسرائيلية. استقبلها، وقال لها: أنظري أنا لست ضدك لأنك إسرائيلية، وإنما ضدك بسبب ذوقك السيئ جداً بالرجال. فقد اكتشفوا أيضاً أنها كانت حبيبة موشي ديان. (تضحك). لقد جعل من «الهدف» مقصداً للصحافيين الأجانب، وأذكر مؤتمراً صحافياً عقده حول أحداث أيلول 1970 في الأردن، إذ سأله صحافي: ألا تخشون أن ينقلب الرأي العام ضدكم؟ فأجابه غسان: اسمع، حتى الآن، لم نخطف درّاجة هوائية، ومع ذلك، فإن الرأي العام العالمي ضدنا.
ليلى: وكان يؤمن بأنه من الواجب علينا أن نتعلم عن عدونا. لذلك، أنجز دراسة عن الأدب الصهيوني. وفي زمنٍ كان العرب يعتبرون فيه أهل 48 غير وطنيين، كان غسان من قدّم للرأي العام العربي محمود درويش، وتوفيق زياد، وسميح القاسم. وأنجز دراسة عن الأدب المقاوم تحت الاحتلال، كان يفعل ذلك يوم كان يُعتبر ذلك خيانة.
- كيف يمكن فهم ذلك والاستلهام منه اليوم في النقاش حول تطوير مفهوم التطبيع؟ هل يجب أن نبقى على قرار بعدم التواصل مع أي إسرائيلي لأي سبب؟
آني: لا، لا يمكن قول ذلك. فهناك إسرائيليون مثل إيلان بابيه وسواه، يدافعون عن القضية الفلسطينية!
ليلى: ثم إن المقاطعة اليوم لها أسس دقيقة. «حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وإنزال العقوبات» كما المقاطعة الأكاديمية هدفها هو إيذاؤهم وليس إيذاء الفلسطيني. لكن الإسرائيليين يضخون كمية هائلة من الأموال في العالم لمصلحة تجميل الصورة، وينتجون صوراً وسياقات يتجاور فيها الفلسطيني والإسرائيلي في علاقة متساوية. هذه إنتاجات تجب مقاطعتها، لأن هدفها الترويج للصهيونية.
- طبعاً.. ولكن، مثلاً، إذا طلب صحافيّ إسرائيلي مقابلة. هل تقبلين؟
آني: من هو؟ أيّ صحافي؟ هل برهن أنه مؤيد للقضية الفلسطينية؟ أو على الأقل أنه معادٍ للصهيونية؟ الأمر يختلف تبعاً للشخص. فهناك أيضاً محامون إسرائيليون يدافعون عن الأسرى الفلسطينيين. ولو أنهم يحملون الجنسية الإسرائيلية ويقيمون في الأرض، فهم ليسوا بالضرورة صهاينة.
ليلى: وآني رفضت مقابلات كثيرة مع صحافيين ليسوا يهوداً ولا هم إسرائيليون، لكنها استكشفت نياتهم من الحديث، وعرفت ما يريدون تظهيره بواسطتها عبر تحوير كلامها. تعرف الهدف من الحوار، فترفضه. الأمر ذاته ينسحب على الإسرائيليين: ماذا يريد أن يفعل صحافيّ صهيوني بحوار معنا؟ فهو يمتلك النص الأخير، ويمكنه أن ينشر ما يشاء.
آني: أتعرفين، والد عازف الكمان الأشهر عالمياً يهودي منوحين، اسمه موشيه منوحين. أتى موشيه مع عائلته من روسيا واستقر في فلسطين قبل إعلان تأسيس إسرائيل. وكان منتسباً لحركة تعمل من أجل تأمين التعاون ما بين اليهود والبقية. ولكن لما تحوّلت الأمور نحو المجرى الذي نعرفه، غادر إسرائيل. وبعدما كتب كتاباً اسمه «انحطاط اليهودية في عصرنا» وفُقدت نسخه، أعاد طباعته مع «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» هنا. بنينا أنا وغسان تواصلاً مستمراً معه، بدأ منذ الستينيات واستمر معي. نحن لسنا ضد اليهود لكونهم يهوداً. أما الإسرائيليون فيمكن أن ينوجد بينهم من ولد إسرائيلياً لكنه اختار مناهضة الصهيونية. ومع أن حركات السلام في إسرائيل أضعف بكثير اليوم مما كانت عليه منذ عشرين سنة، يبقى من الممكن إيجاد إسرائيلي يدعم القضية الفلسطينية ويعادي الصهيونية صراحةً. وبرأيي، أول سؤال يجب أن يطرحه الشخص على نفسه أمام الإسرائيلي: هل هو صهيوني؟ وهو سؤال يجب طرحه عند مقابلة أي شخص، وليس فقط الإسرائيلي.
أتعرفين، كتاب غسان «رجال في الشمس» ترجمه إلى العبرية الجنرال ماتيتياهو بيليد. كان جنرالاً إسرائيلياً وصار مناهضاً للصهيونية، يلف العالم ليحكي عن أحقية القضية. إبنه كتب كتاباً اسمه «إبن الجنرال»، وابنته أيضاً مؤيدة شرسة للقضية، أكثر من والدهما حتى. أظن أن ابنة إبنته، أي حفيدته، قتلت في عملية استشهادية في باص. وراحت العائلة زارت عائلة بيت الاستشهادي، إذ شعروا بأن الظلم لا بد أن يكون هائلاً ليقرّر شاب أن يفجّر نفسه.
- إذاً، اختيار التواصل تبعاً للشخص ممكن أن يكون مفيداً للقضية؟
آني: أنظري إلى فيليشيا لانغر. ترافعت عن الكثير من الفلسطينيين في إسرائيل، ثم لم تحتمل الأمر، تركت إسرائيل وعاشت في ألمانيا. (تبتسم) أذكر لما التقينا وتعارفنا مرة في الدنمارك، قالت لي: أتعرفين كم من الفلسطينيين ترافعت عنهم لأنهم قرأوا روايات زوجك؟.. كثيرون مثلها لا يتحملون البقاء في إسرائيل.
- ومن تجربتك أنت ليلى، أتشاركين آني الرأي حول الإسرائيليين؟
ليلى: أنا أتوقف عند الملاحظة الأخيرة التي قالتها آني، عن الإسرائيليين مناهضي الصهيونية الذين حاولوا إحداث تغيير فلم يجدوا بدّاً من التخليّ عن جنسيتهم، ومغادرة الأرض المحتلة. بالنسبة إليّ، من الصعب معالجة مستويات الاختلاف كافة بين الإسرائيليين. ومن الصعب جداً أن أتفهم الإسرائيليين الباقين في إسرائيل. ففي ذلك عدم اعتراف بأن هناك احتلالاً، وأنه موجود بشكل غير شرعي، ناهيك عن المستوطنين! لكن، حسناً، الموجودين منذ ما قبل العام 1948، كانوا فلسطينيين في فلسطين، كالصحافي أمنون كابلويك مثلاً. لكن الآتي من بولندا أو نيويورك، وباقٍ على امتيازاته في الأرض المحتلة، فلا.
(جدلية).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق