المحاور الكبرى للعرض
السوسيولوجيا الكولونيالية : مساهمة في أصولها واتجاهاتها.
نقد السوسيولوجيا الكولونيالية والتأسيس العلمي للانتروبولوجية
الأطروحة الانقسامية
العائلة الفاسية بالمغرب في بداية القرن20 نموذجا
السوسيولوجيا الكولونيالية : مساهمة في أصولها واتجاهاتها:
لقد استهدفت الدراسة السوسيولوجية الكولونيالية في شمال إفريقيا المجتمعات المغاربية في لحظات مبكرة من التاريخ وكان في ما لحقته المجتمع المغربي، بحيث شكلت مقاربة جديدة في ربوع بلاد المغرب، فلإرث السوسيولوجي يكشف لنا اقتران ظهور البوادر والإرهاصات الأولى للسوسيولوجية الكلونيالية في مهد أطماع الدول الأوروبية، وخاصة المعسكر الفرنسي الذي رصد مجمل الظواهر الاجتماعية على جميع المستويات بما في ذلك الروابط الاجتماعية ولأسرية والقبلية، وكذلك علاقة الدولة بالمجتمع وأدوار القبيلة والعلاقات النسبية ودور بعض الفئات الاجتماعية كالفلاحين، المرأة، الشباب، كما كان الاهتمام منصبا على الظاهرة الدينية .
إن ما تم ذكره آنفا شكل أهمية كبيرة في دراسة المجتمعات المغاربية والمجتمع المغربي على وجه الخصوص، فبفضل الحركات الأوروبية نحو شمال إفريقيا في أواسط القرن 19 وقبلها في الجزائر بعقدين من الزمن ساعدها ذلك على تحصيل تراكم معرفي كمي ونوعي مهدا الطريق نحو السوسيولوجيا الكولونيالية إلى جانب الأبحاث والدراسات التي أنجزتها البعثات العلمية التي تمثلت في بعض الرحالة والقادة العسكريين والسوسيولوجيين، ونستحضر في هذا الجانب احتلال الجزائر كما سبق وأشرنا إلى ذلك واحتلال تطوان والتطور العلمي خاصة في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، "فقد مكن احتلال الجزائر فرنسا بالفعل من تطوير وتعميق معرفتها بالبلدان التي ستحتلها، وقد ساهم في تبسيط ذلك الشبه البليغ بين البنيات الاجتماعية للبلدان المغربية حينئذ، كما أتاحت المعطيات المستخلصة بالجزائر للسوسيولوجيين والمؤرخين تكوين جهاز نظري قابل للنقاش بلا شك لكنه سهل معطيات مهمة حول المغرب" .
وقد جاء تعميق وتأكيد الأطماع الاستعمارية وانشغال السوسيولوجية في تأسيس مدرسة للأدب بالعاصمة الجزائر سنة 1879 تحت إدارة renne basset المخبر الرئيسي للمفكر الكولونيالي حول المغرب العربي ولعبت السنوات الأولى من القرن 20 تأسيس بعثة علمية* خاصة بالمغرب، بعد اقل من ثلاثين سنة من تأسيس مدرسة الجزائر وكان ذلك تحديدا سنة 1904 دورا هاما في السوسيولوجية الكولونيالية ويقول في هذا الصدد المكي بنطاهر والتباري بوعسلة، "كان لتأسيس هذه البعثة العلمية تحولا مؤسساتيا في الدراسة السوسيولوجية والاثنولوجية بالمغرب حيث تراكمت المعرفة المؤسساتية في واقع استعماري محض بهدف الاهتمام بمآل المجتمع المستعمَر فمنذ 1904 تعمقت القناعة الوضعية بمساهمة للعلوم الاجتماعية في توجيه السياسة الأهلية أو ما يطلق عليه P. Indigène فتعرف مركز السوسيولوجيا .
ولعل قبل ذلك بقليل بدأت عمليات الاكتشاف المغرب عن طريق استعمال المعرفة إذ يعد في هذا الجانب كتاب المغرب المجهول لمولييراس الذي ظهر منه الجزء الأول سنة 1895 أول بحث إتنولوجي يتناول جزءا كبيرا من العادات والتقاليد التي كانت سائدة في المجتمع المغربي، كتاب يأتي ضمن سياسة أشرف على توجيهات الحاكم العام في الجزائر كامبون والذي عرف عنه الميل إلى استقلال العلوم الاجتماعية في تنفيذ سياسات الاحتلال مستفيدا من التجربة الفرنسية في الجزائر كما يقول الباحث السوسيولوجي محمد الغيلاني .
كما لا يمكن تجاهل دراسة شارل دوفوكو بعنوان Reconnaissance au Maroc خاصة ما تعلق منها بيهود المغرب إذ يعدها بيرك أهم إنجاز ولو بالمقارنة مع ما تلاها، ودراسة لوبلاي لحياة حرفيي طنجة 1877 وغيرها... ولوشاتولي حول قبائل الجنوب الغربي للمغرب .
وعموما يتضح بأن حياة السوسيولوجيا الكولونيالية انطلقت من احتلال الجزائر مرورا بمجموعة من الأبحاث والدراسات وتأسيس مدرسة الأدب بالجزائر سيتم بتأسيس البعثة العلمية 1904 التابعة للبحث السوسيولوجي الكولونيالي لينطلق مسلسل التغلغل في المجتمع، فما هي إذن توجهات البحث لهذه البعثة العلمية؟.
لعل أبرز ما يمكن أن نشير إليه هو أن تجربة البعثة العلمية هي تلك التي دشنها ميشوبلير (1930/1853) الذي تحمل مسؤولية إدارة البعثة سنة 1907 حيث كانت جهوده الشخصية ذات قيمة جوهرية على المشروع الكولونيالي خصوصا على مستوى إعداد المونوغرافيات، بحيث عرفت البعثة تحت إدارته على الإنتاج ويتعلق الأمر هنا بإعداد جملة من المصنفات والمحفوظات من قبيل مدن وقبائل المغرب، الأرشيفات المغربية، الأرشيفات البربرية ، ويذكر عبد الكبير الخطيبي أن كما كبيرا من تلك الوثائق والأرشيفات تم ترحيلها قبيل خروج الفرنسيين من المغرب ما يحرم المؤرخ المغربي من كتابة تاريخ حقيقي عن بلده .
لقد كان ميشوبلير إضافة إلى ذلك أول ما انتبه ودعا إلى توظيف الثنائية العرب /البربر وهي الثنائية التي استندت عليها الحماية لتغلغلها، وتلك الأطروحة عرفت أوج تبلورها مع صدور الظهير البربري سنة 1930 كوسيلة للهيمنة الكلولونيالية، هذه الثنائية ذات البعد العرقي ستأخذ أبعاد أخرى في أبحاث ميشوبلير وغيره من الباحثين الكولونيالية لما لها من نتائج عميقة ومؤثرة عندما بدأ الحديث عن بلاد السيبة، وبلاد المخزن والدعوة إلى المحافظة على هذه الثنائية في السياسة الكولونيالية لما لها من نتائج عميقة ومؤثرة في عمليات السيطرة الفرنسية على المجتمع واضعا في الدولة وإنهاك قواها .
وقد انطلق روبير مونطاني بناء على هذه الثنائيات التي تتحكم بالنظام الاجتماعي السياسي بالمغرب (1952/1893) والذي كان مشرفا على القسم السابع المتخصص في الاتنولوجيا والسوسيولوجيا المغربية التابع لمعهد الدراسات العليا المغربية الذي حل محل البعثة العلمية سنة 1925 وقبله تحت مسمى شعبة سوسيولوجيا الشؤون الأهلية.
لقد كلف روبير منوطاني من طرف الجينرال اليوطي بدراسة أصول السلطة عند القياد الكبار ودراسة القبائل المتمردة في الجنوب المغربي وهي قبائل معروفة بتنظيماتها المميزة والمحكمة، "لكن روبير مونطاني* بخبرته اهتم بدراسة القبائل البربرية في منطقة سوس بالجنوب المغربي، وأعطانا صورة حول مسألة تداول السلطة داخل القبائل وسبل الهيمنة للحصول على الحظوة داخل المنطق القبلي التي تقود بدورها إلى التمثيل المزدوج "لأمغار" كزعيم للقبيلة و"كقايد" يحوز على ثقة المخزن" .
وعموما يتضح بأن مساهمة السوسيولوجيا الكولونيالية بالمجتمع المغربي يتداخل فيها الفضول العلمي، والنكهة الأيديولوجية لتشكيل مميزات علوم اجتماعية في خدمة السياسة. ولم تكن معرفة مكونات المجتمع المغربي تنطلق من موضوعية علمية تستهدف معرفة جيدة للمجتمعات غير الأوروبية فحسب، بل من أجل غاية سياسية تغير أحيانا بعض مميزات الواقع الاجتماعي لصالح التصورات الاستعمارية، وتنساق أحيانا أخرى مع التبسيط والتمركز الإثني.
نقد السوسيولوجيا الكولونيالية والتأسيس العلمي للانتروبولوجية:
تعتبر الدراسة التي قام بها جاك بيرك (1995-1910) تحت عنوان" البنيات الاجتماعية في الأطلس الكبير" من بين الدرسات التطهيرية التي انتقدت السوسيولوجيا الكولونيالية، حيث اعتبر هذا الأخير أن الأبحاث الكولونيالية دنست السوسيولوجيا مما دفعه إلى إعادة النظر في روابط العلاقة بين الشرع والعرف مبرزا طبيعتها التجاذبية وعجز السوسيولوجيا الكولونيالية عن استيعاب وفهم تلك الطبيعة. حيث حاول جاك بيرك التشكيك في كل خلاصات وفرضيات السوسيولوجيا الكولونيالية إنطلاقا من إعادة صياغة مفهوم القبيلة وانتماءاتها القرابية ( مفهوم الجد المشترك مفهوم وهمي)، وانطلاقا أيضا من علاقة الإقتصادي بالإجتماعي نافيا بذلك مركزية السياسي كما كانت تدعي السوسيولوجيا الكولونيالية.
وهكذا حاول جاك بيرك أن يمارس نقدا ذاتيا للسوسيولوجيا الكولونيالية وأن يدشن البدايات الأولى لتقويم وتقيم النماذج التحليلية لذلك الإرث السوسيسولوجي المرتبط بمرحلة تاريخية .
وتجدر الإشارة هنا أن الدراسة الانتروبولوجية كعلم لم تتأسس إلا منذ اللحظة التي ألغى فيها الباحتون المقاومة التي يبدونها لسماع الاخر ودراسته لغته وأعرافه وأنماط حياته، وهكذا انتقد "بواس"Boas مفهوم العرق واستقلاليته كعامل مفسر للظواهر الثقافية، كما اقتنع "رادكليف براون" و"مالينوفسكي" بأنه من الضروري أن يمر البحث الإثنولوجي بمعرفة لغة الغير وأعرافه، وأولى لحظة نقدية في هذا الإتجاه مثلها رفض الدراسات الأنتروبولوجية التقافية في القرن العشرين لفكرة العرق والتمييز العرقي بين الجماعات الإثنية على أسس الخاصيات العرقية والفيزيولوجية، فلا وجود لتفوق عرق على آخر على أساس بيولوجي أما فيما يخص الاختلافات الملاحظة بين المجتمعات فترجع أساسا إلى معطيات تاريخية وبدل الاتجاهات السوسيولوجيا الكولونيالية صاغت الانتروبولوجيا الاجتماعية والتقافية لنفسها بديلا علميا أساسه :
1ـ أن كل ثقافة هي استجابة لحاجيات بيولوجية خاصة بمجموعة إثنية أو قبلية أومجتمع معين، ولأجل ذلك يكون البحث في الأسس البيولوجيا للتقافة أهم شيء كما أكد مالينوفسكي. 2ـ لا وجود لفكرة المجتمع البسيط أو البارد أو المتوحش إلا في ذهن الإيديولوجيا الإستعمارية أو العنصرية وفي هذا الصدد يقول: "كلود ليفي ستروس" نعرف أن كلمة "بدائي" تدل على مجموعة واسعة من الأهالي لم يعرفوا الكتابة وأزيحوا من مجال الدراسات التي يقوم بها المؤرخ فلم يصلهم توسع الحضارة التقنية إلا في عهد قريب، هم إذن أهالي بعيدون كل البعد بفعل بيئتهم الإجتماعية وتمثلهم للعالم عن المفاهيم التي يعتبرها الاقتصاد والفلسفة السياسيين كمفاهيم أساسية عند دراسة المجتمعات.
ويضيف منتقدا هذا الرأي بقوله : أن الشعب البدائي ليس شعبا متخلفا أو متأخرا لكونه قد يكون شاهدا على وجود فكر يتميز بالإبداع والإختراع يتجاوز ما يبدعه الإنسان المتحضر اليوم. ومن جهة أخرى ليس الشعب البدائي مفتقدا للتاريخ رغم أننا نجهل عن هذا التاريخ كل شيء وذلك بسبب غياب الوثائق...
3 ـ أن كل تقافة تشكل عالما أو منظومة نسقية من المعايير والقيم والتمثلات والانشطة والعلاقات الإجتماعية... ومعنى هذا أن وراء كل ثقافة توجد أنساق إجتماعية وبنيات تقافية معقدة تدل على خصوصية الحياة البشرية في هذه المستويات وتتجلى هذه الخصوصية لتلك المجتمعات في : المستوى الإجتماعي الذي تتحكم فيه الأنساق الإجتماعية القاعدية لقيام هذه المجتمعات أهمها الأسرة ونظم القرابة والتربية وأنظمة السلطة الدينية والسياسية وأنظمة الإعتقاد والتمثل والتخيل... ثم مستوى بناء الشخصية أو الهوية التقافية للفرد وهنا تتفاعل كل أنظمة المجتمع في عملية التنشئة الإجتماعية للفرد.
بالإضافة إلى المستوى السياسي ويهم أنشطة السلطة والتراتبية والعنف الرمزي داخل هذه المجتمعات. وأخيرا المستوى الديني الميتولوجي ويعطى ثقافة شاملة لتمثل هذه المجتمعات للعالم .
ومن المار ذكره يمكن القول أن الظاهرة الإجتماعية لاتكتسب قيمتها من ذاتها بل قياسا إلى باقي ظواهر النسق الجمعي ككل وهذا ما يؤكده العالم الأنتروبولوجي "إيفانزبريتشارد" حيث اعتبر أن الانتروبولوجي يدرس المجتمعات باعتبارها شاملة لكيانات أو أنساق جزئية تتداخل فيما بينها كالبيئة والاقتصاد والمؤسسات السياسية...
وهكذا سوف تبدأ السوسيولوجيا الأنجلوساكسونية في الفترة 1960 في اكتشاف المجتمع المغربي من خلال فرضيات وأطر تحليلية تنتمي إلى الأطروحة الانقسامية وهذا ما سيتم التطرق إليه في مداخلة لاحقة.
عن النماذج النظرية والمناهج العلمية التي حاول من خلالها الباحثون والدارسون الأنتروبولوجيون دراسة المجتمعات الغير الأوربية أو التي أسمتها بدائية ظل شبه غائب إن لم يكن منعدما في فترة سادت فيها النزعة المركزية حول الذات – الذات الأوربية- إننا إزاء خطاب مهووس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق