الجمعة، 13 يونيو 2014

الجغرافيا السياسية Geopolitics

طالما أدّت الجغرافيا دوراً مهماً في الشؤون الإنسانية. فقد رسمت هوية وطابع وتاريخ الدول - الأمم، وساعدت، كما أعاقت، نموها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وأدت دوراً مهماً في علاقاتها الدولية. والجغرافيا السياسية هي دراسة تأثير العوامل الجغرافية في سلوك الدولة - الأمة، كيف يحدد موقعها ومناخها ومواردها الطبيعية وسكانها وطبيعة أرضها خيارات سياستها الخارجية، وموقعها في هرمية الدول التراتبية أيضاً.
وضع مصطلح «جغرافيا سياسية » رودلف كيلن، وهو عالم سياسي سويدي، في عام 1899 . بيد أنه لم ينتشر استعماله إلا في الثلاثينيات من القرن العشرين حين تبنته مجموعة من الجغرافيين السياسيين الألمان، وبوجه خاص الميجر جنرال المتقاعد الدكتور "كارل هوشهوفر " بدائرة الجغرافيا في جامعة ميونيخ. وكان ارتباط هوشهوفر عبر رودلف هس مع أدولف هتلر هو الذي جذب اهتمام العالم إلى هذا المفهوم حينما أمن هتلر السلطة لنفسه وللحزب النازي خلال العام 1933 . كما اهتم العديد من المفكرين في الغرب وروسيا والصين واليابان بالجغرافيا السياسية باعتبارها علم صناعة الدولة، وطريقة تفكير من خلال الأهمية المفترضة للعوامل الجغرافية في العلاقات الدولية. وانطلاقاً من كونها حقلا للدارسة، استوحت الجغرافيا السياسية أعمال مفكرين أساسيين في القرن التاسع عشر، هما: ألفرد تاير ماهان (1840 - 1914 ) وسير هالفورد جون ماكندر ( 1861 - 1947 ). ولكن يمكن لفت الانتباه إلى تأثير الرائد الألماني في مجال الجغرافيا السياسية، فريدريتش راتزل ( 1844 - 1904 )، والجغرافي الفرنسي بيار فيدال دي لا بلاش (1845 - 1918 ). كتب ماهان في نهاية القرن التاسع عشر ليقول إن القوة البحرية كانت أساس قوة الدولة. إن الدولة التي تسيطر على أعالي البحار (كما فعلت بريطانيا في ذلك الوقت) بإمكانها أن تسيطر على العلاقات الدولية. بيد أن المقدرة على تحقيق هكذا سيطرة تعتمد على قوات بحرية كبيرة ومسلحة تسليحاً جيداً، وعلى شواطئ طويلة وموانئ مناسبة. في عام 1919 ، قدم سير هالفور ماكندر موازياً إقليمياً لنظرية ماهان (تخلى عنه في عام 1943 ). تحدث ماكندر عما يسمى ب”نظرية الأرض الداخلية”، قائلاً إن الدولة التي تسيطر على الأراضي بين ألمانيا وسيبيريا سيكون بإمكانها أن تسيطر على العالم. وكما قال ماكندر في جمل لا تنسى:
من يحكم أوروبا الشرقية يحكم الأرض الداخلية.
من يحكم الأرض الداخلية يحكم الجزيرة العالمية.
من يحكم الجزيرة العالمية يحكم العالم.

على الرغم من ارتباطها بالسياسية الخارجية لألمانيا النازية في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين (كان هتلر مهووساً بتوسيع «منطقة حياة » ألمانيا)، فإن الجغرافيا السياسية مجال استقصاء جدي. تتضافر مختلف أبعاد الجغرافيا السياسية حول أهمية موقع الدول على الخريطة العالمية. فالدولة التي تنحشر بين دولتين أخريين ستحمل أهدافاً في سياستها الخارجية مختلفة تماماً عن الدولة التي يحيط بها البحر أو حواجز طبيعية أخرى. وغالباً ما قيل مثلاً إن النزعات الانعزالية في السياسة الخارجية الأمريكية مرتبطة مباشرة بالمسافة التي تفصلها عن أوروبا، وأن المحيطين الأطلسي والهادي كانا يؤمنان دفاعات طبيعية (قبل اختراع الأسلحة النووية) (. ويفسر هذا الأمر أيضاً التشديد الذي وضعته الولايات المتحدة على القوة البحرية في السنوات المئة الأخيرة تقريباً. وفي المقابل، إن موقع روسيا على أطراف الغرب وافتقارها إلى الحدود الآمنة يساعد في فهم علاقاتها الصعبة تاريخياً مع الغرب.
بالنسبة إلى المحللين الجيوسياسيين، ثمة صلة مهمة بين الموقع والثروة والقوة. فالدول الواقعة في مناطق ذات المناخ المعتدل تنزع إلى أن تكون أكثر قوة اقتصادياً وعسكرياً من غيرها من الدول. وهي قادرة على إنتاج مجوعة منوعة من المنتجات الزراعية ما يسهل استخراج مواردها الطبيعية. وفي الوقت ذاته، تجد الدول الواقعة حول خط الاستواء، أو في مناطق باردة جداً من الكرة الأرضية، تنزع إلى أن تكون متخلفة اقتصادياً ودائماً تحت رحمة بيئتها الطبيعة.
ويؤثر المناخ أيضاً في مقدرة الدولة على خوض حرب. والمثال الممتاز على ما نقول هو أعداد الجنود الفرنسيين والألمان الكبيرة الذين تجمدوا حتى الموت بينما هم يحاولون غزو روسيا في القرنين التاسع عشر والعشرين. بالإضافة إلى ذلك، يؤثر المناخ في الأرض، وهذا بدوره يحمل انعكاسه على طريقة خوض الحرب. الصحارى والأدغال وصفوف الجبال تحتاج كلها تدريبات خاصة وتجهيزات، وبإمكانها إما أن تفيد الجيش وإما أن تسبب له هزيمة نكراء. وهكذا، فإن الموقع يحمل معه تبعات استراتيجية مهمة. فلننظر مثلاً إلى التفوق الواضح الذي تتمتع به دولة تسيطر على منابع نهر كبير بالنسبة إلى جارتها الواقعة في أسفل النهر. لن تختلف أهداف السياسة الخارجية لدى كل من الدولتين وحسب، طبقاً لموقع كل واحدة منهما على نظام النهر، بل سيؤدي ذلك أيضاً إلى ردود استراتيجية مختلفة في حال وقوع أزمة عسكرية.
والاعتقاد الكامن في قلب التحليل الجيوسياسي هو أن المقدرة الاقتصادية والعسكرية لدى الدول وموقعها في التراتبية الهرمية بين سائر الدول وكيف تتعاطى مع جيرانها هي نتيجة عوامل جيوسياسية. وفي العلاقات الدولية، تكون الجغرافيا هي القدر بذاته. ولكن، من المهم أيضاً ألا نقع في فخ حصر مجال معقد من الاستقصاء، كمجال العلاقات الدولية بعامل واحد. ثمة طرق كثيرة لتفسير سلوك دولة ما، والجغرافيا السياسية هي إحداها. كما إن بعض المفكرين يقولون إن الجغرافيا السياسية قد عفا عنها الزمن في القرن الحادي والعشرين، وحلت محلها «السياسات الزمنية ». إن القيمة الاستراتيجية التي يتمتع بها «اللامكان » الخاص بالسرعة قد حل محل المكان بعدما ضغطت وسائل الاتصال الإلكترونية ووسائل النقل السريعة الزمان والمكان معاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق