كاتب القصة أو الرواية عندما يشرع فى كتابة عمله الأدبى هل يضع فى حساباته القارىء؟, سؤال مهم يحتاج إلى أن نبحث عن إجابة واضحة عنه, هل شعار مثل الفن من أجل الفن شعار واقعى أم هو مثالية مبتذلة؟, إلى من يتوجه الكاتب بكتاباته؟, هل يخاطب جمهور القراء أم هو يكتب لنفسه؟, هل يقدح فى قيمة العمل الأدبى أن يتجاوب الكاتب مع طموحات و رغبات القارىء؟, إليس هناك خلط واضح بين العمل الفنى التجارى و العمل الفنى الذى يخاطب الجمهور الواقعى و ليس الجمهور المتخيل فى ذهن الكاتب؟
ما أطرحه فى هذا المقال ليس جديداً, و كثر الكلام حول هذه الأسئلة و أكثر منها و لازالت هذه الأسئلة مطروحة و الكثيرون ملوا من محاولة الإجابة عليها و البعض يبحث عن مناطق رمادية للوصول إلى أفضل الإجابات التوفيقية.
هناك أمثلة كثيرة من الروايات التى تصدر فى هذه السنوات الأخيرة و هذه الأيام و القصص القصيرة تعبر عن فكرة أنفصال الكاتب عن عالم الواقع و أنه يجنح إلى أن يخاطب نفسه فى أعماله الأدبية و لا يهتم بجمهور القراء.
الوقت الراهن و العصر الذى نحياه اليوم يتطلب أى نوع من الكتابات, بمعنى أكثر وضوحاً, هل يكفى أن يسبح الكاتب فى خيالاته و ينزلها على الورق ليقرأها الناس أم أن الكاتب اليوم عليه أن يحدث من أدواته ليقدم رواية أو قصة بذل فيها الكثير من البحث و المعلوماتية لأن هذا النوع من الروايات هو الأقرب الأن إلى رغبات القارىء.
لنكن واضحين أكثر فى محاولة الإجابة عن هذه الجزئية تحديداً, فى رأى لم يعد كافياً أبداً أن يكتفى الكاتب بإفراغ خيالاته على الورق و حسبه ذلك, و لكن فن صناعة الرواية أو القصة هذه الأيام يتطلب منه أن يملاء روايته أو عمله الأدبى بالكثير من المعلومات المثيرة و المدققة, أن يصنع عمل أدبى كامل قائم على بحث علمى منهجى.
على سبيل المثال رواية النبطى ليوسف زيدان, ما الذى جعل هذه الرواية مميزة إلى حد كبير؟, هل طبيعة الأحداث التى يسردها الكاتب أم البيئة المعلوماتية الغنية لعصر من العصور لا نعرف عنه الكثير و قد ضخ من خلال عمله الأدبى الكثير من المعلومات التاريخية المثيرة المتعطش إليها القارىء و ذلك الذى وضعها فى هذه المكانة المميزة.
روايات أحمد مراد على الرغم من فقرها الأدبى من وجهة نظرى ألا أنها غنية بمناطق مثيرة للجدل و لشغف القارىء و أكثر ما يميزها أنها تعتمد على البحث و دقة المعلومات التى لا تحاول أن تخدع القارىء بخيالات الكاتب و لكنها تصوغ له صور حياتية غريبة عن القارىء و فى نفس الوقت حقيقية جداً و غير مخادعة, أليست هذه براعة تحتسب لصاحب العمل الأدبى و هذا ما يتطلبه سوق الأدب الأن؟!
هل يجوز أن ننظر إلى الأدب باعتباره منتج استهلاكى يجب أن يدعمه الكاتب بجودة من نوع مميز حتى تلقى الرواج فى السوق الاستهلاكى بشكل عام؟, هل من العيب النظر إلى الأدب من هذا المنظور؟
لا أتصور أن كل ذلك من الممكن أن يسىء للأدب و أن الذين ينفرون مما أقوله الأن و ذلك لأنهم يخلطون بين الاستهلاك التجارى القمىء و بين الاستهلاك التجارى الاحترافى, و يجعلون الأدب الاحترافى مرادف للتجارة المبتذلة لقيمة فنية فتفسد هذه القيمة الفنية.
إذن الإشكالية الحقيقية ليست فى الوصف الذى نحن بصدده و لكن فى بعض الأراء التى تصور هذه الأوصاف على أنها قيم سلبية يجب على أى مشتغل بالعمل الأدبى أن يتخلص منها و ألا ستتلوث قدسية عمله الأدبى.
هذه التابوهات و الإشكاليات الخزعبلاية التى وضعها هؤلاء هى التى افترضت ذلك الصراع الوهمى الذى لا أساس له من الصحة و فسرت الكثير من الأمور على نحو سلبى.
فبالتالى النظر إلى المنتج الأدبى باعتباره سلعة استهلاكية ليس عيباً فى ذاته و لكن العيب فى المحتوى الأدبى الذى قد لا يحمل أى مضمون أو قيمة فنية حقيقية تجعل شروط العمل الأدبى الجيد تنطبق عليه.
إذن مثل تلك الشروط و القيود السخيفة التى يضعها البعض هى التى أوقعتنا فى هذه الإشكالية الوهمية, علينا أن نتخلص من هذه القوانين الهزلية التى وضعها البعض و أصبحت مثل عقيدة راسخة لا يجب أن نحيد عنها.
فكر كهنوتى بحت سلطوى استطاع أن يحصر الأدب فى شكل معين لا يجوز الخروج عليه و ألا لاحقت اللعنات من خرج عن هذه القوانين ضيقة الأفق, أن الأدب صناعة احترافية و هى لا تنبع من داخل الكاتب لترتد إلى داخله مرة أخرى, لم يكن الأدب يوما ليخاطب الأديب نفسه فقط و لكنها لمخاطبة الطرف الآخر المنتظر على الرصيف المقابل يطلب منك منتجات أدبية تشبع رغباته الأدبية الملحة.
قرأت مؤخراً العديد من الأعمال الأدبية التى أرى فيها انفصال جذرى بين الكاتب و بين القارىء, و كأن كاتب هذا العمل قصد أن يكتب هذا العمل من أجل استمتاعه الشخصى فقط بصرف النظر عن البيئة المحيطة به و إن حاول من هم على شاكلتى الاعتراض على هذا النوع من الفكر المبتذل يتم قذفه بقوائم اتهام مجهزة مسبقا تخرجك من جنة الأدب التى افترضوها لأنفسهم.
انصراف القارىء عن قراءة الأعمال الأدبية ليست فقط لغلو سعر الكتاب أو ندرته أو غياب ثقافة القراءة فى مجتمعنا العربى و لكن أيضا لانصراف الكاتب عن معالجة الحياة اليومية للقارىء أو على أقل تقدير طرحها على أوراقه الخاصة ليعلن تضامنه مع القارىء و أنه يشاركه نفس مشاكل الحياة اليومية و أنه يرسل له رسالة أننى أعى ما تمر به لأنى أمر به مثلك و أشاطرك نفس الهموم و الأحزان الجمعية.
فبالتالى يجد القارىء نفسه متورطا مع كاتب يخاطب نفسه فقط و يترفع عن أن يناقش الهموم اليومية للقارىء العادى لأنها من الممكن أن تبعد الأدب عن قدسيته التى صنعوها بقوانينهم الهزلية فبالتالى يكون عقاب القارىء حاضراً و هو أنصرافه عن أعمال هذا الأديب أو إعلان ثورته على الجنس الأدبى كله بشكل عام, إعلان صريح من القارىء أمام كل الكتاب أن أعمالكم الأدبية لا تعبر عنا.
هناك من يربط بين من يحاول أن يتناول الوقائع اليومية لحياة المواطن أو الهموم العامة للوطن فى عمله الأدبى و بين أن ذلك مؤشر على فقره الأدبى و وقتية عمله الأدبى و أنه حجم عمله الأدبى زمنياً فى حقبة معينة بمجرد تجاوز هذه الحقبة الزمنية سيحترق هذا العمل الأدبى فبالتالى يجب أن يرتقى العمل الأدبى عن تناول هذه الأمور التافهة من شئون الحياة و يرتفع إلى مناقشة أفكار سامية كما يحبوا أن يطلقوا عليها ليعيش هذا العمل إلى الأبد و تقرأه الأجيال الحالية و القادمة.
هذه أفكار هزلية كلاسيكية من المخجل أن يتم تداولها إلى اليوم فى الصالونات الأدبية, و لكن للأسف يتم تناولها بكثرة و ينظر إلى من يخالفها بالكثير من الاستهجان و التكبر.
أما أن يعيد الكاتب و الأديب ربط نفسه بالعالم الواقعى للقارىء و أن يقدم له عمل أدبى يتم التخديم عليه معلوماتياً و يقوم على البحث المنهجى كأنه يقدم ورقة بحث علمية و ليس فقط عمل أدبى ليستطيع استقطاب القارىء مرة أخرى أو ينزوى بأدبه فى بركة النسيان و لا يتساءل بعد ذلك أين جمهور القراء؟, فأنت من صرفت جمهور القراء عنك بغرورك الأدبى و ترفعك عن أن تتشارك مع القارىء أحلامه البسيطة و همومه اليومية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق