رشيد الحاحيبيان اليوم : 03 - 06 - 2012
يرتبط مفهوم النسب الشريف في المغرب، وفي التمثلات والثقافة السائدة مند عدة قرون، بتلك الشجرة السلالية التي اعتمدها العديد من متزعمي وحماة النسب «الشريف» لربط أسمائهم وأنسابهم وتاريخهم العائلي بأصول دينية واجتماعية متميزة، حيث يعتبرون أن هذا النسب أللاجتماعي والرمزي يخول لهم عبر مدخل الصفوة والبركة التميز عن عامة الشعب، والاستفادة من فرص التواجد في مختلف وأعلى مراتب الحياة السياسية والإدارية والاقتصادية في الدولة والمجتمع.
كما يرتبط مفهوم الضريح بتقديس الموتى وبتلك الشعائر والزيارات والمواسم التي تقام حوله، وبصندوق الإتاوات الذي يستغله القائمين على المزار والساهرين على قدسيته وهالته وإكرامياته. أما القبيلة فتحيل على شكل تنظيمي وبنية علاقات مرتبطة بالعرق والنسب والوحدة السلالية، وتتكتل وتبرز هذه العلاقات من خلال الحرص على المصالح ومواجهة الخصوم والدفاع عن الكيان القبلي.
لكن ليس موضوع كتابتنا هذه تحليل تاريخ وبنية القبيلة و»الشرف» والأضرحة في شكلها الاجتماعي والسياسي التقليدي، فما نسعى إليه من خلال مقالنا هذا هو معاينة كيف امتدت بنية وأشكال القبيلة والضريح و»الشرف» وحمولتها الرمزية إلى مجالات الحياة والمؤسسات العصرية، من خلال ما يرتبط بها من سلوكيات وبنية علاقات وطقوس الانخراط والترقي وأشكال تقديم الإتاوات... ، حيث يمكن النظر إلى العديد من أشكال التنظيم والعمل السياسي والمدني والاقتصادي، وبنية العلاقات وطقوس المؤسسات العصرية كاستمرار وتمظهر لثقافة الأضرحة والقبائل والزوايا.
لم تعد تسمح تحولات المجتمع وبنية العلاقات القائمة باستمرار نفس نمط التبادل ومشروعية الشرف والأضرحة التقليدية وبنفس الدرجة والشكل السابق، ولم تعد توظيفات النسب الشرفاوي والعلاقات المرتبطة به تقتصر على بعض العائلات ذات الحضور الاجتماعي في البوادي والأوساط البعيدة عن المراقبة المباشرة للمراكز الحاكمة، ومجالات نفوذ الزوايا والأضرحة والمزارات، كما كان ذلك سابقا
هذا رغم أن إطار الامتياز الرمزي والسيادي لهذه الأنساب وأبعاده الاجتماعية والسياسية، لا يزال يشتغل على مستوى المتخيل السياسي والاجتماعي وآليات تدبير السلطة، حيث لا تزال علاقات الإتاوات والامتياز الرمزي والاستغلال قائمة، وعلى مستويات عليا في البلاد. بل أن جوانب عديدة من المشهد السياسي والحياة الاقتصادية والثقافية في المغرب، وعلاقاته الدولية، تبقى مؤطرة بامتداد وخلفيات هذا الانتساب الذي يبحث له عن مشروعية اجتماعية وثقافية تصل حد المقدس من خارج أرض وموطن الانتماء.
فبنية المتخيل الشرفاوي وما يرتبط به من قدسية النسب وثقافة الضريح وصندوق الإتاوة وتنظيم الموسم... وغيرها من السلوكات والطقوس، لم تعد تقتصر على مجال الحياة الاجتماعية التقليدية، بل أنها تسربت كأنموذج ثقافي إلى مجالات الحياة السياسية والاجتماعية المعاصرة، حيث صرنا نشاهد فئات «الشرفاء الجدد» الذين يستمدون امتيازهم الريعي من انتسابهم العائلي والفئوي الذي يؤسس «لسلاليتهالجديدة» انطلاقا من الوضع الهيمني والحضور الاستحواذي لهذه العائلات والمجموعات المصلحية والأحزاب السياسية في مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية الوطنية.
فكلمات الحزب والائتلاف والاتحاد والرابطة والتجمع والهيئة والتكتل والجبهة... تحيل على بنية علاقات وسلوكات تنظيمية، وإن كانت حديثة في مسوغاتها الشكلية والقانونية، فهي لا تخفي تقاطعها مع أنموذج الضريح والقبيلة والزاوية في العديد من الهواجس والصراعات والتقاليد التنظيمية التي تخترقها وتتحكم في متخيل شيوخها ومريديها وشرفائها وزوارها .
يعج فضاء المغرب المعاصر بالعديد من الإطارات والمجموعات والمؤسسات والجمعيات والأحزاب... التي تمثل مسوغات جديدة لأنموذج القبيلة والضريح وعائلات «الشرفاء الجدد» الملتفة حوله، والتي تنظم مواسمها الخاصة، من لقاءات ومهرجانات ومؤتمرات، وتتهافت على صناديقها وما تستقدمه من إتاوات، سواء من دعم الدولة والمؤسسات العمومية أو منح المنظمات والشركات والمحتضنين من داخل المغرب وخارجه، وذلك داخل أفق تدبير وأشكال استغلال وطيدة الصلة بثقافة الشرف والإكراميات والصالحين.
كما أن ثقافة المزارات وجدت منفذا لتصريف أنموذجها المتخيل عبر مجالات الحياة المعاصرة وما توفره من إطارات وفرص وحاجيات جديدة. فبعض المدن ومقرات المؤسسات الكبرى، والإقامات والإدارات التي يقطنها ويعمل بها «الشرفاء الجدد»، والملتقيات والمؤتمرات والنوادي المغلقة والمفتوحة التي ينظمها ويحضرها أصحاب الجاه ومالكو مفاتيح «طقوس الشروع» والحظوة والامتياز، كلها صارت فرصا لتقديم وممارسة أشكال مختلفة من الولاء، والتبرك بكرامات «الشهداء والرموز والموتى» و»الأولياء الجدد»، وممارسة طقوس «المزارات العصرية» والاستجابة لشروط نيل بركتها، وتداعيات ذلك على مستوى المصالح الشخصية والفئوية.
أفلا يمكن الحديث اليوم في المغرب عن قبيلة الاستقلال التي لا تخفى روابطها السلالية والعائلية وحرصها على مصالحها الفئوية، وعن ضريح الاتحاد الذي بنى «شرفيته» النضالية والسياسية على الماضي، وعشيرة التوحيد والإصلاح التي تجمعها رابطة الأخوة وإكرامات الصالحين، والمزار السابق للأصالة والمعاصرة ببنكرير...، إضافة إلى العديد من صناديق الإتاوات ومواسم الأضحية وطقوس التبرك التي تملكها وتقيمها الأحزاب والجمعيات الكبرى ؟
كاتب صحافي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق