أول من يستيقظ فى الحلة سوقها ، سوق خضارها تحديداً ، إنه الأخ الأكبر الذي يدور على الإخوة النائمين ، يهز اكتافهم ، لاعنا نومهم الثقيل فيفرك هؤلاء عيونهم بسباباتهم المعقوفة ، ثم يتثائبون متصنعين الإستيقاظ وما أن يلف الأخ الأكبر خارجاً حتى يعودوا إلى غفوة لم يقطعوها ، يتثائب السوق الصغير بكراجاته الضاجة بالحركة ، ويمط يديه شارع المكتبات فسوق الهرج
أول ما أتذكره منها ، غبشها ، وقتي الاثير معها ، حين كنت اقطع على اطراف الاصابع المسافة من فراش الصيف على السطح حتى اخر ابواب البيت . فالسطوح ، كل السطوح تغط في نومها و الخيط الابيض وحده من استيقظ .
لم يكن بين بيتنا و الشط اكثر من خمسين مترا ، خمسون مترا من الترقب و الاضطراب ، الحذر و التوجس ، مسافة ما تلبث ان تنتهي بالوصول إلى الجرف ثم خلع النعلين فالجلوس و مقاطعة الساقين على العشب الذي مازال نديا ثم الوجوم في مواجهة الماء ، مواجهة الحلة بممثلها الاقرب ، شطها المارق ، الخارج من عباءة ابيه المهيب ، الفرات شيخ انهار الارض و أقلها كلاما .
هذا الموعد اليومي مع المدينة ، ابتدأ حين صار ترك العراق واقعا لا مفر منه ، فصارت الحلة غير الحلة و النهر غير النهر و صار حفظ تفاصيلها ثم ايداعها الذاكرة في زاوية لا تصلها يد امرا لا رحيل دونه ، و خصوصا و ان رحيل العراقي ليس مثل رحيل غيره ، فهو يعرف متى يبدأ لكنه لا يعرف متى ينتهي و ما من زوادة تعين على هكذا حال غير زوادة الذاكرة .
بعد مرور أكثر من ثلاثين عاما ، لا استطيع ان اصف جلستي أو اصنفها ، فلم تكن جلسة المنصت و لم تكن أيضا جلسة الشارد و لا هي جلسة المذعن و لا المتكبر و لا اليائس و لا الآمل ايضا .
انها الجلسات كلها ، فالنهر الذي صنع مدينة مثل الحلة ثم قسمها بسطوة الماء إلى صوبين لا تستطيع ان تحدد أو تصف أو تختار كيف تجلس أمامه . هو الذي يحدد و هو الذي يختار و هو الذي يصف .
حين يصير الضوء نهارا تحس بحركة و أصوات تتداخل وراء ظهرك . الاصوات تقترب فيبين اصحابها .
فلاحون جمعوا خضار حقولهم على ضوء القمر ثم حملوها على دوابهم قبل شروق الشمي التي توقظ حرارتها زغب الخضار و تحوله اشواكا و مخالب .
يقطعون الطريق من قراهم القريبة إلى السوق بالحديث الذي لا تتبين منه جملة واحدة مهما حاولت فلكل اثنين منهم حكاية و لكل حمار من حميرهم لهاثه و وقع حوافره . أكثر من خمسين فلاحا و معهم اكثر من خمسين حمارا يخترقون غبش الحلة عابرين الجسر إلى نهارها محملين بأكداس الخضار التي جاؤوا بها للبيع و للتحية ايضا .
حين كانوا يمرون عابرين الجسر يصرخ واحدهم بالصوت الجهير :
- السلام عليكم .
قبل ان ترد بـ ( و عليكم السلام ) يمد صاحب التحية يده إلى كدس خضاره الجالس عليه يسحب منه ما تيسر و يطير نحوك خيارة ريانة أو قثاءة معقوفة أو حتى باذنجانة حالكة السواد ما زالت تحمل رائحة غصنها و أوراقه .
قبل ان يصبح الضوء شمسا يتسلل صبية الفجر جامعو القناني الفارغة يتسابقون بصمت ليتخاطفوا ما خلفه ثملو الليلة الماضية ندامى النهر و جلاسه الازليون العائدون ثقال الخطى إلى بيوت لا تنتظرهم .
المؤلف : نوفل الجنابي
الناشر : دار المدى
عدد الصفحات : 440
الحجم : 4.3 ميجا
تحميل كتاب الحلة ... عاصمة السخرية العراقية المرة
رابط تحميل فورشيرد
التواصل والإعلان على مواقعنا
قراءة اونلاين
أشترك فى قائمتنا البريدية ليصلك جديد الكتب
تابعنا على الفيسبوك
تابعنا على تويتر
زور موقعنا الجديد – معرفة بلس
زور موقعنا الجديد – عالم الروايات
زور موقعنا – مكتبة دوت كوم
زور موقع ثقف نفسك - حيث الثقافة والمعرفة
مقدمة
أول ما أتذكره منها ، غبشها ، وقتي الاثير معها ، حين كنت اقطع على اطراف الاصابع المسافة من فراش الصيف على السطح حتى اخر ابواب البيت . فالسطوح ، كل السطوح تغط في نومها و الخيط الابيض وحده من استيقظ .
لم يكن بين بيتنا و الشط اكثر من خمسين مترا ، خمسون مترا من الترقب و الاضطراب ، الحذر و التوجس ، مسافة ما تلبث ان تنتهي بالوصول إلى الجرف ثم خلع النعلين فالجلوس و مقاطعة الساقين على العشب الذي مازال نديا ثم الوجوم في مواجهة الماء ، مواجهة الحلة بممثلها الاقرب ، شطها المارق ، الخارج من عباءة ابيه المهيب ، الفرات شيخ انهار الارض و أقلها كلاما .
هذا الموعد اليومي مع المدينة ، ابتدأ حين صار ترك العراق واقعا لا مفر منه ، فصارت الحلة غير الحلة و النهر غير النهر و صار حفظ تفاصيلها ثم ايداعها الذاكرة في زاوية لا تصلها يد امرا لا رحيل دونه ، و خصوصا و ان رحيل العراقي ليس مثل رحيل غيره ، فهو يعرف متى يبدأ لكنه لا يعرف متى ينتهي و ما من زوادة تعين على هكذا حال غير زوادة الذاكرة .
بعد مرور أكثر من ثلاثين عاما ، لا استطيع ان اصف جلستي أو اصنفها ، فلم تكن جلسة المنصت و لم تكن أيضا جلسة الشارد و لا هي جلسة المذعن و لا المتكبر و لا اليائس و لا الآمل ايضا .
انها الجلسات كلها ، فالنهر الذي صنع مدينة مثل الحلة ثم قسمها بسطوة الماء إلى صوبين لا تستطيع ان تحدد أو تصف أو تختار كيف تجلس أمامه . هو الذي يحدد و هو الذي يختار و هو الذي يصف .
حين يصير الضوء نهارا تحس بحركة و أصوات تتداخل وراء ظهرك . الاصوات تقترب فيبين اصحابها .
فلاحون جمعوا خضار حقولهم على ضوء القمر ثم حملوها على دوابهم قبل شروق الشمي التي توقظ حرارتها زغب الخضار و تحوله اشواكا و مخالب .
يقطعون الطريق من قراهم القريبة إلى السوق بالحديث الذي لا تتبين منه جملة واحدة مهما حاولت فلكل اثنين منهم حكاية و لكل حمار من حميرهم لهاثه و وقع حوافره . أكثر من خمسين فلاحا و معهم اكثر من خمسين حمارا يخترقون غبش الحلة عابرين الجسر إلى نهارها محملين بأكداس الخضار التي جاؤوا بها للبيع و للتحية ايضا .
حين كانوا يمرون عابرين الجسر يصرخ واحدهم بالصوت الجهير :
- السلام عليكم .
قبل ان يصبح الضوء شمسا يتسلل صبية الفجر جامعو القناني الفارغة يتسابقون بصمت ليتخاطفوا ما خلفه ثملو الليلة الماضية ندامى النهر و جلاسه الازليون العائدون ثقال الخطى إلى بيوت لا تنتظرهم .
بيانات الكتاب
الاسم : الحلة ... عاصمة السخرية العراقية المرةالمؤلف : نوفل الجنابي
الناشر : دار المدى
عدد الصفحات : 440
الحجم : 4.3 ميجا
تحميل كتاب الحلة ... عاصمة السخرية العراقية المرة
روابط تحميل كتاب الحلة ... عاصمة السخرية العراقية المرة
أشترى كتبك الورقية بخصومات كبيرة وتوصيل لباب بيتك
رابط تحميل مباشر - جوجل درايفرابط تحميل فورشيرد
التواصل والإعلان على مواقعنا
قراءة اونلاين
أشترك فى قائمتنا البريدية ليصلك جديد الكتب
تابعنا على الفيسبوك
تابعنا على تويتر
زور موقعنا الجديد – معرفة بلس
زور موقعنا الجديد – عالم الروايات
زور موقعنا – مكتبة دوت كوم
زور موقع ثقف نفسك - حيث الثقافة والمعرفة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق