2. التجربة:
يميز كونت في هذا السياق بين " التجربة الاجتماعية " التي تطبق على ظواهر المجتمع وبين " التجربة العلمية " التي تُجرى على الظواهر الطبيعية كالكيمياء والبيولوجيا. وما يهمنا ويهم كونت هو التجربة الاجتماعية.
جوهر التجربة الاجتماعية؟ وصحتها؟
في البحوث العلمية حيث تجرى التجارب على الظواهر الطبيعية ؛ وبهدف استخراج القوانين يلجأ الباحث عادة الى إجراء تجارب مقارنة بين ظاهرتين متشابهتين في كل شيء ولكنهما مختلفتين في حالة واحدة وهذا الاختلاف بين الظاهرتين يرجع الى هذه الحالة فقط. ومهمة الباحث هي معرفة هذا العامل ( القانون ) الذي تسبب باختلاف الظاهرتين ثم دراسة مدى تأثير العامل الطارئ هذا على ظاهرة أخرى.
السؤال هو: هل لدينا وسائل تمكننا من إجراء تجارب من هذا القبيل في علم مثل علم الاجتماع؟ بمعنى: هل يمكن استعمال التجربة كوسيلة في معاينة الظواهر الاجتماعية؟
الجواب: يعتقد كونت إن المجتمع مثل جسم الإنسان لا بد وأنه يتعرض الى حالات مرضية سابقة من حين إلى آخر بفعل عوامل طارئة وتيارات ظرفية كالثورات والفتن والانقلابات، وهي حالات تحدث بلا شك طبقا للقوانين الستاتيكية والديناميكية. ولا ريب أن دراسة الحالات الباثالوجية هذه في المجتمع ستؤدي الى تكون رصيد معرفي يساعد في إعادة المجتمع الى سيره المعتاد.
سؤال آخر: الى أي حد تصلح التجربة كوسيلة فعالة في دراسة الظواهر الاجتماعية؟
جواب: إذا تمكن الباحث من الوقوف من قبل على القوانين التي تخضع لها الظواهر في حالتها العادية حتى يمكن الكشف عن العامل الطارئ الذي سبب الحالة المرضية. ومع ذلك ليست التجربة وسيلة مجدية ولا مواتية في كل الظروف والمناسبات وبالتالي فهي غير فعالة.
3. المنهج المقارن:
- مفهوم المقارنة
المقارنة الاجتماعية هي وسيلة منهجية تتأسس على تحديد اوجه الشبه واوجه الاختلاف بين الظاهرتين، ويبين كونت ثلاثة أشكال للمقارنة الاجتماعية كما سنوضح.
- أشكال المنهج المقارن:
أولا: مقارنة في مستوى الماكرو وسوسيولوجي " مقارنات واسعة "
مقارنة المجتمعات الإنسانية ببعضها.
مقارنة ظاهرتين في مجتمعين إحدهما تطورت بسرعة وأخرى بطيئة التطور.
ملاحظة وجود مجموعة من النظم في مجتمع بينما لاتؤدي الظاهرة نفس الوظيفة في مجتمع آخر أو ليست بالدرجة نفسها.
ثانيا: مقارنة في مستوى الميكرو وسوسيولوجي " مقارنات أضيق نطاقا "
مثلا كأن تقع مقارنة في مجتمع واحد بين الطبقات او الهيئات والمؤسسات او في مستوى المعيشة، والأخلاق، الأذواق العامة، اختلاف اللهجات...الخ، درجة التحضر والتريف.
ثالثا: مقارنات اكثر شمولا وعمومية وأوسع نطاق
مثلا مقارنة جميع المجتمعات الإنسانية في عصر ما بالمجتمعات الإنسانية نفسها في عصر آخر للوقوف على مدى التقدم الذي تخطوه الإنسانية في كل طور من أطوارها ومعرفة درجة التطور ما بين الشعوب الإنسانية.
4. المنهج التاريخي " المنهج السامي "
- هو آخر حجر في بناء المنهج الوضعي و يقصد به كونت:
" المنهج الذي يكشف عن القوانين الأساسية التي تحكم التطور الاجتماعي للجنس البشري باعتبار أن هذا الجنس وحدة واحدة تنتقل من مرحلة الي أخرى أرقى منها ".
- وهو المنهج الذي أقام كونت على أساسه " قانون الأدوار الثلاثة ".
- وهو منهج يعبر عن فلسفة كونت نفسها أكثر مما يعبر عن حقائق علمية، لان كونت نفسه يقدم وسائل منهجية لدراسة الظواهر الاجتماعية والإنسانية تنسف ما يدعيه لا سيما أن الظواهر تتطور او تبطئ او تؤدي وظائف مختلفة في مجتمعات مختلفة، كما انه يقر بالتباين والاختلاف لنفس الظواهر وما بين المجتمعات.
- فلماذا ينظر الى الإنسانية كوحدة واحدة في التطور والتقدم؟ وكيف يفسر كونت الآن وجود دول متقدمة وأخرى متخلفة وأخيرة بدائية إذا كان خط التقدم والتطور واحدا؟
المدارس الاجتماعية ما بعد الوضعية
بعد شيوع الوضعية وتأسيس علم الاجتماع ظهرت العديد من المدارس الاجتماعية التي نشطت في جمع المعلومات عن الظواهر الإنسانية والاجتماعية أو حاولت تفسيرها وتحليلها، ومن هذه المدارس نعرض لبعض منها:
- المدرسة الاجتماعية البايولوجية:
لا تعترف هذه المدرسة باستقلالية الظاهرة الاجتماعية بل تعتبرها مظهرا من مظاهر الحياة اليومية. كما ترى أن الظاهرة الاجتماعية في نشأتها وتطورها تسير وفق القوانين التي تسير عليها الظواهر البيولوجية.
- المدرسة الفرنسية في علم الاجتماع:
يتزعمها إميل دوركايم واتباعه مثل مارسيل موس و ليفي بروهل و دي سوسير وبولجيه وهاليفاكس وكوهين وغيرهم. وقد التزمت هذه المدرسة بحدود الوضعية الكونتية بل أنها أرست الوضعية الصحيحة. واعترفت باستقلال علم الاجتماع و الظواهر الاجتماعية وقدمت دراسات ميدانية ممتازة. وتميزت أبحاثها بالدقة العلمية وبذلت جهدا نظريا ضخما في إقامة دعائم علم الاجتماع وتحديد مناهجه وميادينه.
- المدرسة المادية التاريخية ( كارل ماركس )
تذهب هذه المدرسة الى اعتبار أن كل ما يحدث في المجتمع وما ينشأ فيه من ظواهر ونظم انما يرجع الى الطبيعة الاقتصادية. فالظروف الاقتصادية هي العامل الوحيد الذي يشكل نظم الاجتماع والسياسة والأخلاق والدين وبالتالي فالمادة الاقتصادية هي قطب الرحى في التطور السياسي والأخلاقي والاجتماعي.
- المدرسة الجغرافية ( برون و ميشليه )
تعتبر هذه المدرسة ان ظواهر المجتمع هي وليدة البيئة وظروفها العمرانية والطبيعية. لهذا فقد فسرت كل ما يحدث في المجتمع بالرجوع الى الظواهر الجغرافية وقامت بهذا الصدد بتطبيقات تعسفية.
- المدرسة النفسية ( جابرييل تارد وغوستاف لوبون )
وهي المدرسة التي خسرت خصومتها التاريخية مع إميل دوركايم واتباعه. لماذا؟ لأنها لا تعترف باستقلال علم الاجتماع بل تلحقه بعلم النفس وبالتالي فهي تفسر الظواهر الاجتماعية بمبادئ وأصول سيكولوجية. هذه المدسة تعتبر الظواهر الاجتماعية وليدة الارادة الفردية في التقليد والمحاكاة.
- المدرسة الاثنولوجية ( تين: Tain، ميشليه: Michelet، ممن: Momen )
تفسر الظواهر الاجتماعية بالرجوع الى فكرة الجنس
- مدرسة الانثربولوجيا الاجتماعية = دراسة المجتمعات البدائية:
مدرسة واسعة تزعمها الكثير من العلماء امثال فريزر وستمارك Frezer Westrmarek و Maclenanو lang وTaylor و Rivers و B. smith و Gillen. وقد اهتمت هذه المدرسة بدراسة المجتمعات البدائية وأشكالها التي ما تزال قائمة سواء في أمريكا او استراليا او أفريقيا واسيا فتعرف روادها على النظم الاجتماعية الأولى، واتسم الرواد بأنهم جمّاعين مهرة للمعلومات غير انهم اقل قدرة على التحليل، هذا النقص الذي بدأته المدرسة الأنثروبولوجية تداركته مدرسة دوركايم.
المدرسة الاجتماعية البيولوجية
هر برت سبنسر / H. spensser
( 1820 - 1903)
أولا: حياته العلمية
- بدأ حياته مدرسا ثم مهندسا. ولكنه ترك وظيفته واشتغل بالسياسة والأدب والاجتماع واعتنق مذهب التطور " في النشوء والارتقاء " ووصل الى حقائق دقيقة قبل أن ينشر داروين بحوثه. ولما نشر سنة 1850 كتابه " الستاتيك الاجتماعية " اخذ نجمه يسطع فكتب بعد ذلك في علم الحياة، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والتربية، والسياسة.
- حاول تطبيق فكرة " النشوء العضوي والتطور " على الكائنات الحية في ميدان علم الأحياء وعلى الإنسان في ميدان علم النفس والأخلاق وعلى المجتمع في ميدان علم الاجتماع والسياسة.
ثانيا: المبادئ العامة لفلسفته
أ. يتحدث سبنسر عن نفسه قائلا:
[ " أن جرثومة فلسفتي ظهرت عندما توصلت الى حقيقة بيولوجية أساسها:
إن الأنواع الدنيا من الحيوان تتألف أجسامها من أجزاء متماثلة لا يتوقف بعضها على بعض واما الانواع العليا من الحيوان فتتألف أجسامها من أعضاء متباينة تعتمد في أعمالها ووظائفها على بعضها البعض. وهذه نتيجة استقرائية وصلت إليها من بحوثي وتجاربي في ميدان الدراسات البيولوجية. وهذه الحقيقة تصدق كذلك على جماعات الأفراد.فكأن المجتمع شأنه شأن أي كائن حي يبدأ متجانسا ثم يميل الى التفرد والانتقال من المتجانس الى اللا متجانس " ].
تشتمل مقولة سبنسر عن نفسه المبادئ العامة لفلسفته، وهذه المبادئ تقوم على التكامل / التجانس والتباين / اللاتجانس والعلاقة بينهما. كيف؟
انطلاقا من مبدأ " النشوء والارتقاء " يمكن القول:
أن الارتقاء في جميع مسالك الطبيعة من نبات وحيوان واجتماع إنساني وما يتصل بهذا الاجتماع من شؤون تتعلق بالأخلاق، السياسة، الفنون والعادات إنما يقوم على أساس واحد هو " الانتقال من التماثل والتشابه الى التباين وعدم التجانس ". كيف؟
حقائق بيولوجية:
نماذج الأنواع
أ. نماذج التماثل والتشابه او التجانس:
إن الانواع الدنيا من النبات يكون التشابه فيها اكثر وضوحا من الاختلاف في حين أن الانواع العليا من النبات يكون الاختلاف فيها بارزا. كما أن الانواع الدنيا في الحيوان تكون هي الأخرى متماثلة كالأميبيا والإسفنج.
ب. نماذج الاختلاف والتباين او اللاتجانس:
في النباتات الراقية يمكن ملاحظة الاختلاف في ميدان التذكير والتأنيث. وفي الحيوان يعتبر الإنسان هو الأرقى ولاشك أن الاختلاف اشد وضوحا.
مميزات الأنواع
في الأنواع الدنيا من النبات والحيوان فان الجزء يؤدي حصرا وظيفة الكل فإذا قطعنا جزء من جسم الإسفنج فالحياة مستمرة لان باستطاعة الجزء أن يعيش ويقاوم حتى يصل الى حالة التماثل الأولى وكذلك الأمر في بعض النباتات. هذا يعني أن التطور لن يصل في احسن الأحوال إلا الى حالة التجانس أما اللاتجانس فلا. هذا يعني أيضا أن الجزء مستقل عن الكل حيث قوى النمو والتوالد كامنة فيه.
أما في الانواع العليا من النبات والحيوان فان الجزء لا يؤدي وظيفة الكل كما أن الجزء مستقل عن الكل نسبيا غير أن التباين والاستقلالية لا تعني الانفصال بل التكامل كما أن العضو مثلا في الإنسان لا تكمن فيه قوى النمو والتوالد لذا فهو يؤدي وظيفة معينة الى جانب وظائف الأعضاء الأخرى بحيث أن عملية التكامل الوظيفي تؤدي الى وحدة القصد والهدف.
القانون العام:
من هذه الحقائق البيولوجية يستخلص سبنسر القانون التالي:
" أن في الحياة ميلا الى التفرد والتخصص والانتقال من المتجانس الى اللامتجانس ومن المتشابه الى المتباين. فالجماد او الجسم غير الحي كذرات التراب، النار والهواء يكون متماثلا وغير متخصص في حين أن الجسم الحي يتمتع بذاتية وينفرد بشخصيته ويؤدي وظيفة خاصة ومحدودة يتعين عليه أن يؤديها وكلما زاد الكائن الحي ارتقاءا زاد تفرده وتخصصه ظهورا ".
وهكذا يقرر سبنسر أن التخصص هو غاية كل تطور وارتقاء في الموجودات.
دعائم القانون:
حسب تحليل سبنسر فالقانون يقوم على دعامتين:
أولا: كلما ازداد المركب الحيوي تعقيدا ازداد تخصصا وتفردا.
ثانيا:كلما ازدادت الأعضاء تفردا واختصاصا ازدادت استقلالا
من الحقائق البيولوجية الى الحقائق الاجتماعية
"من ميدان البيولوجيا الى ميدان الحياة الاجتماعية "
نشط سبنسر في تطبيق ما توصل إليه في الميدان البيولوجي على الميدان الاجتماعي:
1. الأفراد وحياة الفطرة
اتسمت حياة الجماعات البشرية الأولى بالتشابه والتماثل في انتسابهم الى مجتمع تتشابه فيه طرق المعيشة والحاجات والغايات ووسائل العيش والاقتصاد والنمو والدفاع والأمن والزواج والدين والمعتقدات والأساطير...الخ
وفي مرحلة ما حدث تطور في الحياة الاجتماعية والانتقال من سذاجة الفطرة الى مرحلة اكثر ارتقاء لوحظ فيه ظهور الفوارق بين الأفراد وتقاسم وظيفي لشؤون الأسرة والعمل وما الى ذلك من شؤون الحياة الاجتماعية.
وفي مرحلة اكثر تطورا ورقيا لوحظ ازدياد في التخصص والاستقلالية الفردية.
2. انقسام المجتمعات:
- كلما ازداد التخصص والتفرد كلما انقسمت المجتمعات الى طبقات اكثر.
- شيوع ظاهرة التخصص والتفرد في أدق مظاهرها.
تعقيب / تساؤل: هل التخصص والتفرد يشكلان مصدر قوة أم ضعف للمجتمع؟ تماسك أم تفكك؟
إن الإسراف في التخصص لا يعني استقلال كل كائن عن الآخر او كل طائفة اجتماعية عن بقية الطوائف الأخرى في المجتمع وعلى العكس من ذلك فالتخصص ينطوي على التضامن والتعاون ويتجه نحو التآلف ؛ فالعدالة تستوجب ضمانات لتحقيقها كالقضاة والمحامون ووكلاء الدفاع والكتاب والمحضرون بحيث ينصرف كل الى عمله ليتحقق القصد والهدف العام كما أن التآلف ينسحب على الدور التكاملي الذي يؤديه كل من التاجر والصانع والطبيب والمدرس وعامل النظافة والمزارع والجندي والشرطي بحيث ينصهر الجميع في بوتقة واحدة تنزع نحو وحدة القصد والهدف رغم التفرد والاختصاص.
ملخص نظرية سبنسر
تتلخص النظرية التطورية عند سبنسر في:
- الانتقال من التشابه الى التباين او من التعميم الى التخصص او من الاستقلال الانعزالي ( فوضى الشيوع ) الى النظام والتدرج.
- هذه المعاني لا تتغير، فهو شرحها في كتابه " المبادئ الأولى " وفي كتبه الأخرى " مبادئ علم النفس وعلم الحياة وعلم الاجتماع ".
ثالثا: نظريته في طبيعة المجتمع
أ. المحددات النظرية:
إن نظرية سبنسر في المجتمع تنبع أصلا من فلسفته في التطور الاجتماعي هذه الفلسفة ستؤدي حتما الى مماثلة بين المجتمع والكائن الحي ولكن بشرط. أي أن المجتمع فقط يشبه الكائن الحي ولكنه يتطابق معه. كيف؟
عبر ثلاث ماهيات.
1. ماهية المجتمع:
حسب داروين و هيغل بصفة خاصة يتفق سبنسر على اعتبار المجتمع جزء من النظام الطبيعي للكون وبالتالي فهو يرفض الفكرة التي تعتبره شيئا خارجا عن هذا النظام.
2. ماهية علم الاجتماع:
إن اعتبار المجتمع جزء من النظام الطبيعي للكون يستوجب، حسب سبنسر، النظر إليه كفرع من منظومة التفسير الطبيعي التي تطبق على سائر مظاهر الكون وليس على المجتمع فقط. وعلى هذا الأساس فإن علم الاجتماع هو محاولة لمعرفة نشأة المجتمع وتركيبه وعناصره وهيئاته ومراحل نموه وتطوره وما الى ذلك من المظاهر التي تخلفها العوامل الطبيعية والنفسية والحيوية بوصفها عوامل تعمل متضافرة في عملية تطورية موحدة.
3. ماهية التطور الاجتماعي:
هكذا فان التطور الاجتماعي ليس إلا عملية تطورية عضوية ليس بالمعنى البيولوجي النصوصي بل بالمعنى الاصطلاحي الذي يخلص سبنسر الى تسميته بالتطور فوق العضوي.
ب. التطور فوق العضوي: ما هو؟ = التطور العضوي؟
إن التحدث عن تطور عضوي ( بمعنى بيولوجي ) وتطور فوق عضوي ( بمعنى اصطلاحي ) يعني أن سبنسر بصدد الحديث عن مقارنة الكائن الحي من جهة والمجتمع من جهة أخرى. وبما أن المنهج المقارن يستوجب ضبط التشابهات ( التماثلاث ) والاختلافات ( التمايزات ) فمن الواضح أن سبنسر عندما يتحدث عن عناصر تشابه بين المجتمع والكائن الحي إنما يتحدث أيضا عن فروقات لذا نراه دقيقا في اختياره للمصطلحات والمفاهيم بالقدر الذي يسمح له ببناء نظرية تجد لها موقعا ملائما بين النظريات الاجتماعية التي أعقبت ظهور علم الاجتماع على يد اوجست كونت.
السؤال: ماهي طبيعة الفرو قات بين التطور العضوي والتطور فوق العضوي؟
جواب: لدى مقارنته للمصطلحين في نطاق المجتمعات الحيوانية يرى سبنسر أن التطور فوق العضوي وإن كان موجودا في مجتمعات النمل والنحل مثلا بوصفها مجتمعات راقية إلا انه يبقى اقل وضوحا. إذن المسألة تتعلق بمدى تعقد المجتمعات المدروسة، أي بمدى تخصصها، وفي هذا السياق يعقد سبنسر مقارنة بين المجتمعات الحيوانية والمجتمعات البشرية، فماذا يلاحظ؟
يلاحظ أن المجتمعات الحيوانية ليست معقدة كالتعقيد الذي يمكن ملاحظته في المجتمعات البشرية. لماذا؟ وأين يكمن التعقيد؟ مبدئيا فإن الاجتماع الحيواني يشتمل على ضرب من السلوك والأثر ما هو أشد تعقيدا مما لدى الاجتماع الإنساني، غير أن الاجتماع الإنساني ينطوي على تفاعل في مستوى العلاقات الإنسانية وتشابك المصالح والرغبات بين الأفراد مما ينجم عنه ضروبا من السلوك والآثار أشد تعقيدا وأشد تنوُّعا الى الحد الذي يجعله أرقى صورة للتطور العضوي.
ج. محتوى المماثلة البيولوجية
المجتمع كائن حي؟
في ضوء ما سبق، وحسب سبنسر، فإن:
- المجتمع عبارة عن كائن عضوي أو مركب عضوي يشبه الجسم الحي.
- عناصر المجتمع وهيئآته تشبه نظائرها في الكائن الحي. كيف؟
1. من حيث التشابهات:
فالمجتمع كالفرد مزود بجهاز للتغذية يتمثل في هيئاته وطبقاته المنتجة، ومزود بدورة دموية تتمثل في نظم التوزيع وطرق المواصلات، ومزود بجهاز هضمي وإخراجي يتمثل في نظام الاستهلاك، ومزود بجهاز عصبي يتمثل في الحهاز التنظيمي والادارة والحكومية التي تتولى قيادة المجتمع والاشراف على مصالحه.
2. من حيث الفروقات:
v ان عناصر الكائن الحي تكون كلا متماسكا ومتحددا بصفة مباشرة.هذه الكلية تتمظهر في اتحاد مادي محسوس لجميع العناصر.
v ولكن في المجتمع فان العناصر / العوامل إنما تؤدي الى الوحدة / الكلية لانها عناصر خارجية وليست عضوية كما هو التركيب العضوي للفرد. وهذه العوامل تتجلى باللغة والعواطف والانفعالات والافكار والمعتقدات والتقاليد والعرف...الخ
v ان الجهاز العصبي ـ مثلا ـ في عقل الكائن يشغل جزء صغيرا من التركيب البيولوجي \العضوي للفرد، بينما في المجتمع نجده ممثلا بالجهاز التنظيمي والادارة والقيادة. أي أنه موزع بين الافراد ولكل انسان الحق في المساهمه فيه في اطار توجيه المجتمع.
v المجتمع يشبه الفرد من حيث النشأة والتكوين، حيث ينشأ بصورة بسيطة ضيقة النطاق ثم يأخذ حجمه بالنمو وعدد افراده بالتكاثر. اذن المجتمع يشبه الكائن الحي في حالة النشأة أي في الحالة التي يتبعها تميز في الهيئات والاعضاء والتركيب المعقد [ انتقال من التجانس اللامحدود الي التباين المحدود ] ولكن نمو المجتمع لا يكون عن طريق التزايد البسيط الضيق بل من خلال اندماج هيئاته واتحاد بعض المجتمعات الصغيرة وتفاعل اتجاهاتها والتيارات التي تسودها، هنا تبدأ حالة التعقيد في بنية المجتمع وتركيبه.
المجتمع بين الاستقرار والانحلال
يقضي قانون النشوء والارتقاء بخضوع الكائنات الحية لوجهي القانون. فاذا كان الكائن الحي ينشأ وينمو فهو ايضا ينحل. وهكذا المجتمع حين يشبهه سبنسر بالكائن الحي فهو حتما خاضع للوجه الاخر للقانون وهو الضعف والانحلال.
1. استقرار المجتمع:
ان نشوء المجتمع مرحلة تتواصل مع مرحلة النمو، وما بين اكتمال نمو المجتمع وتعقيده من جهة وانحلاله من جهة اخرى ثمة مرحلة استقرار يبلغ فيها المجتمع من القوة ما يزيد من اندماج عناصره وهيئآته وتماسكها. في هذه المرحلة يكون المجتمع في أوج استقراره. فما الذي يحدث عند استقرار المجتمع؟
ما ان تستمر الحياة لاجتماعية الى حد ما حتى تاخذ الظواهر والنظم الاجتماعية في الارتقاء والتطور، وهذه العملية تعني الانتقال من حالة التجانس الى حالة التباين والتخصص. وخلال انتقالها من حالة الى حالة فإن الظواهر والنظم الاجتماعية ستتاثر بنوعين من العوامل:
- العوامل الداخلية:
تتعلق هذه العوامل بالناحية الفردية. أي كل الخواص الفردية ذات الصلة بالتكوين الطبيعي والتكوين العاطفي العقلي للافراد الذين يكوِّنون المجتمع. فالظواهر التي تقوم في المجتمع تنشأ في واقع الامر متاثرة بالخواص الفردية هذه. بمعنى ان الافراد يشكلون ظواهر المجتمع وفق الخواص المشار اليها.
- العوامل الخارجية:
هي كل العوامل التي تقع خارج نطاق الخواص الفردية ولكنها تؤثر على الافراد تأثيرا مباشرا وعلى الظواهر الاجتماعية بوصفها نتاج لأوجه نشاط الافراد.هذه العوامل هي البيئة: كالبيئة الجغرافية والطبيعية وظروف المجتمع المناخية وموقعه وما الى ذلك من المؤثرات البيئية.
2. انحلال المجتمع:
ان ارتقاء وتطور المجتمع عملية تنسحب على شتى مناحي الحياة الاجتماعية من نمو في الوحدة السياسية ( الاسرة، قبيلة، مدينة، دولة، هيئة، أمم...الخ ) والوحدة الاقتصادية (صناعة منزلية، مهن، ثورة صناعية آلية ثم ثورة صناعية كهربائية، وكذلك نظم الشركات المساهمة والاحتكار والاستعمار...الخ ) ونمو في الوحدة السكانية (عائلة ثم قرية ثم مدينة...الخ )...الخ
ان التطور كان وما يزال مصحوبا بظاهرة ملازمة هي ظاهرة " تنافر القوى وتنوع الوظائف وتفرع الاختصاصات ". فالعامل الاجتماعي ازداد تنوعا فيما ازدادت المهن والصناعات تخصصا وخضعت مظاهر الانتاج الاخرى لهذه المبادئ. لا بل نجد تنوعا بين خصائص الريف والمدن وبين دولة وأخرى او بين وحدة اقليمية واخرى، وفي كل ناحية من نواحي الحياة الاجتماعية نجد تطبيقات صحيحة لهذه المبادئ في السياسة والدين والاخلاق والعلم والفن والاقتصاد.
وفي المقابل نجد انحلال يعقب التطور. إذ ثمة مجتمعات تضعف بعد قوة ومدنا تتقوض وتنحل وتفقد مكانتها، ودولا يحل بها الظلم والهوان والفقر والتخلف بعد مجد وسلطان وأخرى تقوم من جديد وتأخذ بأسباب النشوء والارتقاء في عملية خلق متجددة في الحياة الانسانية.
تعقيــب
ولكننا نلاحظ دولا وشعوبا وقبائل تأبى الانعتاق من تخلفها وبدائيتها مقابل دول وشعوبا تصر على ديمومة الارتقاء وعدم الانتكاس.
رابعا: نظريات سبنسر في شؤون المجتمع
كثيرة هي النظريات التي يعرض لها سبنسر في فلسفته الاجتماعية، منها ما يتعلق بالشؤون السياسية والاقتصادية وبعضها يتعلق بالشؤون الاخلاقية والدينية.
نظريته في تصنيف المجتمعات
يقسم سبنسر المجتمعات باعتبارين:
1. من ناحية التكوين المورفولوجي: مجتمعات بسيطة أومركبة
في هذا النوع تكون الوحدات الاجتماعية أو التجمعات البشرية متجانسة بما يشبه الفوضى البدائية شأنها في ذلك شأن الانواع الدنيا من الحيوان ثم تاخذ في النمو كما ينمو جسم الانسان فترتقي وتتجه بالتدريج نحو التعقيد في التركيب والتنوع في الوظائف والظواهر والنظم ومن ثم الاستقرار. ومن الضروري أن يحدث اتحاد بين هذه التجمعات إما عن إرادة وقصد وإما عن طريق القهر والتغلب لكي يحصل الانتقال من حالة التجمعات البسيطة الساذجة الى حالة التعقيد والتركيب.
2. من ناحية الوظيفة: مجتمعات حربية أو صناعية
يرى سبنسر أن بعض المجتمعات من يعيش سكانها رغبة في القتال كالتي سادت نظم الحياة الاقطاعية في أوروبا سابقا وهو حال المجتمعات الحربية. وهناك من المجتمعات من يقتصر عيشها على مكافحة المتاعب في الحياة والصراع في معركتها. مثل هذه المجتمعات ليس لها غاية الا العمل للتغلب على مصاعب الحياة وهو حال المجتمعات الصناعية.
النظرية الوظيفية
اولا: جذور النظرية
لما نتعرض للوظيفية بالدرس والتحليل والفهم علينا اولا ان نأخذ بعين الاعتبار ان للنظرية الوظيفية:
1. جذورا ابستيمية ومعرفية تسبق تحول الوظيفية الى نظرية، ولما نبحث عن الجذور فاننا في الواقع نقوم بمقاربة للوظيفية كمفهوم قبل ان نقف عليها كنظرية هذه الجذور المعرفية نجدها لدى علماء الاجتماع الاوائل امثال سان سيمون و اوجست كونت و اميل دور كايم و مارسيل موس وحتى كارل ماركس و ماكس فيبر. وهي في وضعها هذا لا تعدو ان تكون مجرد مقاربة ولكنها قابلة للارتقاء الى مستوى النظرية.
2. ان النظرية الوظيفية هي نظرية جزئية وليست نظرية كلية في علم الاجتماع وهذا هو حالها فيما لو قارناها بالنظرية الماركسية التي تقدم نظرة شاملة للمجتمع.
3. بدء من العقود الاولى للقرن العشرين اخذت الوظيفية بالهيمنه على ساحة علم الاجتماع خاصة بعد ان نشطت المدرسة الانجلو سكسونية التي ضمت كلا من روبرت ميرتون و راد كليف براون و تالكوت بارسونز ومالينوفسكي في انجاز ابحاث استندت الى النظرية الوظيفية او ما عرف بالبنائية الوظيفية.
هكذا علينا أن نقر انه من العبث فهم هذه المقاربة الجديدة قبل ان نرجعها الى جذورها المعرفية الاولى، أي الى المقاربة الوضعية التي انبثقت منها. كيف؟
لقد اوجد اوجست كونت قطيعة بين ما يسميه هو بقرون الميتافيزيقيا والقرن التاسع عشر او ما يسميه بالقرن الوضعي العلمي. هذه القطيعة ترتب عليها بروز تصورات جديدة تتعلق بالنظام السياسي والنظام الاجتماعي والنظام المعرفي. كما ان كونت بشر بوراثة العلماء والفلاسفة والصناعيين لرجال العهد الميتافيزيقي البائد، أي انه بشر بنظام اجتماعي وسياسي سيرتكز على العلم والفلسفة والصناعة. وهكذا، فكلما تغيرت المعرفة بالاتجاه العلمي والوضعي كلما امكن التوصل الى اقامة نظام سيلسي وضعي.
السؤال: ما هي قيمة التصور الوضعي للاجتماع والسياسة والمعرفة؟
قيمة التصور الوضعي تنعكس على علاقة المعرفة بواقعها.أي ان المعرفة لم تعد نظرية مجردة بالقدر الذي ستصبح فيه تطبيقية. في هذا الاطار من التصور الوضعي سيكون دور المقاربة الوظيفية هو التعامل الواقعي مع الظواهر الاجتماعية. فهل حصل مثل هذا التعامل؟
في واقع الامر نعم. فقد بدأ هذا التعامل الواقعي مع الظواهر مع سان سيمون لما اعترف – مثلا - بمفهوم المواطنة وأعلى من شأنه على حساب مفهوم الكونت، ثم لما اعتبر الدين ظاهرة اجتماعية وجردها من كل مقدس. ولكن مع اوجست كونت كان التعامل الواقعي مع الظواهر ابلغ اثرا حيث جعل من ظاهرة الدولة ظاهرة نمطية فقسمها الى ثلاثة اقسام / انماط تعبر عن ثلاث مراحل هي:
- الدولة الثيولوجية تعبير عن المرحلة اللاهوتية.
- الدولة الميتافيزيقية تعبير عن المرحلة الفلسفية \الميتافيزيقية – الطبيعية.
- الدولة العلمية تعبير عن المرحلة الاخيرة / الصناعية او الفكر الوضعي العلمي.
بعد هذه التجربة المعرفية في تنميط مراحل التطور البشري الفكري توصل كونت الى تجاوز الفلسفة النظرية المجردة التي اخفقت لانها عجزت عن تحليل واقع الانسان وشرع كونت في بناء شجرة المعرفة متوجا اياها بعلم الاجتماع الذي كان عليه ان يلعب دورا اساسيا في تحليل وافع الانسان. وهكذا ستكون المقاربة الوظيفية ترجمة لكل التصورات التي حصلت داخل المقاربة الوضعية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق