ما هي القبيلة ؟ إنه تساؤل ينطلق مما هو خاص , وهو في الواقع .... الوصول إلى معرفة ما هو عام . هذا العام نفسه الذي لن يتوضح إلا اعتمادا على دراسة تجلياته الخاصة التي هي هذه القبائل أو تلك بأسمائها بل وبتاريخها الخاص جدا .
ضمن هذه العلاقة الدائرية إذن , يمكن التقدم في الإجابة عما هي القبيلة المغربية ؟ ما هي خصائصها ؟ كيف تنمو وكيف تتطور ؟ .
بالنسبة لنا نحن , اخترنا الإنطلاق من العام أي من مختلف الدراسات التي انجزت حول القبيلة المغربية – بطبيعة الحال عبر نماذج أو حالات عينية – إلى الخاص , إلى القبيلة التي تهمنا , وهي طريقة في النظر , نعتقد أنها ستساهم في إغناء تصورنا حول القبيلة سواء أدركناها كمفهوم , كتصورات نظرية أو كواقع تمثله القبيلة أو القبائل التي تشكل محور اهتمامنا .
I – مفهوم القبيلة : تعدد الإطارات النظرية ومحدودية التفسير :
تمهيد :
كان اهتمام السوسيولوجيا الكولونيالية بالقبيلة مشروطا بظرفية تاريخية محددة , هي ظرفية الاستعمار والتوسع الفرنسي , ظرفية أعطت الأسبقية لاستفهامات عدة : من يحكم في المغرب ؟ مع من يمكن أن نتواجه في المغرب ؟ وبطبيعة الحال , فالإجابات المقدمة عن هذه الاستفهامات هي التي ستحدد نوعية السياسة أو السياسات اللاحقة التي يلزم اتباعها مع هذه الجهة التي بيدها مفاتيح السلطة في المغرب : إما عبر احتوائها وإدماجها كطرف في المشروع- وهذا ما حصل بالطبع مع رؤساء بعض القبائل الذين تحولوا إلى قواد في ظل السيادة الاستعمارية , أو بعض شيوخ الزوايا , كالزاوية الوزانية أو عبر استراتيجيات أخرى كالتفكيك والتكديح عبر نزع الملكية والتهجير ... إلخ .
منذ البداية , إذن , نسجل التوجه الإستعماري لهذه الدراسات الكولونيالية , سواء كانت في مجال الجغرافيا البشرية , الإتنولوجيا , الأنتروبولوجيا أو السوسولوجيا ... توجه حاول أن يزاوج بين إرادة المعرفة وإرادة السلطة , إرادة المعرفة وإرادة الغزو والإختراق . مع ذلك كان لا بد من إرضاء الرأي العام الغربي والفرنسي على وجه الخصوص , وإقناعه بمدى مشرعوية التدخل , إن التدخل هنا , ليس من أجل الغزو بل من أجل التحضير . هناك رسالة إنسانية ينبغي أن يقوم بها الغرب المتحضر اتجاه المجتمعات غير العربية , " البربرية " ," المتوحشة" , " الغريبة " , وإخراجها من حالتها تلك . هذه المهمة التي ستتولى القيام بها أو التمهيد لها الدراسات الأنتروبولوجية من خلال دراستها المتعددة للزوايا , للطرقية , لأهل الجبل " الأبرياء " مقابل أهل السهل " الغزاة " , للمرأة , للعائلة ... الخ . هذا التوجه هو ما تلخصه القولة الشهيرة للمنظر الإستعماري الكبير " ليوطي " : إننا فقط محضرون " .
غير أن هذا التوجه , وبغض النظر عن الإشكالية العامة التي ضمنها كان يتحرك 1 , إشكالية تداخل فيها السؤال المعرفي بالسؤال السياسي , وارتبط فيها الفكر بالراهن , فقد ساهم بشكل كبير , ولو على مستوى الوصف , على مستوى المعطيات التي اعتمدها لتبرير أطروحاته , في تجلية وإغناء معارفنا حول مغرب أواخر القرن 19 وبداية القرن 20 . ومن ثم يصبح مشروعا الإستفادة منه واستثماره في فهمنا لذاتنا . فلربما وكمـــا يقول أندريه آدم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – يكتب الأستاذ حليم في هذا الإطار : " إننا في هذه الحالة أمام نظرة أوربية متمركزة حول ذاتها تطلعنا بشكل كبير حول الإفتراضات المسبقة لصاحبها أكثر مما تطلعنا حول الحقيقة المدروسة وبالطبع فنظريات من هذا القبيل لا تقدم سوى تصورات شبه علمية للمجتمعات المعنية ومن ثم ضرورة القيام ببحث علمي حقا " .
- Abdeljalil Halim , L’Iqtà et l’appropriation de la terre au Maroc , op . cit ., p . 53.
André Adam في " بعض الأحيان ترى العين الاصطناعية , ما لا تراه العين الطبيعية " 2.
ضمن هذا الإطار إذن , سيتم الاهتمام بدراسة القبيلة . إن مفهوم القبيلة , إلى جانب مؤسستي الزاوية والمخزن , سيمثل مفهوما محوريا في الدراسات السوسيولوجية إلى حد يمكن اعتباره " ذرة " للخطاب السوسيولوجي , بالخصوص الخطاب الكولونيالي , باعتبار ما كان سيوفره له تناول القبيلة – كما أسلفنا – من تقدم في معرفة / غزو المجال الذي كان ينوي التحرك فيه . لا غرابة إذن من ملاحظة أو تسجيل تعددية في وجهات النظر وفي تناول هذا المفهوم , بالرغم من أن التصور أو المنظور العام للقبيلة كما تقدمه المخيلة الإثنوغرافية هو نفسه أي باعتبارها كيانا تسود فيه مساواتية ونزعة مشتركة ومتأصلة نحو هاته الصفة أو تلك3. كيف ندرك القبيلة إذن , هل ندركها من خلال وظيفتها التاريخية ونقول أنها قوة سياسية ضمن الثلاثي مخزن – قبيلة – زاوية كأنساق سياسية فرعية ؟ أم أنها تتحدد من خلال ارتباطها بالمجال وفي علاقتها مع " مورفولوجية الأرض " ؟ أم أنها ليست سوى حصيلة طبيعية لتوسع أسرى متوحد الأصل ؟ وعلى مستوى آخر كيف نقاربها , هل باعتبارها كيانا ثابتا محددا في الزمان والمكان أم أنها فوق ذلك كيان اجتماعي متحرك , مع ما تفرضه الدينامية من علائقية ومن تشابكات أي ماكروسوسيولوجية المقاربة ؟
تحيل هذه التساؤلات إلى مقتربات متعددة حول ما ندعوه بالقبيلة والمجتمع المغربي للقرن 19 بشكل عام . و هي مقتربات يمكن تقديمها كالتالي :
1- المقترب البيولوجي :
يتميز هذا المقترب في تحديده لمفهوم القبيلة بإعطاء الأهمية للجانب السلالي , ومن ثم اهتمامه بجنيالوجيا القبائل باعتبارها مشكلة من جملة فرق تستمد كل منها تسميتها من أصلها , ثم من العائلات الوجيهة التي كانت تشكل عناصرا لها , والتي تحولت مع مرور الزمن إلى مستوى فرق 4 . حسب هذا الفهم , تستمد القبيلة أصلها من وحدتها , بل إن " ميشوبيلير " , أحد أقطاب هذا الاتجاه , يعتقد أنه حتى على المستوى الإداري فإن كل مقاطعة إدارية هي طبيعية وعائلية 5 . إن القبيلة – حسبه دائما – كيان متمايز , يقوم على أساس التساكن والتعايش ضمن إطار جغرافي مشترك , كيان قائم على وحدات مشتركة في أصلها .
تمثل القرابة , من هذا المنظور , أساسا لفهم ظهور تجمعات أو تكتلات بشرية معينة " فخلوط وطليق مثلا يعود أصلهما بالتأكيد إلى جد قديم ينحدر من القبائل العربية التي قدمت إلى المغرب والتي كان من بينها هؤلاء الخلوط 6 . بل أكثر من ذلك , يصبح عنصر القرابة قاعدة تنبني عليها العلاقات الاجتماعية , بما تعرفه هذه العلاقات من تصادم وتعاون . تصبح القبيلة بهذا المعنى مجرد جمع أو اتحاد بين أسر كبيرة , باعتبار أن الأسرة الكبيرة كانت هي أساس التشكيلة الاجتماعية وليست القبيلة , وأن التنظيمات أو التقسيمات الوسيطية التي كانت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2-André Adam , bibliographie critique de sociologie d’ethnographie et de géographie humaine du Maroc , paru à l’université René Descartes-Paris Sorbonne , 1968 , p . 41 .
3 – في هذا الإطار يمكن استحضار مجموعة نماذج مثلا " رايمون جاموس " و " دافيد هاروت " بصدد الحديث عن قبائل الريف ونزعتهم نحو العنف والثأر . وكذلك " روبير مونطاني " حيث يثير مجموعة من الخاصيات تشترك فيها في نظره كل قبائل شمال إفريقيا ( رغبة عارمة في الإستقلال , صراعات لا متناهية بين اللفوف , نزوع نحو الثأر , صراعات داخلية , إحساس عميق بالمسؤولية ...الخ ) .
- Robert Montagne , les berbéres et le makhzen dans le sud du Maroc , op . cit ., p . 317 .
4-Michaux bellaire , les tribus arabes de la vallée du lekkous , ch . Les badaoua , Archives Marocaines , 1914 , p . 16
5-Ibidem , p . 19
6-Ibidem , p . 19
تندرج تحت اسم القبيلة ما كانت لتشكل وحدة متينة قادرة على امتصاص الأسرة 7 .
هذا التعريف للقبيلة على أساس الوحدة والانتماء إلى نفس الأصل المشترك , يذكرنا بتصور ابن خلدون للقبيلة " كمجمع للعصبيات " . هذا بالرغم من أن مفهوم العصبية عند ابن خلدون لا يقتصر على رابطة النسب وحدها , بل ينضاف إليه " الحسب " وما يدعوه ابن خلدون " الشرف بالأصالة والحقيقة " . يقول ابن خلدون في هذا الإطار : " ثم إن القبيل الواحد وإن كانت فيه بيوتات متفرقة وعصبيات متعددة , فلابد من عصبية تكون أقوى من جميعها , تغلبها وتستتبعها وتلتحم جميع العصبيات فيها , وتصير كأنها عصبية واحدة كبرى " 8 . بهذا المعنى تصبح القبيلة وكأنها عصبية استطاعت التأثير على العصبيات الأخرى , ومن ثم فسواء بالنسبة لابن خلدون أو " لميشوبلير " لا يهم التجمع الذي تمثله القبيلة بقدر ما تهم النواة أو الأسرة : فبالنسبة للأول ستمثل الأسرة أو العائلة الركيزة الأساسية لقيام العصبية وتقوية شوكتها , إنها منبع العصبية ومحركها . وكذلك الشأن بالنسبة لميشوبيلير , فليست هناك في نظره قبيلة , بل ثمة فقط مجموعة أسر كبيرة تعود أصولها لهذه الجهة أو تلك .
ما هي الخلاصات التي يمكن أن يؤدي إليها مثل هذا الفهم أو هذا الإدراك للقبيلة ؟
*الخلاصة الأولى : وهي أن هذا الفهم للقبيلة , ينبغي أن يدرك ضمن الإطار النظري , الإستراتيجي الذي يتحرك فيه فكر صاحبه , ويمكن تلمس ذلك الإطار من خلال رؤيته للقبائل ككيانات كانت تعيش دوما تحت الوصاية , وصاية المخزن من جهة , و وصاية العرب المسلمين إذا كانت القبيلة بربرية . أي ككيانات طبيعية قبل تدخل المخزن الذي سيشوه بنياتها . في هذا الإطار , إذن , تندرج مساهمة ميشوبيلير .
*الخلاصة الثانية : وهي إهمال مجموعة عناصر عند تعريف القبيلة والنظر إلى وحدتها : عامل الدين باعتبار أن هذه القبائل تاريخيا تنتمي إلى مجال ديني معين , بالإضافة إلى عنصر التاريخ , ومن ثم استجلاء وظيفة وماهية القبيلة الحقيقية التي سوف لن تتبدى لنا آنذاك فقط كوحدة بين مجموعة أسر كبيرة تعود إلى أصل معين , بل كوحدة لها أهدافها المشتركة بقدر ما لها تناقضاتها المشتركة أيضا , بالإضافة إلى تعبيراتها المعتقدية والرمزية التي تعكس تلك الأهداف , الطموحات , والتناقضات , والتي إذا أخذناها مجتمعة , ستعطينا على الأقل تصورا عاما أو خطاطة تقريبية حول ذاك الذي نسميه بالقبيلة 9 .
2- الأطروحة الانقسامية :
يوجد طرح ميشو بلير مستغرقا في الأطروحة الانقسامية 10 , حيث يمثل محور النسب و ما يستتبعه من وحدة الانتماء عنصرا مشتركا بين الاتجاهين ( البيولوجي والانقسامي ) . فالقبيلة حسب التصور الانقسامي تشبه بكونها شجرة لها أصل أو جذر واحد , بالرغم من استمرارية توالد الفروع . هذا التوالد المستمر الذي يؤدي إلى خلق أوالية أو ميكانيزم الانشطار والتي ترافقها في نفس الوقت أوالية معاكسة هي أوالية الانصهار , كلما كان هناك تهديد خارجي 11 .
هكذا , من القبيلة كبنية عليا نصل إلى الوحدة العائلية كأصل وكبداية لتشكل ما نسميه بالقبيلة ما دامت هذه الأخيرة لا تعدو أن تكون سوى " تكدسات بشرية مماثلة فيما بينها " كما يقول دور كهايم 12.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
7- انظر أحمد توفيق , مساهمة في دراسة المجتمع المغربي , إينولتان من 1850 إلى 1912 , منشورات كلية الآداب , الرباط , 1983 الجزء الأول , ص : 131 .
8-ابن خلدون , المقدمة , نشر مكتبة المدرسة ودار الكتب اللبناني , بيروت 1961 ص : 245 .
9-عبد الكبير الخطيي , " المراتب الاجتماعية بالمغرب قبل الاستعمار " , المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع , العدد الثاني , 1975 , ص . 15
10-ضريف محمد , مؤسسة السلطان الشريف في المغرب , محاولة في التركيب , أفريقيا الشرق , 1988 , ص . 86
11-ضريف محمد , مؤسسة السلطان الشريف في المغرب , محاولة في التركيب , أفريقيا الشرق , ص . 86
12- E . Durkheim , Division du travail social , P . U . F 1967 , 8éme éd . p . 15
من ثم وسم النظام السياسي والاجتماعي لهذه القبائل بالانقسامية , التجزيئية أو الانشطارية , و " يعني ذلك أن كل قبيلة تنقسم إلى فروع مثل الأغصان دون أن يكون هناك جذع رئيسي لأن جميع الفروع متساوية " 13 .
هذه المساواة , حسب الانقساميين , مضافا إليها , عامل الانتماء إلى نفس الأصل , ستحول دون ظهور تراتبية , باعتبار أن المساواة المطلقة تفضي إلى غياب التراتب الاجتماعي إلا في حالة استثنائية, حالة يكون فيها الشخص غريبا عن القبيلة 14 . هذا دون أن ننسى التمايز الطبيعي , حسب الانقساميين دائما – ولو في غياب التراتب الاجتماعي – بين الشرفاء / المرابطين ( الأولياء – الصلحاء ) الذين يتميزون عن العامة .
غير أنه إذا كان هذا العامل , عامل الإنتماء إلى نفس الأصل , قد أدى بالإنقساميين إلى تصور حياة خالية من التراتبية والصراع 15 , فإن ذلك لم يمنع ميشوبيلير من ملاحظة أن حياة القبيلة لم تكن قط متجانسة , بقدر ما كان التمايز قائما في إطارها بين الحكام والمحكومين , بين الفلاحين الميسورين و الفلاحين الصغار , بين العقلاء والعوام . بمعنى أن القبيلة لم تكن تسودها المساواة ولم تكن خالية من الصراعات والنزاعات العديدة سواء ضمن تركيبتها أو فيما بينها والقبائل المجاورة لها . هذا بغض النظر عن الإشكالية العامة التي كان يتحرك ضمنها فكر ميشو بيلير نفسه , إشكالية التبرير والشرعنة والتي ينبغي أن يدرك إسهامه النظري في إطارها 16 .
إن انعدام وجود تفاوت اجتماعي حسب الإنقسامين يصبح معه وجود سلطة سياسية شيئا زائدا . فما دام التفاوت الإجتماعي غائبا , فإن السلطة السياسية بدورها ستكون غائبة , ذلك أن ولادة السلطة السياسية لا يمكن أن تتحقق إلا إذا استطاع شخص من بين أفراد القبيلة " التميز " عن الآخرين و " تركيم " وسائل العنف والقهر 17 .
في غياب هذه السلطة السياسية , ومن أجل تدبير أمور القبيلة , سيتم اختيار شخص للقيام بذلك , ولكن لأمد قصير لا يتعدى السنة , وبشكل استثنائي يذكر روبير مونطاني لمدة قد تمتد إلى سنتين 18 . وهذا الإجراء له أكثر من دلالة . إنه من جهة يترجم التخوف من ظهور زعامة سياسية تستبد بالسلطة , ومن جهة أخرى يؤكد أن عملية الإستيلاء والإنفراد بالحكم والزعامة مثلت دائما طموحا كامنا أو مكبوتا لدى أفراد القبيلة , على الأقل الأعيان منهم , ومن ثم يصبح الحديث عن المساواة , عن غياب التراتب الإجتماعي كما لاحظنا مع الإنقساميين , حديثا متهافتا .
ومع ذلك , وقصد الحيلولة دون بروز أية زعامة سياسية , ولتنظيم علاقات القبيلة الداخلية والخارجية , سيتم افتراض ظهور الزاوية بقيادة شيخها الذي من المفترض أن يكون ميالا إلى السلم , ونابذا للعنف وعليه يتوقف حل كل النزاعات .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
13- كلينر " السلطة السياسية والوظيفة الدينية في البوادي المغربية " , الأنتروبولوجيا و التاريخ , مؤلف جماعي , دار توبقال للنشر , 1988 ص 46 .
14- حسب كلينر , " حتى لو بلغ أفراد أو جماعات قدرا من الغنى أو من النفود قد يمنحهم تفوقا مؤقتا على الآخرين فإن ذلك لا يؤدي إلى تراتب دائم أو مقبول رمزيا , ولا يمكن أن يرتب في مكانة أعلى أو أدنى اجتماعيا سوى الأشخاص الطارئون على القبيلة " . انظر الأنتربولوجيا والتاريخ , م.م.ص.47
15- انتقادات كثيرة وجهت لهذا التصور . يمكن الرجوع على وجه الخصوص إلى دراسة عبد اله حمودي :
- A.Hammoudi , << sainteté , pouvoir et société : Tamgrout au XVII-XVIII siècle , Annales , Mai / Aout n° 3/4 ,
p . 622
حيث يسجل حمودي , أن " فكرة المساواة ما هي إلا إيديولوجيا تفرزها " لإخفاء مظاهر اللامساواة بين أفرادها " .
16- حول هذه النقطة يمكن الرجوع إلى :
-جرمان عياش , دراسات في تاريخ المغرب , الشركة المغربية للناشرين المتحدين , الدار البيضاء , 1986 , ص . 321
- FAOUZI , M.Houroro , sociologie politique coloniale au Maroc , cas de M.Bellaire , éd . Afrique orient , 1988 , p . 27
- A.laroui , les origines sociales et culturelles du nationalisme marocain ( 1830-1912) , Maspéro , Paris , 1977 , p . 167
17- ضريف محمد , م . س , ص . 86
18- R.Montagne , les berbéres et le Makhzen , op . cit ., p . 225
هذه الوظيفة , وظيفة التحكيم التي يقوم بها " الشرفاء " تمثل ثابتا آخر في التحليلات الانقسامية إلى درجة أن بعضهم سيعرف القبيلة انطلاقا من مدى قابليتها وإيمانها بهذه الوظيفة . يقول إفانس برتشارد : " إن القبيلة هي أكبر جماعة بشرية يعتقد أعضاؤها أن من واجبهم حل نزاعاتهم عن طريق التحكيم " 19 .
يصبح المجتمع المغربي انطلاقا من هذا التعريف عبارة عن قبيلة واحدة حسب كلينر , الذي يرفض على التو هذا الاستنتاج , انطلاقا من أن المغاربة أنفسهم يقرون بتعدد قبائلهم .
إلا أن هذا الاعتراض يبقى حسب عبد الله العروي غير كاف ما دامت القضية في نظره هي بالضبط هل المجتمع المغربي قبلي انقسامي أم لا ؟ فلا معنى إذن للبحث عن تعريف أدق للقبيلة المغربية , ويخلص عبد الله العروي من هاته المناقشة إلى أن النظرية الانقسامية " تتسم بالضعف وضعفها يتجلى في الوجهين التاليين : فإما أنها تفرط في الشكلانية إلى حد تفقد معه القدرة على التفسير ولا تقدم بالتالي تعريفا حقيقيا للقبيلة أو تنحصر في مجال خاص إلى حد التناقض مع نفسها 20. بمعنى أنها تنظر إلى الواقع المغربي انطلاقا من نموذج مبني مسبقا وتحاول أن ترغمه على الانطباق مع ذلك النموذج بغض النظر عن التشوهات التي يمكن أن تلحق بالفهم من جراء تلك العملية . ومن ثم فهي لا تعدو أن تكون سوى وهم ابستمولوجي وأكثر من ذلك هذيانا منهجيا , لأنها لا تمكننا من فهم السبب الذي يجعل ظواهر الانصهار والانغلاق عاجزة عن إحداث سيرورة لحالة من الارتباط والسيطرة " 21 . أي أنها لا تتجاوز " الأشكال الأولية للتصنيف : لتتبع تبنين تلك الأشكال في شكل " طبقات اجتماعية " يحكمها التمايز واللاتكافؤ 22 . هذا بالإضافة إلى أن الرسم الذي تقدمه لنا حول القبيلة تعيش في استقلال تام عن أية قوى أخرى 23 . فهي حسبهم تعيش وفقا لمزاج مكونيها متأرجحة بين حالتي انشطار وانصهار , ولها قوة تحكيمية تحل نزاعاتها , ناسية او متجاهلة دور المخزن كقوة كان لها حضور فعال عبر التاريخ المغربي حيث غالبا ما نجدها تربك وتعرقل سير هذا النظام المفترظ أنه تجزيئي بواسطة مجموعة آليات : تدخل عسكري , احتواء , توزيع القبائل وتغيير مواقعها ..الخ .
هكذا نخلص إلى أن الأطروحة الإنقسامية لم تقدم جديدا مقارنة مع الطرح السابق البيولوجي , طرح ميشو بيلير , باستثناء استحضارها عند التحليل لقوة اجتماعية لم يتم الحديث عن دورها و وظيفتها بما فيه الكفاية مع ميشو بيلير , نقصد الزاوية * . وكذلك النقاش الذي أثارته حول تطور النظام القبلي في المغرب , والذي ساهم بشكل كبير من خلال ردود الفعل التي أثارها , في إغناء معرفتنا بالقبائل المغربية وسيرورة تكونها .
3 – المقترب التطوري :
ضمن هذا المقترب , سيحاول " روبير مونطاني " صياغة تعريف للقبيلة انطلاقا من معاينة جملة التحولات التي عرفتها بنياتها على مر التاريخ , خاصة بنياتها السياسية . وهكذا ستقارب القبيلة انطلاقا من التطور والتقلبات التي عرفها نظامها السياسي , حيث أنه من دون التعرض لهذا النظام , لا يمكن تقديم تعريف محدد للقبيلة , على الأقل القبيلة البربرية / السوسية , عينة روبير مونطاني والتي مثلت بالنسبة إليه صورة حية ( متحفا أركيولوجيا ) لما كانت عليه المجتمعات الأوروبية في أوائل القرون الوسطى ( ق . 5 – 7 ) . يميز روبير مونطاني داخل هذا النظام , داخل هذا المجال التطوري لأنظمة الحكم بين أربعة مراحل :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
19- Evans pritchard , les systémes politiques africains , 1941 , p . 278
20- A.Laroui , les origines sociales et culturelles ... , op .cit ., p . 129
21- عبد الكبير الخطيي , " المراتب الإجتماعية بالمغرب قبل الإستعمار " م . س , ص . 34
22- عبد الكبير الخطيي , ن . م , ص . 39
23-حليم عبد الجليل , " البحث السوسيولوجي في المغرب " , مجلة كلية الآداب بفاس 1982/83 , العدد 6 ص . 25
*- مشو بيلير نفسه أثار , في معرض حديثه عن الوصاية المفروضة على القبائل البربرية من قبل الجماعة الإسلامية والمخزن ما سماه " بالتفوق الديني " الذي تتمتع به الأسر الشريفة والذي انبنت عليه قوتها المادية , انظر :
M.Bellaire , << Les terres collectives au Maroc et la tradition >> , Hesperis ,T . IV 1924 , p . 143
*المرحلة الأولى : مرحلة الحكم الجمهوري الديموقراطي , وخلالها تكون القبيلة منظمة على الشكل التالي :
1- الدوار أو المدشر : Hameau , وحدة مبنية على عامل النسب أساسا , تتشكل من 20 إلى 30 " كانونا " .
2 – الفخذة : sous-fraction : وتضم ما بين 3 إلى 4 دواوير .
3 – الفرقة : canton : ويشتمل على 3 إلى 5 فخذات وهي بالمقارنة مع الفخذة أو الدوار تتميز بكونها وحدة سياسية غير دموية , إذ يمكن اعتبارها جمهورية مستقلة .
4 – القبيلة : وتضم مجموعة فرق , يتراوح عددها ما بين 3 و 12 فرقة " تمتلك إقليما محددا , إسما , بعض العادات المشتركة , وتوجد في نفس الوقت مجردة من كل مؤسسة سياسية واضحة " . ويضيف- روبير مونطاني – " بالخصوص في ناحية الأطلس الكبير الغربي , الذي لم يتم تغييره من طرف مؤسسة المخزن " 24 . وتمثل القبيلة وحدة دموية مفترضة فقط , لأن " وحدة التراب أو الإقليم والاهتمام بالدفاع عنه وتطويره هما اللذان يخلقان بين الأسر المنتمية لنفس الفرقة مجالا اجتماعيا دائما , وليس الانتماء إلى أصل مشترك كما يعتقد السكان المحليون في الغالب , بالرغم من أن الإسم المعطى لتاقبيلت ( آيت لحسن , آيت عبد الله , آيت موسى ) ينزع في بعض الأحيان إلى الدفع بافتراض أن كل السكان هم أبناء لجد مشترك , فإنه من اليسير النظر إلى هذا المعتقد باعتباره مجرد وهم " 25 .
إن وحدة القبيلة , إذا ما حاولنا إدراكها في حقيقتها , يقول مونطاني , تكمن في كونها استجابة لمطلب معين , مطلب استراتيجي أساسا , باعتبار أن هاته الوحدة " لا تظهر إلا في ظروف خاصة , عندما يجد استقلال الفرق نفسه مهددا من طرف المخزن حيث يجتمع كل الحاملين للسلاح أو المحاربين للدفاع عن الوطن 26 . كما أن المجال الدائم الذي يوحد الفرق ... في الغالب , لا يتميز سوى بوجود شعور غامض من الأخوة – يقول روبير مونطاني – لم نستطع بعد معرفة طبيعته و أصله 27 * .
في هذا المستوى كذلك من التنظيم الاجتماعي والسياسي , يمكننا الحديث عن نوع من المساواة , لكنها تبقى مساواة نسبية , لأن ممثلي القبائل في الغالب ما يكونون سليلي أسر قوية وغنية . إن " كل تاقبيلت حسب مونطاني , تمتلك دائما , وفي الواقع , من بين 10 أو 15 أسرة مكونة لها ’ إثنان أو ثلاثة مجموعات أكثر قوة , أكثر غنى و أكثر محاربة , والتي ينضم إليها الآخرون للبحث عن سند . رؤساء هاته السر الأكثر أهمية داخل الفرقة هم الذين يسيرون , حسب مزاجهم , مداولات أو قرارات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
24 – R.Montagne , les berbéres et le makhzen . . , op . cit . , p . 154
25 – Ibidem , p . 154
- J. Berque , Maghreb , Histoire et société ,éd . J . Duculot , Alger , 1974 , p . 25
الذي يكتب : " إن اللجوء إلى الجد المشترك الذي تنتمي إليه نفس السلالة , ليس في الواقع إلا مجرد وهم ’ إذ يتقاطع عبره عدد لا حصر له من الأصول " .
26 – R . Montagne , op . cit . , p . 159
27 – Ibidem , p . 159
*أنظر الدلالات الإيديولوجية لكتاب روبير مونطاني السالف الذكر , عند الدكتور عبد الجليل حليم , م . س . , هامش رقم 22
المجلس والذي في إطاره تبقى مساواة " الآيت أربعين " مجرد مساواة صورية "28 . إن العنصر الذي يقوي من حظوظ الزعامة لا يكمن في السن بقدر ما يكمن في الغنى .
5 – اللف : يضم مجموعة من القبائل وهو عبارة عن حلف لا تظهر فاعليته إلا في حالات خاصة : الحروب مثلا , وهو يماثل في وظيفته نوعا ما , مفهوم العصبية الخلدوني , باعتبار , من جهة , أن كلا منهما يكون عبارة عن شعور كامن قبل وقوع خطر أو تهديد خارجي , حيث يلعب كل منهما دور المحرك لشعور الجماعة وتعبئتها . ومن جهة أخرى فكل منهما يساعد في فهم طريقة الوصول إلى الحكم والإنفراد بالسلطة , سواء عند أرستقراطيي ابن خلدون أو عند أمغاريي روبير مونطاني .
*المرحلة الثانية : مرحلة حكم الشيوخ , الأمغارات :
يتم تخطي مرحلة الحكم الجمهوري والإنتقال إلى هاته المرحلة عبر ولادة أو انبثاق زعامة سياسية كانت في مرحلة كمون . إنها الزعامة المتمثلة في ظهور الأمغار , الذي سوف لن يتوانى في تركيم وسائل العنف والقهر , حتى يتاح له الإستبداد بالسلطة بعد ذلك . " فمهما كانت يقظة مجالس الأعيان – يقول روبير مونطاني – فإننا نلاحظ دائما بروز رجال , بالنسبة لهم حب الشرف والمال أو الزعامة لا يتماشى والإطار الضيق الذي أغلقتهم فيه التقاليد " 29 .
وهكذا ففي كل القبائل , حتى في تلك التي توجد بها مؤسسات أو ليغارشية أو ديمقراطية مقبولة بشكل كامل , سينهض رؤساء فوق الجماعات , سيحتكرون السلطة , وسيبحثون عبر حيازة إسم أمغار , على تأسيس , عن طريق العنف , ما سماه دوفوكو عن حق , السلطة الاستبدادية . وهكذا فثمة دائما نزوع عفوي نحو تشكل السلطة الشخصية " 30 .
*المرحلة الثالثة : مرحلة كبار القواد :
تستمد هذه المرحلة أسسها من سابقتها حيث إن مرحلة حكم الأمغارات تتضمن في داخلها الإرهاصات والبوادر التي ستؤدي حتما إلى تجاوزها من جهة , ومن جهة أخرى تعويضها بنظام حكم جديد هو حكم القواد الكبار . ذلك أن توسع نفوذ الأمغار , سيجبر المخزن كقوة سياسية عليا على الاستجابة ومسايرة طبيعة الأشياء , ومن ثم تنصيب الأمغار قائدا . وإذ ذاك يكتسب " ثقة " المخزن وبنفس القدر أو بالضرورة " ثقة " القبيلة .
عند هذا المستوى يقول روبير مونطاني , " ستودع القبيلة استقلالها وطريقة حكمها المباشر في الماضي " 31 .
*المرحلة الرابعة : مرحلة حكم المخزن ’ وهنا سيتم احتواء القبيلة نتيجة لاحتواء رؤسائها بمجرد الاعتراف بهم وتنصيبهم كقواد . ومن ثم خضوع القبيلة للسيطرة الفعلية والمباشرة للمخزن .
إن هذا المنعرج الطويل الذي سلكناه ليس زائدا , باعتبار أنه عبر هذا التدرج في أنماط الحكم والتدبير . هذا التدرج المعروفة نقطة وصوله مسبقا وكذا دلالات ذلك الوصول , وعبر ما تخلله من تصوير مكثف للحياة الإجتماعية والمؤسساتية عند القبائل البربرية , يبلور – روبير مونطاني – تعريفه للقبيلة . وهكذا " فالقبيلة تتحدد بالإسم – إسمها – والتراب والعيش وفق تقاليد وأعراف , وما قد يجمع بينها من سوق أسبوعي , ضريح مجاور , وكذلك طبيعة العلاقات التي تنسجها مع القبائل المجاورة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
28- Ibidem , p . 271
*يمكن في هذا الإطار استحضار طريقة تشكل الأرستقراطية القبلية عند ابن خلدون . وكذلك عند ميشو بلير , عند حديثه عن ظهور بوادر ملكية خاصة للخيرات الجماعية , عبر شخصيات لها نفوذ وقوة ضمن جماعات كان حق الملكية عندها يقتصر على إمكانية الحيازة فقط , حيازة ما يمكن استغلاله وحمايته . انظر في هذا الإطار :
- M.Bellaire , << les terres collectives au maroc et la tradition >> , op . cit . , p , 142
30- Ibidem , p . 317
31- Ibidem , p . 319
بالإضافة إلى اعتبارات أو " مؤسسات " أخرى كامتلاكها محلا للمراقبة الدائمة , " برجا " , مسجدا و"أكادير" كمؤسسة اقتصادية بشكل معين " 32 .
4 – جاك بيرك أو المقاربة اليقظة :
تبرز أهمية جاك بيرك في هذا الإطار , في أنها ظلت وعلى امتداد فترات زمنية متقاطعة , واعية بحدودها . إنها مقاربة يقظة " ترفض كل تعميم انطلاقا من حالة مزدوجة التحديد " .
إن مرحلة التنظير , كمرحلة ملازمة لكل بحث علمي , لا يمكن التوصل إليها حسب جاك بيرك إلا انطلاقا من عمل مقارن بين حالات منفردة 33 . ومن ثم ستعطى الأولوية للتحليل قبل التركيب مع ما يتطلبه ذلك من قطع مع المناهج التي اعتادت البحث عن الثوابت وعن الإطلاقية 34 .
وفي هذا الإطار كذلك سيتم تعويض البحث عن التشابهات بالبحث عن الاختلافات والفوارق ومن ثم الاهتمام بتعددية الأشكال التنظيمية وكذا البنيات الاجتماعية التي بلورها سكان هذه المنطقة أو تلك , بالخصوص سكان الأطلس الكبير الذين شكلوا مجال اهتمام ودراسة جاك بيرك , بالرغم من طغيان منظور ما يسميه هو نفسه " بالاستمرارية المغاربية " .
لابد من إدراك القبيلة ضمن صيرورتها التاريخية , وبالتالي فعوض تعريف واحد لها , ستبرز تعاريف ومتغيرات عديدة تستمد مصداقيتها من أهمية السياق التاريخي والانتباه إلى علاقة القبيلة بالدولة و إلى لحظات الصراع حول السلطة , ومدى التصاقها بالوطن المسكون .
ينبغي إذن , حسب جاك بيرك دائما الاهتمام بدراسة " الحالات " في ذاتها وفي أبعادها التاريخية , ومن ثم سيهتم بدراسة المجتمع القروي وبشكل أدق المجتمع الزراعي في علاقته مع الوسط الطبيعي أو ما يسميه بالأساس أو الجوهر الطبيعي . هذا التداخل بين الإنسان و وسطه القروي هو الذي سيحدد في نظره , الشكل المجتمعي Sociétal , لقبيلة معينة " سكساوة " بالنسبة إليه 35 .
بالإضافة إلى المتغيرات السابقة , وضمن إشكال نظري آخر متعلق أساسا بمحاولة قراءة أو إعادة كتابة التاريخ الاجتماعي لشمال إفريقيا , سيركز جاك بيرك على دراسة العلامات وما يمكن أن توفره من إمكانيات في فهم التاريخ الحقيقي لهذه المجتمعات , يقول جاك بيرك : " لقد سعينا فقط إلى التأكيد على الأهمية التفسيرية التي تكتسيها العلامات في فهم جانب من الظواهر الاجتماعية في شمال إفريقيا , لأن هذه المنطقة ظلت باستمرار أرض البحث عن هوية الذات بالاستناد إلى التأويل أو التأكيد أو الخداع , أو بواسطة الاندماج أو الانشطار , ففي حياة الكلمات يكمن قسط من تاريخ و مورفولوجية المجموعات " 36 .
هذه الاعتبارات ستجعله ينظر إلى القبيلة في أبعادها الحقيقية , ومن ثم محاولة مقاربيتها بحذر شديد ليس باعتبارها وحدة مغلقة بل ضمن إطار عام و شامل 37 , ضمن شرط تاريخي محدد , عبره تم تعمير المغرب . " إن تعمير المغرب – يقول جاك بيرك – يبدو لنا كفسيفساء , لكن الحبة به صغيرة و محدودة , و الألوان رغم تعددها فإنها تتجمع تقريبا دائما في نسق واحد هو الأسماء التاريخية الكبرى " 38 . إلا أن هذا لا يعني أننا استطعنا حل ألغازها و دلالاتها . لكن يقول جاك بيرك , أليس التمييز بين خطوطها عملية تحفز عليها أبسط ضرورات المنطق و أبسط متطلبات العقل ؟ هذا ما قام به باحثونا , فقد اعتمد بعضهم على الوهم النسبي الذي ينتشر الأبناء بمقتضاه بعيدا عن الأب ,
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
32- Ibidem , pp . 316 – 317
33- A. Laroui , les origines … , op . cit . , p . 174
34- Georges Nicolas , << la sosiologie rurale au Maroc pendant les derniéres cinquante années .
Evolution des thémes de recherche >> , revue Tiers – monde , T . II ? n° 8 , 1961 , p . 539
35- J. Berque . seksawa . recherches sur les structures sociales du Haut Atlas occidental . Paris . 1954. p . 174s
36 – الأنتربولوجيا والتاريخ م . س , ص . 121
37- J . Berque . l’Intérieur du maghreb , éd . Gallimard , op . cit ., p . 353
38- J . Berque , Maghreb , Histoire et Société , op . cit . , p . 25
بينما اعتمد البعض الآخر على التفسير التاريخي الذي يقوم على الوهم النسبي الذي ينتشر الأبناء بمقتضاه بعيدا عن الأب , بينما اعتمد البعض الآخر على التفسير التاريخي الذي يقوم على تناحر المجموعات , هكذا شرح كل بطريقته الخاصة هذه التكرارية الغريبة التي تعرفها أسماء المجموعات 39 .
إن القبيلة لا تتطور فقط بواسطة التباعد , إن التباعد يشكل فقط إحدى اتجاهاتها الممكنة وهو نتيجة للتقلبات التي فرضها عليها التاريخ . إنها تتطور و بنفس القدر عن طريق التقارب . ومن ثم يمكن إدراكها " كعسلوج " واحد تمتد جذوره من قريب لقريب حتى يشمل مجموع جهات الفق " 40 .
إنها لا تنمو فقط عن طريق الاندماج , بل كذلك عن طريق التجميع . وعندما نقول تجميع فهذا يعني أن ثمة فاعل , ثمة دوافع وعوامل ساهمت في خلق تكتلات و تشتيت أخرى .
هذه العوامل حسب بيرك تكمن في " الانتصارات والهزائم , تنقلات الغزاة أو تيهان الهاربين , الحيوية التي تبعث على الانتشار أو الضعف الذي يقترن بالتشتت , حركات التوسع أو الانكماش التي يعرفها الاقتصاد الفلاحي وعلى الأخص الرعوي , تكاثر أو اختلاط المجموعات " 41 . وبشكل عام التقلبات التي فرضها عليها التاريخ كما أشرنا فوق .
هكذا يخلص جاك بيرك , في الأخير , إلى إظهار طغيان عامل الكسب والمعاش مع ما يترتب عن ذلك من حروب وصراعات , في فهم وتفسير تكتلات بشرية معينة . يقول جاك بيرك : " إذا ما حاولنا , الآن , تجميع المظاهر الأكثر تأثيرا في التنظيم القروي , فإننا سنتبين أنه نتيجة لغلبة الإنسان الاقتصادي Homoeconomicus 42 .
إن الحديث عن تكتل بشري معين من خلال صراعه مع الطبيعة ومع التاريخ , من خلال صراعه مع الحياة , هو ما طبع تصور جاك بيرك للقبيلة . وباعتبار أن هذا الصراع يستدعي الديناميكية والتحرك , فإن ذلك سينعكس لا محالة على مستوى التعريف , مستوى تحديد مفهوم القبيلة . إنها حسب تعبير " بول باسكون " , وبصيغة تلخص جيدا طرح بيرك , عبارة عن جمعية سياسية مبنية على عوامل اقتصادية جغرافية : أي علاقات الإنسان بالأرض , والطاقة البشرية بالثروة البيئية وفضائها في مستوى تكنولوجي معين .
هكذا عوض العثور من خلال مجهود جاك بيرك على تعريف محدد للقبيلة سنجد أنفسنا أمام تساؤلات أخرى جديدة تتعلق أساسا بالعامل المحدد الذي على أساسه نفهم هاته التكتلات البشرية التي ندعوها قبائل , هل هو العامل الاقتصادي , الجغرافي , أم شيئا آخر , ومن ثم الرجوع مرة أخرى , أو بالضرورة , إلى الميدان , إلى المادة الخام , الأساس لكل تنظير حسب بيرك .
II – قبائل الحياينة : التشكل التاريخي
يبدو التساؤل عمن هم الحياينة تساؤلا مشروعا باعتبار أن هذه القبائل تشكل المجال المفضل أو المختار لمقاربة الإشكالية التي تهمنا , إشكالية التحولات الاجتماعية . لكن , في الوقت ذاته , ومنظورا إليه من زاوية أخرى , زاوية ابستمولوجية صرفة , يبدو و كأنه سؤال خاطئ , سؤال طرح بشكل سئ ما دام يقدم نفسه كتساؤل عن الأصل , سؤال حاليا أصبح متجاوزا * , بل وحتى لو ألححنا في طرحه , فإننا لن نصل بالتأكيد إلى نتائج مضبوطة و متفق عليها . وهي مسألة بديهية باعتبار التاريخ الكلي و ربما الخصوصي لتجمعات المغرب وقبائله : تحركات وهجرات متتالية بفعل الحروب , المجاعــات والكوارث الطبيعية , الأوبئة ...الخ .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
39- الأنتربولوجيا و التاريخ , م . س , ص . 116
40- J . Berque , Maghreb … , op . cit , p . 24
41- الأنتربولوجيا و التاريخ , م . س . ص . 114
42- J . Berque , les seksawa , recherches sur les structures sociales du haut –Atlas occidental , op . cit ., p . 367
*في مجال الإبستمولوجيا حاليا , تم الاستغناء عن البحث في الأصل و تعويضه بالبحث عن العلاقة ومن ثم فالسؤال من هم الحياينة يفهم ليس اعتمادا على أصلهم الجنيالوجي بل اعتمادا على علاقاتهم مع المحيط الخارجي : قبائل مجاورة , زاوية , سلطة مركزية ...الخ .
لكن , وبالرغم من هذه الصعوبات التي تبدو في الواقع طبيعية , سنحاول و اعتمادا على الدراسات المتوفرة من جهة و على ما أفرزته الذاكرة الجماعية لرجال أو لسكان المنطقة أن نخرج بتصور عام قد يفيدنا تاريخيا على الأقل في تحديد بعض ملامح ظهور و تطور هذا التجمع القبلي الذي تمثله قبائل الحياينة , بطبيعة الحال من منظور هذه المرجعيات المكتوبة منها والشفوية ** . بل ويمكن أن نتقدم أكثر ونتساءل عن مدى إمكانية وجود أو تصور علاقة أو رابط بين المرجعيتين ؟ ثم ألا يمكن اعتبار المرجعية المكتوبة مجرد طريقة فهم أو تأويل للمرجعية الشفوية / الأسطورة , التي نعتقد أنها المرجعية الأساس , المؤسسة للاجتهادات اللاحقة التي اتخذت صيغة معرفة تاريخية بحكم بنائها وطريقة تناولها لموضوعها 43 .
تاريخ هذه القبائل إذن يتأرجح بين زمنين : زمن أسطوري , ذلك الذي بلوره المخيال الجماعي , وزمن تاريخي ذلك الذي نتلمسه من خلال الكتابة التاريخية قديمها وحديثها . كيف يظهر تاريخ هذه القبائل من خلال هذين الزمنين / المستويين ؟ وقبل ذلك كيف تتحدد بلاد الحياينة جغرافيا ؟
1- بلاد الحياينة : الإطار الجغرافي :
يمثل الحياينة جزءا من مقدمة الريف في الشمال الشرقي لمدينة فاس ما بين نهري سبو وورغة . و " مقدمة جبال الريف ليست سوى جانب أو مظهر جهوي للريف " 44 .
وحدة البلاد هي قبل كل شئ عرقية سلالية : الحياينة عبارة عن كونفدرالية لثلاثة قبائل : اولاد عمران في الشمال , اولاد رياب في الجنوب و اولاد عليان بين القبيلتين السابقتين . " هذه الكونفدرالية تمتد لتكون وحدة إدارية , وتمثل منطقة نفوذ قائد تيسة Tissa , دائرة تاونات , عمالة فاس " 45 .
إن بلاد الحياينة , كوحدة على المستوى العرقي السلالي لا تظهر فريدة على مستوى الجغرافية الطبيعية : إنها لا تختلف بالمرة عن المناطق التي تمتد جهة الغرب والشرق . إن الأمر يتعلق أساسا بجزء شمال – جنوب في مقدمة الريف . " يظهر في هذه المنطقة , المتجانسة بشكل واسع والتي تمثلها مقدمة الريف , أن الوحدات الجهوية تدين أكثر لتوزيع المجموعات البشرية أكثر منها لتقلبات الإطار الطبيعي "46 .
ألا يمكن أن يؤثر هذا التداخل المجالي , هذا التشابه على مستوى الجغرافية الطبيعية على مستوى ما هو اجتماعي وعلى مستوى ما هو ثقافي بشكل عام ( تقاليد , كيفية التعامل مع المجال وطريقة تنظيمه , تعبيرات و رموز ثقافية ... الخ ) ؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب فكيف نفسر ذلك ؟ ألا يمكن أن نجد له تبريرات تاريخية ؟ لنعد إذن إلى التاريخ .
2- بلاد الحياينة : الإطار التاريخي :
أ – الحياينة بين الحكاية والتقليد : سنعتمد في هذا المستوى على روايتين تقدم كل بطريقتها الخاصة تصورا للأصل الحياني :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
** إذا استثنينا المرجعية الثانية التي تمثلها الذاكرة الجماعية لسكان المنطقة حاليا , نلاحظ أن مختلف الإجابات التي قدمت حول هذا السؤال الجنيالوجي للحياينة , اعتمدت اساسا على مقاربة " لازاريف " والمثبتة من خلال دراستين مستقلتين عن المنطقة همتا أساسا تطور بنياتها الزراعية وتنظيم مجالها الزراعي , وهما:
- << Structures agraires et grandes propriétés en pays Hayaina >> , R . G . M n° 9 , 1966 .
- << Répartition de la propriété et organisation villageoise dans le prérif , l’exemple des Hayaina >> , R . G . M n° 8 , 1965 .
43 – على سبيل المثال دراسة عبد الرحمان المودن , البوادي المغربية قبل الإستعمار قبائل إيناون والمخزن بين القرن السادس عشر والتاسع عشر , منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سلسلة : رسائل و أطروحات رقم 25 , 1995 .
44- G.MAURER , << les pays rifains et prérifains >> , Information géographique n° 4 , 1959 , p : 166
45- G.LAZAREV , << structures agraires … >> , op . cit ., p . 23
ملحوظة : منذ 1979 , مع إنشاء عمالة تاونات أصبحت بلاد الحياينة كما يسميها لازاريف مرتبطة إداريا بها ومستقلة عن عمالة فاس .
46- Ibidem , p . 23
-الرواية الأولى : كان لرجل ثلاثة أبناء : رياب وعمران من نفس الأم , وعليان من أم ثانية , عندما توفي الرجل / الأب وزعت ممتلكاته ( أراضيه ) بين أبنائه الثلاثة : عمران انفرد بالجزء الشمالي الممتد حتى نهر ورغة , رياب شمال وادي ايناون , وعليان الأخ من الأب ستخصص له المنطقة الوسطى بين أخويه حتى لا يفكر في ترك الأسرة 47.وهنا نسجل حضور التفكير السلالي وانعكاس هذه العقلية السلالية على مستوى التعامل مع المجال.مع ذلك"فإن الإعتقاد في الإنتماء إلى نفس الجد,سواء كان أسطوريا أو واقعيا, يكون عامل تجانس و وحدة يغني ويدعم أفراد الجماعة " 48 .
- وفي رواية ثانية : نجد أن الحياينة هم أصلا من الحجاز * وأن موطنهم أو بلدهم الحالي كان فيما مضى لصنهاجة الشمش الذين يكونون حاليا جبالة شمال ورغة . نسجل هنا كذلك هذا الإنتقال من تنظيم قبلي إلى آخر , من الحياينة إلى جبالة . ونشير كذلك إلى التنوع الذي يطبع أو يغلف هذه التسمية الأخيرة : جبالة و كذلك الغموض الذي يكتنف هذه التسمية ** .
هاتان الروايتان تسجلان فيما بينهما تناقضا ملحوظا , الأولى يظهر أنها ربطت بشكل ضيق أصل هذه المجموعة السكنية بالمنطقة التي تحتلها . أما الثانية فقد ركزت على قدوم مجموعة من المهاجرين العرب وانغراسهم في بلاد صنهاجة 49 . ومهما كانت الرواية الصحيحة أو الصائبة , فإن الزمن الأسطوري والزمن التاريخي – كما يقول الخطيي – يلتقيان بدون أن يختلطا ... إنهما يتواجدان بدرجات مختلفة في نفس الوعي وبكيفية حميمية تجعل التحليل يضل الطريق أمام مثل هذا التركيب المتلاحم " 50 . " إن التاريخ يندس بين ثنايا الأسطورة , كما أن الأسلاف الذين تتحدث عنهم الأنساب ليسوا علامات مجردة أو شخصيات بدون كثافة تاريخية " 51 .
-وفي الرواية الثالثة : هي في الواقع ليست رواية بل مثلا يدخل في إطار التراث الشعبي للمنطقة – مثل ذو نفحة أسطورية – ومن ثم يمكن أن نؤسس عليه رواية : "الحياينة احياونا واحياو اوليداتنا " 52.
هناك إذن متحدث ومتكلم مجهول . من هو هذا المجهول ؟ هل هو قبيلة بني ومود * التي تحدث عنها الوزان ومارمول في حقبة سابقة خلال القرن 16 ؟ هل هي قبيلة صنهاجة استنادا على الرواية الثانية؟ كيف تمت عملية الإحياء هذه , هل هي إحياء للأرض أم احياء للساكنة ؟ 53.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
47- Ibidem , p . 33
انظر كذلك المودن , مرجع مذكور , ص : 161 خصوصا الطريقة التي قرأ بها هذا التوزيع الذي لا " يبرز حسبه العلاقات القرابية بين الإخوة الثلاثة بل يلح على مستوى شجاعتهم وقدرتهم القتالية : بما أن عليان كان أقلهم شجاعة فقد وضع في الوسط حتى لا يكون على جبهات المواجهة مع المجموعات القبلية الأخرى " .
48- A . Halim , Structures agraires et changement social au maroc , op . cit ., p . 19
*جاء في كراسة وزعتها " جمعية مربي الخيول بتيسة " بمناسبة المهرجان الثاني ( 1981 ) , ص : 17 , رواية تفيد أن أهم أولياء الحياينة , وهو محمد بن الحسن الجناتي , لما توجه إلى الشرق , التقى بشخص يدعى " حيون " , أكرم متواه فدعاه الولي إلى القدوم معه إلى المغرب حيث كانت " الأراضي شاسعة وخصبة تتطلب من يستثمرها " , فجاء حيون مع أبنائه الثلاثة , استوطنوا المنطقة التي ستصبح حاملة لإسمهم : الحياينة نسبة إلى الأب المؤسس : حيون .
** في هذا الإطار يمكن الرجوع إلى أعمال الباحثين المختار الهراس والتمسماني خلوق حول قبائل جبالة شمال المغرب .
49—G.LAZAREV , << Structures agraires … >> , op . cit ., p . 33
50- عبد الكبير الخطيي , " المراتب الإجتماعية بالمغرب قبل الإستعمار " , المجلة المغربية للإقتصاد و الإجتماع , العدد 2 , 1975 , ص . 26
51- عبد الله الحمودي " الإنقسامية والتراتب الإجتماعي والسلطة السياسية والقداسة , ملاحظات حول أطروحة كيلنر " , الأنتربولوجيا والتاريخ ,م.س,ص. 86
52- عبد السلام بنسودة , أمثال فاس , ج 1 , ص 270 , خ . ح . ر 10653
*- للمزيد من التفاصيل انظر في هذا الإطار عبد الرحمان المودن , البوادي المغربية قبل الإستعمار , م . س , ص : 168
53- يذكر الوزان أن هذه القبيلة كانت تحتل المناطق الواطئة من حوض إيناون وقد وصف أنشطتها على الكيفية التالية:"والأراضي الزراعية في كل منحدراتها جيدة.والماشية كثيرة إلا أن الماء قليل".واشار إلى الحرف المزدهرة لدى أهلها ( صنع الصابون ) والى الأرباح التي يجنونها من تجارة منتوجات هذه الحرف من مدينة فاس. / الوزان الفاسي,محمد بن الحسن وصف افريقيا, تعريب محمد حجي ومحمد الأخضر, الجزء1, الرباط 1980-1982,ص: 264
إذا كانت كل الإجابات التي قدمناها هنا تبقى ممكنة , فإن ما يمكن أن نسجله هنا هو طبيعة هذا التعايش أو التساكن بين ساكنة محلية وساكنة أخرى وافدة من جهة أخرى , وهذا " الحوار " الذي تم خلقه بين القبيلة " العربية " والمجتمع الزراعي الصنهاجي paysannerie SANHAJA , على خلاف جهات أخرى في المغرب حيث غالبا ما كان يتم إجلاء مجموعات وتعويضها بأخرى .
هكذا يخلص لازاريف إلى القول إن الحياينة يقدمون مثالا " لتمازج ثقافي ستستمر جذوره رغم ترددات التاريخ السياسي " 54 . هذا وإن كنا غير مقتنعين بهذا الطرح أو هذا الفهم , لأن هناك أسئلة عديدة تفرض نفسها على هذا المستوى مثلا : ما هي طبيعة هذا الحوار الذي يتحدث عنه لازاريف ؟ ما هي حيثياته ؟ كيف انطلق ؟ و من قام بافتتلحه و هل كان حوارا متكافئا ...الخ ؟ .
ب – الحياينة بين الكتابة التاريخية و التأويل : لم يكن من الممكن الحديث عن ظهور قبائل الحياينة ما بين " سبو " و " ورغة " شمال فاس إلا مع ظهور كتاب " وصف افريقيا " للوزن سنة 1550 . لكن الوصف الذي يقدمه يتطابق مع رحلاته أو تواجده بالمغرب ما بين 1510- 1520 .
خلال هذه الفترة , كانت بلاد الحياينة تنتمي لمنطقة أو إقليم الريف , وكانت محتلة من طرف قبائل " صنهاجة " ويظهر أن بني ومود القبيلة التي اختفت تحت هذا الإسم كانت ممتدة شمال " إيناون " , بجوار " بني ورياغل " " بني إيدر " , و" صنهاجة مصباح " على ضفاف نهر ورغة في الشمال .
شرقا كانت محدودة بإقليم الحوز Chaus , بلاد البرابة الزناتيين الذين قدموا من المشرق خلال القرن 12 هـ مع بني مرين مؤسسي الدولة المرينية والذين حلوا محل " صنهاجة "
ضمن هذه العلاقة الدائرية إذن , يمكن التقدم في الإجابة عما هي القبيلة المغربية ؟ ما هي خصائصها ؟ كيف تنمو وكيف تتطور ؟ .
بالنسبة لنا نحن , اخترنا الإنطلاق من العام أي من مختلف الدراسات التي انجزت حول القبيلة المغربية – بطبيعة الحال عبر نماذج أو حالات عينية – إلى الخاص , إلى القبيلة التي تهمنا , وهي طريقة في النظر , نعتقد أنها ستساهم في إغناء تصورنا حول القبيلة سواء أدركناها كمفهوم , كتصورات نظرية أو كواقع تمثله القبيلة أو القبائل التي تشكل محور اهتمامنا .
I – مفهوم القبيلة : تعدد الإطارات النظرية ومحدودية التفسير :
تمهيد :
كان اهتمام السوسيولوجيا الكولونيالية بالقبيلة مشروطا بظرفية تاريخية محددة , هي ظرفية الاستعمار والتوسع الفرنسي , ظرفية أعطت الأسبقية لاستفهامات عدة : من يحكم في المغرب ؟ مع من يمكن أن نتواجه في المغرب ؟ وبطبيعة الحال , فالإجابات المقدمة عن هذه الاستفهامات هي التي ستحدد نوعية السياسة أو السياسات اللاحقة التي يلزم اتباعها مع هذه الجهة التي بيدها مفاتيح السلطة في المغرب : إما عبر احتوائها وإدماجها كطرف في المشروع- وهذا ما حصل بالطبع مع رؤساء بعض القبائل الذين تحولوا إلى قواد في ظل السيادة الاستعمارية , أو بعض شيوخ الزوايا , كالزاوية الوزانية أو عبر استراتيجيات أخرى كالتفكيك والتكديح عبر نزع الملكية والتهجير ... إلخ .
منذ البداية , إذن , نسجل التوجه الإستعماري لهذه الدراسات الكولونيالية , سواء كانت في مجال الجغرافيا البشرية , الإتنولوجيا , الأنتروبولوجيا أو السوسولوجيا ... توجه حاول أن يزاوج بين إرادة المعرفة وإرادة السلطة , إرادة المعرفة وإرادة الغزو والإختراق . مع ذلك كان لا بد من إرضاء الرأي العام الغربي والفرنسي على وجه الخصوص , وإقناعه بمدى مشرعوية التدخل , إن التدخل هنا , ليس من أجل الغزو بل من أجل التحضير . هناك رسالة إنسانية ينبغي أن يقوم بها الغرب المتحضر اتجاه المجتمعات غير العربية , " البربرية " ," المتوحشة" , " الغريبة " , وإخراجها من حالتها تلك . هذه المهمة التي ستتولى القيام بها أو التمهيد لها الدراسات الأنتروبولوجية من خلال دراستها المتعددة للزوايا , للطرقية , لأهل الجبل " الأبرياء " مقابل أهل السهل " الغزاة " , للمرأة , للعائلة ... الخ . هذا التوجه هو ما تلخصه القولة الشهيرة للمنظر الإستعماري الكبير " ليوطي " : إننا فقط محضرون " .
غير أن هذا التوجه , وبغض النظر عن الإشكالية العامة التي ضمنها كان يتحرك 1 , إشكالية تداخل فيها السؤال المعرفي بالسؤال السياسي , وارتبط فيها الفكر بالراهن , فقد ساهم بشكل كبير , ولو على مستوى الوصف , على مستوى المعطيات التي اعتمدها لتبرير أطروحاته , في تجلية وإغناء معارفنا حول مغرب أواخر القرن 19 وبداية القرن 20 . ومن ثم يصبح مشروعا الإستفادة منه واستثماره في فهمنا لذاتنا . فلربما وكمـــا يقول أندريه آدم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – يكتب الأستاذ حليم في هذا الإطار : " إننا في هذه الحالة أمام نظرة أوربية متمركزة حول ذاتها تطلعنا بشكل كبير حول الإفتراضات المسبقة لصاحبها أكثر مما تطلعنا حول الحقيقة المدروسة وبالطبع فنظريات من هذا القبيل لا تقدم سوى تصورات شبه علمية للمجتمعات المعنية ومن ثم ضرورة القيام ببحث علمي حقا " .
- Abdeljalil Halim , L’Iqtà et l’appropriation de la terre au Maroc , op . cit ., p . 53.
André Adam في " بعض الأحيان ترى العين الاصطناعية , ما لا تراه العين الطبيعية " 2.
ضمن هذا الإطار إذن , سيتم الاهتمام بدراسة القبيلة . إن مفهوم القبيلة , إلى جانب مؤسستي الزاوية والمخزن , سيمثل مفهوما محوريا في الدراسات السوسيولوجية إلى حد يمكن اعتباره " ذرة " للخطاب السوسيولوجي , بالخصوص الخطاب الكولونيالي , باعتبار ما كان سيوفره له تناول القبيلة – كما أسلفنا – من تقدم في معرفة / غزو المجال الذي كان ينوي التحرك فيه . لا غرابة إذن من ملاحظة أو تسجيل تعددية في وجهات النظر وفي تناول هذا المفهوم , بالرغم من أن التصور أو المنظور العام للقبيلة كما تقدمه المخيلة الإثنوغرافية هو نفسه أي باعتبارها كيانا تسود فيه مساواتية ونزعة مشتركة ومتأصلة نحو هاته الصفة أو تلك3. كيف ندرك القبيلة إذن , هل ندركها من خلال وظيفتها التاريخية ونقول أنها قوة سياسية ضمن الثلاثي مخزن – قبيلة – زاوية كأنساق سياسية فرعية ؟ أم أنها تتحدد من خلال ارتباطها بالمجال وفي علاقتها مع " مورفولوجية الأرض " ؟ أم أنها ليست سوى حصيلة طبيعية لتوسع أسرى متوحد الأصل ؟ وعلى مستوى آخر كيف نقاربها , هل باعتبارها كيانا ثابتا محددا في الزمان والمكان أم أنها فوق ذلك كيان اجتماعي متحرك , مع ما تفرضه الدينامية من علائقية ومن تشابكات أي ماكروسوسيولوجية المقاربة ؟
تحيل هذه التساؤلات إلى مقتربات متعددة حول ما ندعوه بالقبيلة والمجتمع المغربي للقرن 19 بشكل عام . و هي مقتربات يمكن تقديمها كالتالي :
1- المقترب البيولوجي :
يتميز هذا المقترب في تحديده لمفهوم القبيلة بإعطاء الأهمية للجانب السلالي , ومن ثم اهتمامه بجنيالوجيا القبائل باعتبارها مشكلة من جملة فرق تستمد كل منها تسميتها من أصلها , ثم من العائلات الوجيهة التي كانت تشكل عناصرا لها , والتي تحولت مع مرور الزمن إلى مستوى فرق 4 . حسب هذا الفهم , تستمد القبيلة أصلها من وحدتها , بل إن " ميشوبيلير " , أحد أقطاب هذا الاتجاه , يعتقد أنه حتى على المستوى الإداري فإن كل مقاطعة إدارية هي طبيعية وعائلية 5 . إن القبيلة – حسبه دائما – كيان متمايز , يقوم على أساس التساكن والتعايش ضمن إطار جغرافي مشترك , كيان قائم على وحدات مشتركة في أصلها .
تمثل القرابة , من هذا المنظور , أساسا لفهم ظهور تجمعات أو تكتلات بشرية معينة " فخلوط وطليق مثلا يعود أصلهما بالتأكيد إلى جد قديم ينحدر من القبائل العربية التي قدمت إلى المغرب والتي كان من بينها هؤلاء الخلوط 6 . بل أكثر من ذلك , يصبح عنصر القرابة قاعدة تنبني عليها العلاقات الاجتماعية , بما تعرفه هذه العلاقات من تصادم وتعاون . تصبح القبيلة بهذا المعنى مجرد جمع أو اتحاد بين أسر كبيرة , باعتبار أن الأسرة الكبيرة كانت هي أساس التشكيلة الاجتماعية وليست القبيلة , وأن التنظيمات أو التقسيمات الوسيطية التي كانت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2-André Adam , bibliographie critique de sociologie d’ethnographie et de géographie humaine du Maroc , paru à l’université René Descartes-Paris Sorbonne , 1968 , p . 41 .
3 – في هذا الإطار يمكن استحضار مجموعة نماذج مثلا " رايمون جاموس " و " دافيد هاروت " بصدد الحديث عن قبائل الريف ونزعتهم نحو العنف والثأر . وكذلك " روبير مونطاني " حيث يثير مجموعة من الخاصيات تشترك فيها في نظره كل قبائل شمال إفريقيا ( رغبة عارمة في الإستقلال , صراعات لا متناهية بين اللفوف , نزوع نحو الثأر , صراعات داخلية , إحساس عميق بالمسؤولية ...الخ ) .
- Robert Montagne , les berbéres et le makhzen dans le sud du Maroc , op . cit ., p . 317 .
4-Michaux bellaire , les tribus arabes de la vallée du lekkous , ch . Les badaoua , Archives Marocaines , 1914 , p . 16
5-Ibidem , p . 19
6-Ibidem , p . 19
تندرج تحت اسم القبيلة ما كانت لتشكل وحدة متينة قادرة على امتصاص الأسرة 7 .
هذا التعريف للقبيلة على أساس الوحدة والانتماء إلى نفس الأصل المشترك , يذكرنا بتصور ابن خلدون للقبيلة " كمجمع للعصبيات " . هذا بالرغم من أن مفهوم العصبية عند ابن خلدون لا يقتصر على رابطة النسب وحدها , بل ينضاف إليه " الحسب " وما يدعوه ابن خلدون " الشرف بالأصالة والحقيقة " . يقول ابن خلدون في هذا الإطار : " ثم إن القبيل الواحد وإن كانت فيه بيوتات متفرقة وعصبيات متعددة , فلابد من عصبية تكون أقوى من جميعها , تغلبها وتستتبعها وتلتحم جميع العصبيات فيها , وتصير كأنها عصبية واحدة كبرى " 8 . بهذا المعنى تصبح القبيلة وكأنها عصبية استطاعت التأثير على العصبيات الأخرى , ومن ثم فسواء بالنسبة لابن خلدون أو " لميشوبلير " لا يهم التجمع الذي تمثله القبيلة بقدر ما تهم النواة أو الأسرة : فبالنسبة للأول ستمثل الأسرة أو العائلة الركيزة الأساسية لقيام العصبية وتقوية شوكتها , إنها منبع العصبية ومحركها . وكذلك الشأن بالنسبة لميشوبيلير , فليست هناك في نظره قبيلة , بل ثمة فقط مجموعة أسر كبيرة تعود أصولها لهذه الجهة أو تلك .
ما هي الخلاصات التي يمكن أن يؤدي إليها مثل هذا الفهم أو هذا الإدراك للقبيلة ؟
*الخلاصة الأولى : وهي أن هذا الفهم للقبيلة , ينبغي أن يدرك ضمن الإطار النظري , الإستراتيجي الذي يتحرك فيه فكر صاحبه , ويمكن تلمس ذلك الإطار من خلال رؤيته للقبائل ككيانات كانت تعيش دوما تحت الوصاية , وصاية المخزن من جهة , و وصاية العرب المسلمين إذا كانت القبيلة بربرية . أي ككيانات طبيعية قبل تدخل المخزن الذي سيشوه بنياتها . في هذا الإطار , إذن , تندرج مساهمة ميشوبيلير .
*الخلاصة الثانية : وهي إهمال مجموعة عناصر عند تعريف القبيلة والنظر إلى وحدتها : عامل الدين باعتبار أن هذه القبائل تاريخيا تنتمي إلى مجال ديني معين , بالإضافة إلى عنصر التاريخ , ومن ثم استجلاء وظيفة وماهية القبيلة الحقيقية التي سوف لن تتبدى لنا آنذاك فقط كوحدة بين مجموعة أسر كبيرة تعود إلى أصل معين , بل كوحدة لها أهدافها المشتركة بقدر ما لها تناقضاتها المشتركة أيضا , بالإضافة إلى تعبيراتها المعتقدية والرمزية التي تعكس تلك الأهداف , الطموحات , والتناقضات , والتي إذا أخذناها مجتمعة , ستعطينا على الأقل تصورا عاما أو خطاطة تقريبية حول ذاك الذي نسميه بالقبيلة 9 .
2- الأطروحة الانقسامية :
يوجد طرح ميشو بلير مستغرقا في الأطروحة الانقسامية 10 , حيث يمثل محور النسب و ما يستتبعه من وحدة الانتماء عنصرا مشتركا بين الاتجاهين ( البيولوجي والانقسامي ) . فالقبيلة حسب التصور الانقسامي تشبه بكونها شجرة لها أصل أو جذر واحد , بالرغم من استمرارية توالد الفروع . هذا التوالد المستمر الذي يؤدي إلى خلق أوالية أو ميكانيزم الانشطار والتي ترافقها في نفس الوقت أوالية معاكسة هي أوالية الانصهار , كلما كان هناك تهديد خارجي 11 .
هكذا , من القبيلة كبنية عليا نصل إلى الوحدة العائلية كأصل وكبداية لتشكل ما نسميه بالقبيلة ما دامت هذه الأخيرة لا تعدو أن تكون سوى " تكدسات بشرية مماثلة فيما بينها " كما يقول دور كهايم 12.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
7- انظر أحمد توفيق , مساهمة في دراسة المجتمع المغربي , إينولتان من 1850 إلى 1912 , منشورات كلية الآداب , الرباط , 1983 الجزء الأول , ص : 131 .
8-ابن خلدون , المقدمة , نشر مكتبة المدرسة ودار الكتب اللبناني , بيروت 1961 ص : 245 .
9-عبد الكبير الخطيي , " المراتب الاجتماعية بالمغرب قبل الاستعمار " , المجلة المغربية للاقتصاد والاجتماع , العدد الثاني , 1975 , ص . 15
10-ضريف محمد , مؤسسة السلطان الشريف في المغرب , محاولة في التركيب , أفريقيا الشرق , 1988 , ص . 86
11-ضريف محمد , مؤسسة السلطان الشريف في المغرب , محاولة في التركيب , أفريقيا الشرق , ص . 86
12- E . Durkheim , Division du travail social , P . U . F 1967 , 8éme éd . p . 15
من ثم وسم النظام السياسي والاجتماعي لهذه القبائل بالانقسامية , التجزيئية أو الانشطارية , و " يعني ذلك أن كل قبيلة تنقسم إلى فروع مثل الأغصان دون أن يكون هناك جذع رئيسي لأن جميع الفروع متساوية " 13 .
هذه المساواة , حسب الانقساميين , مضافا إليها , عامل الانتماء إلى نفس الأصل , ستحول دون ظهور تراتبية , باعتبار أن المساواة المطلقة تفضي إلى غياب التراتب الاجتماعي إلا في حالة استثنائية, حالة يكون فيها الشخص غريبا عن القبيلة 14 . هذا دون أن ننسى التمايز الطبيعي , حسب الانقساميين دائما – ولو في غياب التراتب الاجتماعي – بين الشرفاء / المرابطين ( الأولياء – الصلحاء ) الذين يتميزون عن العامة .
غير أنه إذا كان هذا العامل , عامل الإنتماء إلى نفس الأصل , قد أدى بالإنقساميين إلى تصور حياة خالية من التراتبية والصراع 15 , فإن ذلك لم يمنع ميشوبيلير من ملاحظة أن حياة القبيلة لم تكن قط متجانسة , بقدر ما كان التمايز قائما في إطارها بين الحكام والمحكومين , بين الفلاحين الميسورين و الفلاحين الصغار , بين العقلاء والعوام . بمعنى أن القبيلة لم تكن تسودها المساواة ولم تكن خالية من الصراعات والنزاعات العديدة سواء ضمن تركيبتها أو فيما بينها والقبائل المجاورة لها . هذا بغض النظر عن الإشكالية العامة التي كان يتحرك ضمنها فكر ميشو بيلير نفسه , إشكالية التبرير والشرعنة والتي ينبغي أن يدرك إسهامه النظري في إطارها 16 .
إن انعدام وجود تفاوت اجتماعي حسب الإنقسامين يصبح معه وجود سلطة سياسية شيئا زائدا . فما دام التفاوت الإجتماعي غائبا , فإن السلطة السياسية بدورها ستكون غائبة , ذلك أن ولادة السلطة السياسية لا يمكن أن تتحقق إلا إذا استطاع شخص من بين أفراد القبيلة " التميز " عن الآخرين و " تركيم " وسائل العنف والقهر 17 .
في غياب هذه السلطة السياسية , ومن أجل تدبير أمور القبيلة , سيتم اختيار شخص للقيام بذلك , ولكن لأمد قصير لا يتعدى السنة , وبشكل استثنائي يذكر روبير مونطاني لمدة قد تمتد إلى سنتين 18 . وهذا الإجراء له أكثر من دلالة . إنه من جهة يترجم التخوف من ظهور زعامة سياسية تستبد بالسلطة , ومن جهة أخرى يؤكد أن عملية الإستيلاء والإنفراد بالحكم والزعامة مثلت دائما طموحا كامنا أو مكبوتا لدى أفراد القبيلة , على الأقل الأعيان منهم , ومن ثم يصبح الحديث عن المساواة , عن غياب التراتب الإجتماعي كما لاحظنا مع الإنقساميين , حديثا متهافتا .
ومع ذلك , وقصد الحيلولة دون بروز أية زعامة سياسية , ولتنظيم علاقات القبيلة الداخلية والخارجية , سيتم افتراض ظهور الزاوية بقيادة شيخها الذي من المفترض أن يكون ميالا إلى السلم , ونابذا للعنف وعليه يتوقف حل كل النزاعات .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
13- كلينر " السلطة السياسية والوظيفة الدينية في البوادي المغربية " , الأنتروبولوجيا و التاريخ , مؤلف جماعي , دار توبقال للنشر , 1988 ص 46 .
14- حسب كلينر , " حتى لو بلغ أفراد أو جماعات قدرا من الغنى أو من النفود قد يمنحهم تفوقا مؤقتا على الآخرين فإن ذلك لا يؤدي إلى تراتب دائم أو مقبول رمزيا , ولا يمكن أن يرتب في مكانة أعلى أو أدنى اجتماعيا سوى الأشخاص الطارئون على القبيلة " . انظر الأنتربولوجيا والتاريخ , م.م.ص.47
15- انتقادات كثيرة وجهت لهذا التصور . يمكن الرجوع على وجه الخصوص إلى دراسة عبد اله حمودي :
- A.Hammoudi , << sainteté , pouvoir et société : Tamgrout au XVII-XVIII siècle , Annales , Mai / Aout n° 3/4 ,
p . 622
حيث يسجل حمودي , أن " فكرة المساواة ما هي إلا إيديولوجيا تفرزها " لإخفاء مظاهر اللامساواة بين أفرادها " .
16- حول هذه النقطة يمكن الرجوع إلى :
-جرمان عياش , دراسات في تاريخ المغرب , الشركة المغربية للناشرين المتحدين , الدار البيضاء , 1986 , ص . 321
- FAOUZI , M.Houroro , sociologie politique coloniale au Maroc , cas de M.Bellaire , éd . Afrique orient , 1988 , p . 27
- A.laroui , les origines sociales et culturelles du nationalisme marocain ( 1830-1912) , Maspéro , Paris , 1977 , p . 167
17- ضريف محمد , م . س , ص . 86
18- R.Montagne , les berbéres et le Makhzen , op . cit ., p . 225
هذه الوظيفة , وظيفة التحكيم التي يقوم بها " الشرفاء " تمثل ثابتا آخر في التحليلات الانقسامية إلى درجة أن بعضهم سيعرف القبيلة انطلاقا من مدى قابليتها وإيمانها بهذه الوظيفة . يقول إفانس برتشارد : " إن القبيلة هي أكبر جماعة بشرية يعتقد أعضاؤها أن من واجبهم حل نزاعاتهم عن طريق التحكيم " 19 .
يصبح المجتمع المغربي انطلاقا من هذا التعريف عبارة عن قبيلة واحدة حسب كلينر , الذي يرفض على التو هذا الاستنتاج , انطلاقا من أن المغاربة أنفسهم يقرون بتعدد قبائلهم .
إلا أن هذا الاعتراض يبقى حسب عبد الله العروي غير كاف ما دامت القضية في نظره هي بالضبط هل المجتمع المغربي قبلي انقسامي أم لا ؟ فلا معنى إذن للبحث عن تعريف أدق للقبيلة المغربية , ويخلص عبد الله العروي من هاته المناقشة إلى أن النظرية الانقسامية " تتسم بالضعف وضعفها يتجلى في الوجهين التاليين : فإما أنها تفرط في الشكلانية إلى حد تفقد معه القدرة على التفسير ولا تقدم بالتالي تعريفا حقيقيا للقبيلة أو تنحصر في مجال خاص إلى حد التناقض مع نفسها 20. بمعنى أنها تنظر إلى الواقع المغربي انطلاقا من نموذج مبني مسبقا وتحاول أن ترغمه على الانطباق مع ذلك النموذج بغض النظر عن التشوهات التي يمكن أن تلحق بالفهم من جراء تلك العملية . ومن ثم فهي لا تعدو أن تكون سوى وهم ابستمولوجي وأكثر من ذلك هذيانا منهجيا , لأنها لا تمكننا من فهم السبب الذي يجعل ظواهر الانصهار والانغلاق عاجزة عن إحداث سيرورة لحالة من الارتباط والسيطرة " 21 . أي أنها لا تتجاوز " الأشكال الأولية للتصنيف : لتتبع تبنين تلك الأشكال في شكل " طبقات اجتماعية " يحكمها التمايز واللاتكافؤ 22 . هذا بالإضافة إلى أن الرسم الذي تقدمه لنا حول القبيلة تعيش في استقلال تام عن أية قوى أخرى 23 . فهي حسبهم تعيش وفقا لمزاج مكونيها متأرجحة بين حالتي انشطار وانصهار , ولها قوة تحكيمية تحل نزاعاتها , ناسية او متجاهلة دور المخزن كقوة كان لها حضور فعال عبر التاريخ المغربي حيث غالبا ما نجدها تربك وتعرقل سير هذا النظام المفترظ أنه تجزيئي بواسطة مجموعة آليات : تدخل عسكري , احتواء , توزيع القبائل وتغيير مواقعها ..الخ .
هكذا نخلص إلى أن الأطروحة الإنقسامية لم تقدم جديدا مقارنة مع الطرح السابق البيولوجي , طرح ميشو بيلير , باستثناء استحضارها عند التحليل لقوة اجتماعية لم يتم الحديث عن دورها و وظيفتها بما فيه الكفاية مع ميشو بيلير , نقصد الزاوية * . وكذلك النقاش الذي أثارته حول تطور النظام القبلي في المغرب , والذي ساهم بشكل كبير من خلال ردود الفعل التي أثارها , في إغناء معرفتنا بالقبائل المغربية وسيرورة تكونها .
3 – المقترب التطوري :
ضمن هذا المقترب , سيحاول " روبير مونطاني " صياغة تعريف للقبيلة انطلاقا من معاينة جملة التحولات التي عرفتها بنياتها على مر التاريخ , خاصة بنياتها السياسية . وهكذا ستقارب القبيلة انطلاقا من التطور والتقلبات التي عرفها نظامها السياسي , حيث أنه من دون التعرض لهذا النظام , لا يمكن تقديم تعريف محدد للقبيلة , على الأقل القبيلة البربرية / السوسية , عينة روبير مونطاني والتي مثلت بالنسبة إليه صورة حية ( متحفا أركيولوجيا ) لما كانت عليه المجتمعات الأوروبية في أوائل القرون الوسطى ( ق . 5 – 7 ) . يميز روبير مونطاني داخل هذا النظام , داخل هذا المجال التطوري لأنظمة الحكم بين أربعة مراحل :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
19- Evans pritchard , les systémes politiques africains , 1941 , p . 278
20- A.Laroui , les origines sociales et culturelles ... , op .cit ., p . 129
21- عبد الكبير الخطيي , " المراتب الإجتماعية بالمغرب قبل الإستعمار " م . س , ص . 34
22- عبد الكبير الخطيي , ن . م , ص . 39
23-حليم عبد الجليل , " البحث السوسيولوجي في المغرب " , مجلة كلية الآداب بفاس 1982/83 , العدد 6 ص . 25
*- مشو بيلير نفسه أثار , في معرض حديثه عن الوصاية المفروضة على القبائل البربرية من قبل الجماعة الإسلامية والمخزن ما سماه " بالتفوق الديني " الذي تتمتع به الأسر الشريفة والذي انبنت عليه قوتها المادية , انظر :
M.Bellaire , << Les terres collectives au Maroc et la tradition >> , Hesperis ,T . IV 1924 , p . 143
*المرحلة الأولى : مرحلة الحكم الجمهوري الديموقراطي , وخلالها تكون القبيلة منظمة على الشكل التالي :
1- الدوار أو المدشر : Hameau , وحدة مبنية على عامل النسب أساسا , تتشكل من 20 إلى 30 " كانونا " .
2 – الفخذة : sous-fraction : وتضم ما بين 3 إلى 4 دواوير .
3 – الفرقة : canton : ويشتمل على 3 إلى 5 فخذات وهي بالمقارنة مع الفخذة أو الدوار تتميز بكونها وحدة سياسية غير دموية , إذ يمكن اعتبارها جمهورية مستقلة .
4 – القبيلة : وتضم مجموعة فرق , يتراوح عددها ما بين 3 و 12 فرقة " تمتلك إقليما محددا , إسما , بعض العادات المشتركة , وتوجد في نفس الوقت مجردة من كل مؤسسة سياسية واضحة " . ويضيف- روبير مونطاني – " بالخصوص في ناحية الأطلس الكبير الغربي , الذي لم يتم تغييره من طرف مؤسسة المخزن " 24 . وتمثل القبيلة وحدة دموية مفترضة فقط , لأن " وحدة التراب أو الإقليم والاهتمام بالدفاع عنه وتطويره هما اللذان يخلقان بين الأسر المنتمية لنفس الفرقة مجالا اجتماعيا دائما , وليس الانتماء إلى أصل مشترك كما يعتقد السكان المحليون في الغالب , بالرغم من أن الإسم المعطى لتاقبيلت ( آيت لحسن , آيت عبد الله , آيت موسى ) ينزع في بعض الأحيان إلى الدفع بافتراض أن كل السكان هم أبناء لجد مشترك , فإنه من اليسير النظر إلى هذا المعتقد باعتباره مجرد وهم " 25 .
إن وحدة القبيلة , إذا ما حاولنا إدراكها في حقيقتها , يقول مونطاني , تكمن في كونها استجابة لمطلب معين , مطلب استراتيجي أساسا , باعتبار أن هاته الوحدة " لا تظهر إلا في ظروف خاصة , عندما يجد استقلال الفرق نفسه مهددا من طرف المخزن حيث يجتمع كل الحاملين للسلاح أو المحاربين للدفاع عن الوطن 26 . كما أن المجال الدائم الذي يوحد الفرق ... في الغالب , لا يتميز سوى بوجود شعور غامض من الأخوة – يقول روبير مونطاني – لم نستطع بعد معرفة طبيعته و أصله 27 * .
في هذا المستوى كذلك من التنظيم الاجتماعي والسياسي , يمكننا الحديث عن نوع من المساواة , لكنها تبقى مساواة نسبية , لأن ممثلي القبائل في الغالب ما يكونون سليلي أسر قوية وغنية . إن " كل تاقبيلت حسب مونطاني , تمتلك دائما , وفي الواقع , من بين 10 أو 15 أسرة مكونة لها ’ إثنان أو ثلاثة مجموعات أكثر قوة , أكثر غنى و أكثر محاربة , والتي ينضم إليها الآخرون للبحث عن سند . رؤساء هاته السر الأكثر أهمية داخل الفرقة هم الذين يسيرون , حسب مزاجهم , مداولات أو قرارات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
24 – R.Montagne , les berbéres et le makhzen . . , op . cit . , p . 154
25 – Ibidem , p . 154
- J. Berque , Maghreb , Histoire et société ,éd . J . Duculot , Alger , 1974 , p . 25
الذي يكتب : " إن اللجوء إلى الجد المشترك الذي تنتمي إليه نفس السلالة , ليس في الواقع إلا مجرد وهم ’ إذ يتقاطع عبره عدد لا حصر له من الأصول " .
26 – R . Montagne , op . cit . , p . 159
27 – Ibidem , p . 159
*أنظر الدلالات الإيديولوجية لكتاب روبير مونطاني السالف الذكر , عند الدكتور عبد الجليل حليم , م . س . , هامش رقم 22
المجلس والذي في إطاره تبقى مساواة " الآيت أربعين " مجرد مساواة صورية "28 . إن العنصر الذي يقوي من حظوظ الزعامة لا يكمن في السن بقدر ما يكمن في الغنى .
5 – اللف : يضم مجموعة من القبائل وهو عبارة عن حلف لا تظهر فاعليته إلا في حالات خاصة : الحروب مثلا , وهو يماثل في وظيفته نوعا ما , مفهوم العصبية الخلدوني , باعتبار , من جهة , أن كلا منهما يكون عبارة عن شعور كامن قبل وقوع خطر أو تهديد خارجي , حيث يلعب كل منهما دور المحرك لشعور الجماعة وتعبئتها . ومن جهة أخرى فكل منهما يساعد في فهم طريقة الوصول إلى الحكم والإنفراد بالسلطة , سواء عند أرستقراطيي ابن خلدون أو عند أمغاريي روبير مونطاني .
*المرحلة الثانية : مرحلة حكم الشيوخ , الأمغارات :
يتم تخطي مرحلة الحكم الجمهوري والإنتقال إلى هاته المرحلة عبر ولادة أو انبثاق زعامة سياسية كانت في مرحلة كمون . إنها الزعامة المتمثلة في ظهور الأمغار , الذي سوف لن يتوانى في تركيم وسائل العنف والقهر , حتى يتاح له الإستبداد بالسلطة بعد ذلك . " فمهما كانت يقظة مجالس الأعيان – يقول روبير مونطاني – فإننا نلاحظ دائما بروز رجال , بالنسبة لهم حب الشرف والمال أو الزعامة لا يتماشى والإطار الضيق الذي أغلقتهم فيه التقاليد " 29 .
وهكذا ففي كل القبائل , حتى في تلك التي توجد بها مؤسسات أو ليغارشية أو ديمقراطية مقبولة بشكل كامل , سينهض رؤساء فوق الجماعات , سيحتكرون السلطة , وسيبحثون عبر حيازة إسم أمغار , على تأسيس , عن طريق العنف , ما سماه دوفوكو عن حق , السلطة الاستبدادية . وهكذا فثمة دائما نزوع عفوي نحو تشكل السلطة الشخصية " 30 .
*المرحلة الثالثة : مرحلة كبار القواد :
تستمد هذه المرحلة أسسها من سابقتها حيث إن مرحلة حكم الأمغارات تتضمن في داخلها الإرهاصات والبوادر التي ستؤدي حتما إلى تجاوزها من جهة , ومن جهة أخرى تعويضها بنظام حكم جديد هو حكم القواد الكبار . ذلك أن توسع نفوذ الأمغار , سيجبر المخزن كقوة سياسية عليا على الاستجابة ومسايرة طبيعة الأشياء , ومن ثم تنصيب الأمغار قائدا . وإذ ذاك يكتسب " ثقة " المخزن وبنفس القدر أو بالضرورة " ثقة " القبيلة .
عند هذا المستوى يقول روبير مونطاني , " ستودع القبيلة استقلالها وطريقة حكمها المباشر في الماضي " 31 .
*المرحلة الرابعة : مرحلة حكم المخزن ’ وهنا سيتم احتواء القبيلة نتيجة لاحتواء رؤسائها بمجرد الاعتراف بهم وتنصيبهم كقواد . ومن ثم خضوع القبيلة للسيطرة الفعلية والمباشرة للمخزن .
إن هذا المنعرج الطويل الذي سلكناه ليس زائدا , باعتبار أنه عبر هذا التدرج في أنماط الحكم والتدبير . هذا التدرج المعروفة نقطة وصوله مسبقا وكذا دلالات ذلك الوصول , وعبر ما تخلله من تصوير مكثف للحياة الإجتماعية والمؤسساتية عند القبائل البربرية , يبلور – روبير مونطاني – تعريفه للقبيلة . وهكذا " فالقبيلة تتحدد بالإسم – إسمها – والتراب والعيش وفق تقاليد وأعراف , وما قد يجمع بينها من سوق أسبوعي , ضريح مجاور , وكذلك طبيعة العلاقات التي تنسجها مع القبائل المجاورة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
28- Ibidem , p . 271
*يمكن في هذا الإطار استحضار طريقة تشكل الأرستقراطية القبلية عند ابن خلدون . وكذلك عند ميشو بلير , عند حديثه عن ظهور بوادر ملكية خاصة للخيرات الجماعية , عبر شخصيات لها نفوذ وقوة ضمن جماعات كان حق الملكية عندها يقتصر على إمكانية الحيازة فقط , حيازة ما يمكن استغلاله وحمايته . انظر في هذا الإطار :
- M.Bellaire , << les terres collectives au maroc et la tradition >> , op . cit . , p , 142
30- Ibidem , p . 317
31- Ibidem , p . 319
بالإضافة إلى اعتبارات أو " مؤسسات " أخرى كامتلاكها محلا للمراقبة الدائمة , " برجا " , مسجدا و"أكادير" كمؤسسة اقتصادية بشكل معين " 32 .
4 – جاك بيرك أو المقاربة اليقظة :
تبرز أهمية جاك بيرك في هذا الإطار , في أنها ظلت وعلى امتداد فترات زمنية متقاطعة , واعية بحدودها . إنها مقاربة يقظة " ترفض كل تعميم انطلاقا من حالة مزدوجة التحديد " .
إن مرحلة التنظير , كمرحلة ملازمة لكل بحث علمي , لا يمكن التوصل إليها حسب جاك بيرك إلا انطلاقا من عمل مقارن بين حالات منفردة 33 . ومن ثم ستعطى الأولوية للتحليل قبل التركيب مع ما يتطلبه ذلك من قطع مع المناهج التي اعتادت البحث عن الثوابت وعن الإطلاقية 34 .
وفي هذا الإطار كذلك سيتم تعويض البحث عن التشابهات بالبحث عن الاختلافات والفوارق ومن ثم الاهتمام بتعددية الأشكال التنظيمية وكذا البنيات الاجتماعية التي بلورها سكان هذه المنطقة أو تلك , بالخصوص سكان الأطلس الكبير الذين شكلوا مجال اهتمام ودراسة جاك بيرك , بالرغم من طغيان منظور ما يسميه هو نفسه " بالاستمرارية المغاربية " .
لابد من إدراك القبيلة ضمن صيرورتها التاريخية , وبالتالي فعوض تعريف واحد لها , ستبرز تعاريف ومتغيرات عديدة تستمد مصداقيتها من أهمية السياق التاريخي والانتباه إلى علاقة القبيلة بالدولة و إلى لحظات الصراع حول السلطة , ومدى التصاقها بالوطن المسكون .
ينبغي إذن , حسب جاك بيرك دائما الاهتمام بدراسة " الحالات " في ذاتها وفي أبعادها التاريخية , ومن ثم سيهتم بدراسة المجتمع القروي وبشكل أدق المجتمع الزراعي في علاقته مع الوسط الطبيعي أو ما يسميه بالأساس أو الجوهر الطبيعي . هذا التداخل بين الإنسان و وسطه القروي هو الذي سيحدد في نظره , الشكل المجتمعي Sociétal , لقبيلة معينة " سكساوة " بالنسبة إليه 35 .
بالإضافة إلى المتغيرات السابقة , وضمن إشكال نظري آخر متعلق أساسا بمحاولة قراءة أو إعادة كتابة التاريخ الاجتماعي لشمال إفريقيا , سيركز جاك بيرك على دراسة العلامات وما يمكن أن توفره من إمكانيات في فهم التاريخ الحقيقي لهذه المجتمعات , يقول جاك بيرك : " لقد سعينا فقط إلى التأكيد على الأهمية التفسيرية التي تكتسيها العلامات في فهم جانب من الظواهر الاجتماعية في شمال إفريقيا , لأن هذه المنطقة ظلت باستمرار أرض البحث عن هوية الذات بالاستناد إلى التأويل أو التأكيد أو الخداع , أو بواسطة الاندماج أو الانشطار , ففي حياة الكلمات يكمن قسط من تاريخ و مورفولوجية المجموعات " 36 .
هذه الاعتبارات ستجعله ينظر إلى القبيلة في أبعادها الحقيقية , ومن ثم محاولة مقاربيتها بحذر شديد ليس باعتبارها وحدة مغلقة بل ضمن إطار عام و شامل 37 , ضمن شرط تاريخي محدد , عبره تم تعمير المغرب . " إن تعمير المغرب – يقول جاك بيرك – يبدو لنا كفسيفساء , لكن الحبة به صغيرة و محدودة , و الألوان رغم تعددها فإنها تتجمع تقريبا دائما في نسق واحد هو الأسماء التاريخية الكبرى " 38 . إلا أن هذا لا يعني أننا استطعنا حل ألغازها و دلالاتها . لكن يقول جاك بيرك , أليس التمييز بين خطوطها عملية تحفز عليها أبسط ضرورات المنطق و أبسط متطلبات العقل ؟ هذا ما قام به باحثونا , فقد اعتمد بعضهم على الوهم النسبي الذي ينتشر الأبناء بمقتضاه بعيدا عن الأب ,
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
32- Ibidem , pp . 316 – 317
33- A. Laroui , les origines … , op . cit . , p . 174
34- Georges Nicolas , << la sosiologie rurale au Maroc pendant les derniéres cinquante années .
Evolution des thémes de recherche >> , revue Tiers – monde , T . II ? n° 8 , 1961 , p . 539
35- J. Berque . seksawa . recherches sur les structures sociales du Haut Atlas occidental . Paris . 1954. p . 174s
36 – الأنتربولوجيا والتاريخ م . س , ص . 121
37- J . Berque . l’Intérieur du maghreb , éd . Gallimard , op . cit ., p . 353
38- J . Berque , Maghreb , Histoire et Société , op . cit . , p . 25
بينما اعتمد البعض الآخر على التفسير التاريخي الذي يقوم على الوهم النسبي الذي ينتشر الأبناء بمقتضاه بعيدا عن الأب , بينما اعتمد البعض الآخر على التفسير التاريخي الذي يقوم على تناحر المجموعات , هكذا شرح كل بطريقته الخاصة هذه التكرارية الغريبة التي تعرفها أسماء المجموعات 39 .
إن القبيلة لا تتطور فقط بواسطة التباعد , إن التباعد يشكل فقط إحدى اتجاهاتها الممكنة وهو نتيجة للتقلبات التي فرضها عليها التاريخ . إنها تتطور و بنفس القدر عن طريق التقارب . ومن ثم يمكن إدراكها " كعسلوج " واحد تمتد جذوره من قريب لقريب حتى يشمل مجموع جهات الفق " 40 .
إنها لا تنمو فقط عن طريق الاندماج , بل كذلك عن طريق التجميع . وعندما نقول تجميع فهذا يعني أن ثمة فاعل , ثمة دوافع وعوامل ساهمت في خلق تكتلات و تشتيت أخرى .
هذه العوامل حسب بيرك تكمن في " الانتصارات والهزائم , تنقلات الغزاة أو تيهان الهاربين , الحيوية التي تبعث على الانتشار أو الضعف الذي يقترن بالتشتت , حركات التوسع أو الانكماش التي يعرفها الاقتصاد الفلاحي وعلى الأخص الرعوي , تكاثر أو اختلاط المجموعات " 41 . وبشكل عام التقلبات التي فرضها عليها التاريخ كما أشرنا فوق .
هكذا يخلص جاك بيرك , في الأخير , إلى إظهار طغيان عامل الكسب والمعاش مع ما يترتب عن ذلك من حروب وصراعات , في فهم وتفسير تكتلات بشرية معينة . يقول جاك بيرك : " إذا ما حاولنا , الآن , تجميع المظاهر الأكثر تأثيرا في التنظيم القروي , فإننا سنتبين أنه نتيجة لغلبة الإنسان الاقتصادي Homoeconomicus 42 .
إن الحديث عن تكتل بشري معين من خلال صراعه مع الطبيعة ومع التاريخ , من خلال صراعه مع الحياة , هو ما طبع تصور جاك بيرك للقبيلة . وباعتبار أن هذا الصراع يستدعي الديناميكية والتحرك , فإن ذلك سينعكس لا محالة على مستوى التعريف , مستوى تحديد مفهوم القبيلة . إنها حسب تعبير " بول باسكون " , وبصيغة تلخص جيدا طرح بيرك , عبارة عن جمعية سياسية مبنية على عوامل اقتصادية جغرافية : أي علاقات الإنسان بالأرض , والطاقة البشرية بالثروة البيئية وفضائها في مستوى تكنولوجي معين .
هكذا عوض العثور من خلال مجهود جاك بيرك على تعريف محدد للقبيلة سنجد أنفسنا أمام تساؤلات أخرى جديدة تتعلق أساسا بالعامل المحدد الذي على أساسه نفهم هاته التكتلات البشرية التي ندعوها قبائل , هل هو العامل الاقتصادي , الجغرافي , أم شيئا آخر , ومن ثم الرجوع مرة أخرى , أو بالضرورة , إلى الميدان , إلى المادة الخام , الأساس لكل تنظير حسب بيرك .
II – قبائل الحياينة : التشكل التاريخي
يبدو التساؤل عمن هم الحياينة تساؤلا مشروعا باعتبار أن هذه القبائل تشكل المجال المفضل أو المختار لمقاربة الإشكالية التي تهمنا , إشكالية التحولات الاجتماعية . لكن , في الوقت ذاته , ومنظورا إليه من زاوية أخرى , زاوية ابستمولوجية صرفة , يبدو و كأنه سؤال خاطئ , سؤال طرح بشكل سئ ما دام يقدم نفسه كتساؤل عن الأصل , سؤال حاليا أصبح متجاوزا * , بل وحتى لو ألححنا في طرحه , فإننا لن نصل بالتأكيد إلى نتائج مضبوطة و متفق عليها . وهي مسألة بديهية باعتبار التاريخ الكلي و ربما الخصوصي لتجمعات المغرب وقبائله : تحركات وهجرات متتالية بفعل الحروب , المجاعــات والكوارث الطبيعية , الأوبئة ...الخ .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
39- الأنتربولوجيا و التاريخ , م . س , ص . 116
40- J . Berque , Maghreb … , op . cit , p . 24
41- الأنتربولوجيا و التاريخ , م . س . ص . 114
42- J . Berque , les seksawa , recherches sur les structures sociales du haut –Atlas occidental , op . cit ., p . 367
*في مجال الإبستمولوجيا حاليا , تم الاستغناء عن البحث في الأصل و تعويضه بالبحث عن العلاقة ومن ثم فالسؤال من هم الحياينة يفهم ليس اعتمادا على أصلهم الجنيالوجي بل اعتمادا على علاقاتهم مع المحيط الخارجي : قبائل مجاورة , زاوية , سلطة مركزية ...الخ .
لكن , وبالرغم من هذه الصعوبات التي تبدو في الواقع طبيعية , سنحاول و اعتمادا على الدراسات المتوفرة من جهة و على ما أفرزته الذاكرة الجماعية لرجال أو لسكان المنطقة أن نخرج بتصور عام قد يفيدنا تاريخيا على الأقل في تحديد بعض ملامح ظهور و تطور هذا التجمع القبلي الذي تمثله قبائل الحياينة , بطبيعة الحال من منظور هذه المرجعيات المكتوبة منها والشفوية ** . بل ويمكن أن نتقدم أكثر ونتساءل عن مدى إمكانية وجود أو تصور علاقة أو رابط بين المرجعيتين ؟ ثم ألا يمكن اعتبار المرجعية المكتوبة مجرد طريقة فهم أو تأويل للمرجعية الشفوية / الأسطورة , التي نعتقد أنها المرجعية الأساس , المؤسسة للاجتهادات اللاحقة التي اتخذت صيغة معرفة تاريخية بحكم بنائها وطريقة تناولها لموضوعها 43 .
تاريخ هذه القبائل إذن يتأرجح بين زمنين : زمن أسطوري , ذلك الذي بلوره المخيال الجماعي , وزمن تاريخي ذلك الذي نتلمسه من خلال الكتابة التاريخية قديمها وحديثها . كيف يظهر تاريخ هذه القبائل من خلال هذين الزمنين / المستويين ؟ وقبل ذلك كيف تتحدد بلاد الحياينة جغرافيا ؟
1- بلاد الحياينة : الإطار الجغرافي :
يمثل الحياينة جزءا من مقدمة الريف في الشمال الشرقي لمدينة فاس ما بين نهري سبو وورغة . و " مقدمة جبال الريف ليست سوى جانب أو مظهر جهوي للريف " 44 .
وحدة البلاد هي قبل كل شئ عرقية سلالية : الحياينة عبارة عن كونفدرالية لثلاثة قبائل : اولاد عمران في الشمال , اولاد رياب في الجنوب و اولاد عليان بين القبيلتين السابقتين . " هذه الكونفدرالية تمتد لتكون وحدة إدارية , وتمثل منطقة نفوذ قائد تيسة Tissa , دائرة تاونات , عمالة فاس " 45 .
إن بلاد الحياينة , كوحدة على المستوى العرقي السلالي لا تظهر فريدة على مستوى الجغرافية الطبيعية : إنها لا تختلف بالمرة عن المناطق التي تمتد جهة الغرب والشرق . إن الأمر يتعلق أساسا بجزء شمال – جنوب في مقدمة الريف . " يظهر في هذه المنطقة , المتجانسة بشكل واسع والتي تمثلها مقدمة الريف , أن الوحدات الجهوية تدين أكثر لتوزيع المجموعات البشرية أكثر منها لتقلبات الإطار الطبيعي "46 .
ألا يمكن أن يؤثر هذا التداخل المجالي , هذا التشابه على مستوى الجغرافية الطبيعية على مستوى ما هو اجتماعي وعلى مستوى ما هو ثقافي بشكل عام ( تقاليد , كيفية التعامل مع المجال وطريقة تنظيمه , تعبيرات و رموز ثقافية ... الخ ) ؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب فكيف نفسر ذلك ؟ ألا يمكن أن نجد له تبريرات تاريخية ؟ لنعد إذن إلى التاريخ .
2- بلاد الحياينة : الإطار التاريخي :
أ – الحياينة بين الحكاية والتقليد : سنعتمد في هذا المستوى على روايتين تقدم كل بطريقتها الخاصة تصورا للأصل الحياني :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
** إذا استثنينا المرجعية الثانية التي تمثلها الذاكرة الجماعية لسكان المنطقة حاليا , نلاحظ أن مختلف الإجابات التي قدمت حول هذا السؤال الجنيالوجي للحياينة , اعتمدت اساسا على مقاربة " لازاريف " والمثبتة من خلال دراستين مستقلتين عن المنطقة همتا أساسا تطور بنياتها الزراعية وتنظيم مجالها الزراعي , وهما:
- << Structures agraires et grandes propriétés en pays Hayaina >> , R . G . M n° 9 , 1966 .
- << Répartition de la propriété et organisation villageoise dans le prérif , l’exemple des Hayaina >> , R . G . M n° 8 , 1965 .
43 – على سبيل المثال دراسة عبد الرحمان المودن , البوادي المغربية قبل الإستعمار قبائل إيناون والمخزن بين القرن السادس عشر والتاسع عشر , منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سلسلة : رسائل و أطروحات رقم 25 , 1995 .
44- G.MAURER , << les pays rifains et prérifains >> , Information géographique n° 4 , 1959 , p : 166
45- G.LAZAREV , << structures agraires … >> , op . cit ., p . 23
ملحوظة : منذ 1979 , مع إنشاء عمالة تاونات أصبحت بلاد الحياينة كما يسميها لازاريف مرتبطة إداريا بها ومستقلة عن عمالة فاس .
46- Ibidem , p . 23
-الرواية الأولى : كان لرجل ثلاثة أبناء : رياب وعمران من نفس الأم , وعليان من أم ثانية , عندما توفي الرجل / الأب وزعت ممتلكاته ( أراضيه ) بين أبنائه الثلاثة : عمران انفرد بالجزء الشمالي الممتد حتى نهر ورغة , رياب شمال وادي ايناون , وعليان الأخ من الأب ستخصص له المنطقة الوسطى بين أخويه حتى لا يفكر في ترك الأسرة 47.وهنا نسجل حضور التفكير السلالي وانعكاس هذه العقلية السلالية على مستوى التعامل مع المجال.مع ذلك"فإن الإعتقاد في الإنتماء إلى نفس الجد,سواء كان أسطوريا أو واقعيا, يكون عامل تجانس و وحدة يغني ويدعم أفراد الجماعة " 48 .
- وفي رواية ثانية : نجد أن الحياينة هم أصلا من الحجاز * وأن موطنهم أو بلدهم الحالي كان فيما مضى لصنهاجة الشمش الذين يكونون حاليا جبالة شمال ورغة . نسجل هنا كذلك هذا الإنتقال من تنظيم قبلي إلى آخر , من الحياينة إلى جبالة . ونشير كذلك إلى التنوع الذي يطبع أو يغلف هذه التسمية الأخيرة : جبالة و كذلك الغموض الذي يكتنف هذه التسمية ** .
هاتان الروايتان تسجلان فيما بينهما تناقضا ملحوظا , الأولى يظهر أنها ربطت بشكل ضيق أصل هذه المجموعة السكنية بالمنطقة التي تحتلها . أما الثانية فقد ركزت على قدوم مجموعة من المهاجرين العرب وانغراسهم في بلاد صنهاجة 49 . ومهما كانت الرواية الصحيحة أو الصائبة , فإن الزمن الأسطوري والزمن التاريخي – كما يقول الخطيي – يلتقيان بدون أن يختلطا ... إنهما يتواجدان بدرجات مختلفة في نفس الوعي وبكيفية حميمية تجعل التحليل يضل الطريق أمام مثل هذا التركيب المتلاحم " 50 . " إن التاريخ يندس بين ثنايا الأسطورة , كما أن الأسلاف الذين تتحدث عنهم الأنساب ليسوا علامات مجردة أو شخصيات بدون كثافة تاريخية " 51 .
-وفي الرواية الثالثة : هي في الواقع ليست رواية بل مثلا يدخل في إطار التراث الشعبي للمنطقة – مثل ذو نفحة أسطورية – ومن ثم يمكن أن نؤسس عليه رواية : "الحياينة احياونا واحياو اوليداتنا " 52.
هناك إذن متحدث ومتكلم مجهول . من هو هذا المجهول ؟ هل هو قبيلة بني ومود * التي تحدث عنها الوزان ومارمول في حقبة سابقة خلال القرن 16 ؟ هل هي قبيلة صنهاجة استنادا على الرواية الثانية؟ كيف تمت عملية الإحياء هذه , هل هي إحياء للأرض أم احياء للساكنة ؟ 53.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
47- Ibidem , p . 33
انظر كذلك المودن , مرجع مذكور , ص : 161 خصوصا الطريقة التي قرأ بها هذا التوزيع الذي لا " يبرز حسبه العلاقات القرابية بين الإخوة الثلاثة بل يلح على مستوى شجاعتهم وقدرتهم القتالية : بما أن عليان كان أقلهم شجاعة فقد وضع في الوسط حتى لا يكون على جبهات المواجهة مع المجموعات القبلية الأخرى " .
48- A . Halim , Structures agraires et changement social au maroc , op . cit ., p . 19
*جاء في كراسة وزعتها " جمعية مربي الخيول بتيسة " بمناسبة المهرجان الثاني ( 1981 ) , ص : 17 , رواية تفيد أن أهم أولياء الحياينة , وهو محمد بن الحسن الجناتي , لما توجه إلى الشرق , التقى بشخص يدعى " حيون " , أكرم متواه فدعاه الولي إلى القدوم معه إلى المغرب حيث كانت " الأراضي شاسعة وخصبة تتطلب من يستثمرها " , فجاء حيون مع أبنائه الثلاثة , استوطنوا المنطقة التي ستصبح حاملة لإسمهم : الحياينة نسبة إلى الأب المؤسس : حيون .
** في هذا الإطار يمكن الرجوع إلى أعمال الباحثين المختار الهراس والتمسماني خلوق حول قبائل جبالة شمال المغرب .
49—G.LAZAREV , << Structures agraires … >> , op . cit ., p . 33
50- عبد الكبير الخطيي , " المراتب الإجتماعية بالمغرب قبل الإستعمار " , المجلة المغربية للإقتصاد و الإجتماع , العدد 2 , 1975 , ص . 26
51- عبد الله الحمودي " الإنقسامية والتراتب الإجتماعي والسلطة السياسية والقداسة , ملاحظات حول أطروحة كيلنر " , الأنتربولوجيا والتاريخ ,م.س,ص. 86
52- عبد السلام بنسودة , أمثال فاس , ج 1 , ص 270 , خ . ح . ر 10653
*- للمزيد من التفاصيل انظر في هذا الإطار عبد الرحمان المودن , البوادي المغربية قبل الإستعمار , م . س , ص : 168
53- يذكر الوزان أن هذه القبيلة كانت تحتل المناطق الواطئة من حوض إيناون وقد وصف أنشطتها على الكيفية التالية:"والأراضي الزراعية في كل منحدراتها جيدة.والماشية كثيرة إلا أن الماء قليل".واشار إلى الحرف المزدهرة لدى أهلها ( صنع الصابون ) والى الأرباح التي يجنونها من تجارة منتوجات هذه الحرف من مدينة فاس. / الوزان الفاسي,محمد بن الحسن وصف افريقيا, تعريب محمد حجي ومحمد الأخضر, الجزء1, الرباط 1980-1982,ص: 264
إذا كانت كل الإجابات التي قدمناها هنا تبقى ممكنة , فإن ما يمكن أن نسجله هنا هو طبيعة هذا التعايش أو التساكن بين ساكنة محلية وساكنة أخرى وافدة من جهة أخرى , وهذا " الحوار " الذي تم خلقه بين القبيلة " العربية " والمجتمع الزراعي الصنهاجي paysannerie SANHAJA , على خلاف جهات أخرى في المغرب حيث غالبا ما كان يتم إجلاء مجموعات وتعويضها بأخرى .
هكذا يخلص لازاريف إلى القول إن الحياينة يقدمون مثالا " لتمازج ثقافي ستستمر جذوره رغم ترددات التاريخ السياسي " 54 . هذا وإن كنا غير مقتنعين بهذا الطرح أو هذا الفهم , لأن هناك أسئلة عديدة تفرض نفسها على هذا المستوى مثلا : ما هي طبيعة هذا الحوار الذي يتحدث عنه لازاريف ؟ ما هي حيثياته ؟ كيف انطلق ؟ و من قام بافتتلحه و هل كان حوارا متكافئا ...الخ ؟ .
ب – الحياينة بين الكتابة التاريخية و التأويل : لم يكن من الممكن الحديث عن ظهور قبائل الحياينة ما بين " سبو " و " ورغة " شمال فاس إلا مع ظهور كتاب " وصف افريقيا " للوزن سنة 1550 . لكن الوصف الذي يقدمه يتطابق مع رحلاته أو تواجده بالمغرب ما بين 1510- 1520 .
خلال هذه الفترة , كانت بلاد الحياينة تنتمي لمنطقة أو إقليم الريف , وكانت محتلة من طرف قبائل " صنهاجة " ويظهر أن بني ومود القبيلة التي اختفت تحت هذا الإسم كانت ممتدة شمال " إيناون " , بجوار " بني ورياغل " " بني إيدر " , و" صنهاجة مصباح " على ضفاف نهر ورغة في الشمال .
شرقا كانت محدودة بإقليم الحوز Chaus , بلاد البرابة الزناتيين الذين قدموا من المشرق خلال القرن 12 هـ مع بني مرين مؤسسي الدولة المرينية والذين حلوا محل " صنهاجة "
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق