اتسمت السوسيولوجيا الكولونيالية بميزتين أساسيتان ارتبطتا بها منذ البعثة العلمية حتى مرحلة النقد.الميزة الأولى: العلمية.تلك الميزة الهدف الذي حددنه البعثة لنفسها بعيدا عن المناورات السياسية... وذلك ضمانا للاستمرار،ولم تكن العلمية في بعض الحالات سوى شعار.والميزة الثانية: طبعا هي الاستعمارية.رغم أنهما مميزتان متناقضتان إلا أنهما أساسيتان، رغم كونهما لم يجعلا وضع الباحث الوطني و الوضع السوسيولوجي الكولونيالي مريحا.
ورغم كل ذلك فالطابع الإخباري لهذه السوسيولوجيا وتواضعها النظري قد يعتبر عاملا أساسيا في فهم البنيات الاجتماعية المغربية عبر تلك الأوصاف المونوغرافية والإثنوغرافية الدقيقة.فإذا كانت هناك مجازفات تعميمية وتنميطية بالنسبة للخلدونية ونظرية الأنماط،وإذا طغت الميكروسكوبية على الانقسامية فإن السوسيولوجيا الكولونيالية بتراوحها بين استقراء مونوغرافي وبين تنظير طروحاتي، يمكنها ان تستغل الى أقصى الحدود.
إدموند دوتي:
لم تهتم السوسيولوجيا الكولونيالية بالعالم القروي بقدر ما اهتمت بمفهوم القبيلة وذلك منذ البعثة العلمية،بل وقبلها حتى، مع أعمال إدموند دوتي وذلك قبل سنة 1910 حتى تراوح اهتمام دوتي بين التنظيم الاجتماعي،القبيلة وبنيتها الفوقية،السحر. وقد استطاع ان يضع الأصبع على ما هو أساسي وذلك من مقاربته الوضعية حيث استطاع ان يصف القبيلة المغربية بكونها ليست كالقبيلة الشرقية التي يمكن ان نرمز إليها بالشجرة والأغصان، بل صورة القبيلة المغربية انطلاقا من معايناته الميدانية شبيهة بالشجيرات الصغيرة التي تنموا بعضها جنب بعض.
ومنذ هذه المعاينة الدقيقة بدأ نقذ المقاربة القبلية للمجتمع المغربي الذي عرف استقرارا طويلا على عكس المجتمعات البدوية العربية والتركية،وهو أمر سيكون له شأنه في فهم طبيعة المجتمع المغربي عامة والقروي بشكل خاص.
ميشو بلير
بعد دوتي انتبه ميشو بلير الى وحدة المجتمع المغربي قبائلا ومدنا. حيث ركز على كون الطرفين يخدم بعضاهما بعضا في الأزمات خاصة،ولعل اهم إفادة لميشو بلير هي دراسته الدقيقة لمفهوم الزاوية في المغرب،حيث انتبه لتعدد الوظائف لهذه الأخيرة ولطابعها المزدوج عبر التعدد في الوحدة من خلال سلسلة تنتهي بالشاذلي، تلك السلسلة السنية المنتشرة ليست في المغرب وحده،بل في العالم العربي والاسلامي عامة،وهو بعد أساسي يضاف من اجهل فهم البنيات المغربية.
روبير مونطاني
فمنذ النظام القضائي لقبائل جنوب المغرب حتى البربر والمخزن وحضارة في الصحراء وثورة في المغرب... يمكن ان نتلمس وبوضوح تردد العالم بل وتذبذبه وتأججه بين اهتماماته العلمية ومهامه السياسية،كيف يمكن رجوعه الى حضارة الصحراء وتقاليد البدو العرب بل ومورفولوجيتهم في الشرق الأوسط؟ ان لم يكن الأمر اقتناعا واعترافا ضمنيا بكون المعرفة لن تتم بصدد المغرب إلا عبر الشرق؟
تعتبر نظرية اللف عند روبير مونطاني أهم إسهام له، يتكون اللف في الأطلس الكبير من القرية الصغيرة المكونة من 20 الى 30أسرة أو كانونا،وعدة قرى صغيرة تكون قرية كبيرة تسمى الموضع ويتميز بتوفره على مخزن للحبوب ومسجد وبوجود جماعة القرية المتألفة من الرجال القادرين على حمل السلاح وتتداول حول بعض الشؤون كالمساعدة على تقسيم التكاليف لكنها بدون دور سياسي،ومن 3 الى 5 مواضيع تكون تقبيلت وتستمد شخصيتها من الوحدة الجغرافية وتتكون جماعتها من أبناء الأسر الأصيلة وأهلها يدعون نسبا مشتركا وهميا،ومن 3 الى 12 تقبيلت تكون القبيلة وهي لا تتوفر على مؤسسة سياسية دقيقة المعالم ولا تظهر وحدتها إلا عندما تكون مهددة من الخارج،وتدخل بعض القبائل في اتحاديات أكبر إذا ما توفرت بعض المصالح والحوافز او الأخطار.
يؤكد مونطاني على ان الوحدة السياسية الاجتماعية الأساسية هي تقبيلت التي هي أكبر من الموضع وأصغر من القبيلة وهي أصمد أمام التفكك،وتنتمي الى أحد الحلفين الكبيرين الذين يقتسمان الأطلس من اجل التكافؤ فيأتي المجموع على هيئة خانات رقعة الشطرنج،ودور تلك الأحلاف هو تعديل لانطواء الذي كانت تعيش فيه الوحدات وحفظ التوازن،ولا ينسى مونطاني ان يضيف تواجد أحلاف صغرى إمقون.
جاك بيرك:
نظرا للظرف الذي ظهر فيه، فقد اتخذت أعماله طابعا علميا، إلا ان سيرته العلمية هي أيضا منذ البنيات الاجتماعية للأطلس الكبير حتى المغرب العربي،تاريخ ومجتمع حتى العرب بين الأمس واليوم...ثم اهتماماته مؤخرا بالعام الإسلامي.من المغرب الى المغرب العربي الى العرب الى العالم الإسلامي.إن هذه السيرة لتجعلنا نتأمل قدر السوسيولوجيا الكولونيالية التي عملت على فصل البنيات الاجتماعية المغربية التقليدية ووصفها بالتقوقع والتفكك واللامركزية عبر مفهوم اللف عند مونطاني والأخس عند بريك،وقبلهما ركز ميشو بلير على مفهوم القبيلة،الزاوية،الدولة،لكن الوقائع فرضت الوصل.
بعد 20 سنة من روبير مونطاني خرج جاك بيرك من دراسته المجهرية العميقة لسكساوة الى ان الوحدة الاجتماعية ليست من النوع الترابي بل من النوع السلالي وان الخلية الأساسية هي الإخس أو العضم أي الأسرة الأبيسية الذكورية المجتمعية حول رئيس عائلة ينتهي أعضائها لجد مشترك،ولهذه الخلية مساكنها المشتركة وحقولها وقطيعتها،وعلى حسب الإخسان يتعين توزيع الأرض والماء، ومن ثم فهي قاعدة النظام الزراعي وإطار الحياة اليومية، أما الحياة السياسية فهي تجري في إطار تقبليت وإن تحمل اسم جد مشترك وتعتبر نفسها اجتماع الحاضرين من أصل واحد فهي في الواقع تركيب من قادمين من مختلف الآفاق ولكن دون ان تمس الوحدة المعنوية لتاقبيلت، تاقبيلت دولة مصغرة،ويمكن لتقبيلن ان تنتمي الى لف واحد إلا واحدة الأمر الذي جعل بيرك يرفض صورة ر قعة الشطرنج.
سوسيولوجيا بول باسكول :
تعتبر أعمال بول باسكول كلها بحثا متكامل في المجتمع المغربي برمته وبعالمه القروي بالخصوص، كما ان عمله لم يتخذ منحى واحدا، فبقدر ما اهتم بالبحث المونوغرافي اهتم أيضا بالأبعاد البيداغوجية الابستيمولوجية للسوسيولوجيا المغربية إن صح التعبير،وبذلك يمكن ان نعتبره المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع القروي المغربي،وبقدر ما حاول بول باسكول ان يقطع مع الإرث الكولونيالي كان حريصا على ألا يرمي الرضيع مع الغسيل ومن ثمة استغلاله للمكاسب العلمية الكولونيالية من اجل فهم المجتمع المغربي.
إن علم الاجتماع القروي عند باسكول هو المحاولة على جعل الموضوع القروي قابلا للقراءة والفهم والتحليل والتأويل إن على مستوى الميداني بالمقابلة أو الاستمارة أو على مستوى وصف وفهم وتحليل الوثائق،وذلك من أجل ضبط كل المناحي الاجتماعية ومعاشا وتقنيا وإنتاجا ماديا أو رمزيا،ان السوسيولوجيا القروية عند باسكول ليست وسيلة معرفية فحسب بل وسيلة نضال من أجل الخروج من مأزق التخلف نحو التنمية ورفاه القرويين...
خصائص العالم القروي
تعتبر الخصائص التي سنشير إليها هنا منهجية ونسبية تصعد مصداقيتها تارة وتنزل تارة أخرى حسب الحالات والسياقات والمقاربات.
الاكتفاء الذاتي النسبي:
تعتبر القرية من الزاوية المنهجية عالما مغلقا سواء من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية، وهو ملمح أساسي إذا نظر إليه كمجتمع محلي ومن ثمة تكون العلاقات الاجتماعية علاقات شخصية بين أشخاص يتعارفون فيما بينهم وربما يملكون قرابة واحدة،وهي علاقات غير وظيفية مبنية على قيم الانسجام والاندماج والمحافظة والاستقرار، وإذا كان هناك تغير فهو بطيء وغالبا ما ينظر إليه على أنه خلل مس المنظومة القاعدية.
أما الفرد فيكاد يغيب في مثل هذه المجتمعات،إذ هو غير مطلوب منه أن يتكيف مع ظروف جديدة، كما انه غير مطلوب منه ان يتخذ قرارات أو أن يدلي برأيه حتى، وهو في آخر المطاف ليس سوى الصورة التي كونها الناس حوله مجتهدا ان لا يخون انتظاراتهم والتي يحاول هو نفسه باستمرار أن يكون أمينا لان الجماعة لا تشجع على التعبير على العواطف والآراء الشخصية.
نحن إذا أما م مجتمع جد منظم مسبقا وذلك بشكل لا يترك الفرصة للمفاجئات،فجميع الإمكانات والاحتمالات مبرمجة مسبقا، لكن وكما قلنا سابقا فهذه الخاصية ليست سوى نموذج منهجيا لا يلغي الفروقات التي نجدها بين مجتمع وآخر ، تلك الفروقات التي تبين أهمية بعض الأشخاص،رجال الدين والزعماء والمقاتلون، أو أهمية بعض الفترات على أخرى،مثل الفترات الانتقالية سياسية أو الأزمات أو الجفاف أو الهجرة والغزو..
ولعل الفائدة الابستيمولوجية التي يمكن ان نشير إليها في هذا الصدد هي إمكانية استغلال الباحث للركود النسبي للمجتمعات الزراعية لفهم المتحول،فهي مختبر جيد يمكن ان نجرب فيه ما هو بنيات جديدة وما هو بينات قديمة.
التنظيم الاجتماعي:
ينتظم المجتمع القروي أساسا على معيار يعتبره طبيعيا وهو الدم،غير أن الفحص الدقيق لهذا المعيار يبرز كونه محددا ثقافيا رمزيا تعطى له الصبغة الطبيعية من أجل رفع مستواه إلى أعلى نحو القداسة وبذلك اتخاذه صبغة الإلزام هو وكل ما يرتبط به من ولاءات وأعراف ومواثيق وأحلاف وعهود.
إن أبسط تنظيم اجتماعي قروي هو الأسرة الخلية الأساسية التي من خلالها يتزوج رجل امرأة فيلدان أولاد لتتشكل العصبة الدموية الحقيقية التي تلقي بظلالها على الأشكال التنظيمية الأخرى استعارة منذ العائلة التي تنفتح على ما ليس دمويا بالدم لتصبح كذلك بالولاء مثل العبيد والخدم والمحميين.
وإذا كانت الأسرة تشكل الوحدة الأساسية للمجتمع برمته، وإذا كانت العائلة تشكل الوحدة الرمزية ودلالة الرحم فإن الفخذ او الإخس أهم تنظيم عضوي في المجتمع القروي، إذ هو أعلى من العائلة التي ليس بمستطاعها الحماية والضمان والنيابة سواء عن الأسرة أم الفرد، كما ان الفخذ أقل من القبيلة التي تقابل القبيلة الأخرى ومن ثمة ميوعتها وعدم عضويتها إلا في الشؤون المعاشية والسياسية الكبرى مثل المراعي وحق الماء والأرض والحرب الذي قد يتجاوزها نحو اللف أو الحلف الذي يعتبر تنظيما سياسيا حزبيا بامتياز.
الإخس إذا هو المنظم للحياة اليومية ومعاملاتها العرفية ومنه يؤخذ أيت عشيرة على عكس أيت ربعين المأخذين من القبيلة، وإذا كان هؤلاء يضمنون الاوفاق السياسية والحربية والجرائم الكبرى مثل القتل فإن أيت عشرة مرتبطون بأعراف اليومي من بيع وشراء وإرث وقسمة ونزاعات المنقول والجنح.
إن المجتمع القروي مجتمع الإخس بامتياز ومن ثمة أهمية فهم هذا التنظيم الذي كانت تؤخذ منه الجماعات المنظمة لوتيرة الحياة اليومية في القرى والذي أصبح يلعب دورا حاسما في الانتخابات والتدبير المحلي،شؤون الجماعات المحلية وأراضي الجموع وغيرها.
العقلية القروية:
يعتبر القروي محافظا بطبعه ميالا الى تضخم الإدراكات والتصورات والانفعالات والعواطف،متشدد بتشبثه بالقيم الأخلاقية مثل الصدق والأمانة والتكافل والتضامن وربما ورث بعض قيم الفروسية القديمة من الشجاعة والإقدام والإيثار والزهد، وهي كلها قيم إيجابية وشريفة بالمنظور المثالي الذي يعطي لسلوكه لا واقعية ملفتة، فهو ضعيف المفاوضة والحجاج قليل الإقناع والتكييف، الأمر الذي يهب للشخصية القروية تيبسا وفقرا في المرونة، يريد كل شيء أو لا شيء، يتشبث بالرأي الذي ألفه ولا يعمل على تمحيص الرأي او يتنازل بجانب منه من اجل ربح ممكن، وبذلك يتخذ قراراته أحيانا دون حجاج.عندما ينتزع من محيطه يفقد توازنه لان البرمجة الاجتماعية القروية البسيطة المبنية على معاير أولية مثل،انتماء/عدم الانتماء، جنس، رجل/امرأة. إثنية، من الإثنية/غريب عنها، غني/فقير، من القرية/غريب، من المالكين/من المعدمين. هذه البرمجة التي تسهل الحياة القروية بشكل شبه تام تصبح معرقلة للقروي عندما يخرج من قريته إلى أخرى او بشكل أكبر عندما يهاجر الى المدينة التي يختل فيها التوازن لان العلاقات الاجتماعية تصبح أكثر تعقيد وغنى والإمكانات أكثر انفراجا.
ولا يمكن فهم الإنسان القروي دون الالتفاف لعقيدته الدينية والسحرية والعرفية،ذلك الثلاثي الملقي بظلاله على معاير فهمه وبنائه للعالم انطلاقا من الأعراف الدقيقة والضابطة للعقل الاجتماعي، تلك الأعراف التي وإن كانت دنيوية ومؤسسة بشكل جد بارز فهي مغفلة بطقوس تحفظها الذاكرة لتمرر للأجيال عملا على التجانس والمحافظة.
ورغم كل ذلك فالطابع الإخباري لهذه السوسيولوجيا وتواضعها النظري قد يعتبر عاملا أساسيا في فهم البنيات الاجتماعية المغربية عبر تلك الأوصاف المونوغرافية والإثنوغرافية الدقيقة.فإذا كانت هناك مجازفات تعميمية وتنميطية بالنسبة للخلدونية ونظرية الأنماط،وإذا طغت الميكروسكوبية على الانقسامية فإن السوسيولوجيا الكولونيالية بتراوحها بين استقراء مونوغرافي وبين تنظير طروحاتي، يمكنها ان تستغل الى أقصى الحدود.
إدموند دوتي:
لم تهتم السوسيولوجيا الكولونيالية بالعالم القروي بقدر ما اهتمت بمفهوم القبيلة وذلك منذ البعثة العلمية،بل وقبلها حتى، مع أعمال إدموند دوتي وذلك قبل سنة 1910 حتى تراوح اهتمام دوتي بين التنظيم الاجتماعي،القبيلة وبنيتها الفوقية،السحر. وقد استطاع ان يضع الأصبع على ما هو أساسي وذلك من مقاربته الوضعية حيث استطاع ان يصف القبيلة المغربية بكونها ليست كالقبيلة الشرقية التي يمكن ان نرمز إليها بالشجرة والأغصان، بل صورة القبيلة المغربية انطلاقا من معايناته الميدانية شبيهة بالشجيرات الصغيرة التي تنموا بعضها جنب بعض.
ومنذ هذه المعاينة الدقيقة بدأ نقذ المقاربة القبلية للمجتمع المغربي الذي عرف استقرارا طويلا على عكس المجتمعات البدوية العربية والتركية،وهو أمر سيكون له شأنه في فهم طبيعة المجتمع المغربي عامة والقروي بشكل خاص.
ميشو بلير
بعد دوتي انتبه ميشو بلير الى وحدة المجتمع المغربي قبائلا ومدنا. حيث ركز على كون الطرفين يخدم بعضاهما بعضا في الأزمات خاصة،ولعل اهم إفادة لميشو بلير هي دراسته الدقيقة لمفهوم الزاوية في المغرب،حيث انتبه لتعدد الوظائف لهذه الأخيرة ولطابعها المزدوج عبر التعدد في الوحدة من خلال سلسلة تنتهي بالشاذلي، تلك السلسلة السنية المنتشرة ليست في المغرب وحده،بل في العالم العربي والاسلامي عامة،وهو بعد أساسي يضاف من اجهل فهم البنيات المغربية.
روبير مونطاني
فمنذ النظام القضائي لقبائل جنوب المغرب حتى البربر والمخزن وحضارة في الصحراء وثورة في المغرب... يمكن ان نتلمس وبوضوح تردد العالم بل وتذبذبه وتأججه بين اهتماماته العلمية ومهامه السياسية،كيف يمكن رجوعه الى حضارة الصحراء وتقاليد البدو العرب بل ومورفولوجيتهم في الشرق الأوسط؟ ان لم يكن الأمر اقتناعا واعترافا ضمنيا بكون المعرفة لن تتم بصدد المغرب إلا عبر الشرق؟
تعتبر نظرية اللف عند روبير مونطاني أهم إسهام له، يتكون اللف في الأطلس الكبير من القرية الصغيرة المكونة من 20 الى 30أسرة أو كانونا،وعدة قرى صغيرة تكون قرية كبيرة تسمى الموضع ويتميز بتوفره على مخزن للحبوب ومسجد وبوجود جماعة القرية المتألفة من الرجال القادرين على حمل السلاح وتتداول حول بعض الشؤون كالمساعدة على تقسيم التكاليف لكنها بدون دور سياسي،ومن 3 الى 5 مواضيع تكون تقبيلت وتستمد شخصيتها من الوحدة الجغرافية وتتكون جماعتها من أبناء الأسر الأصيلة وأهلها يدعون نسبا مشتركا وهميا،ومن 3 الى 12 تقبيلت تكون القبيلة وهي لا تتوفر على مؤسسة سياسية دقيقة المعالم ولا تظهر وحدتها إلا عندما تكون مهددة من الخارج،وتدخل بعض القبائل في اتحاديات أكبر إذا ما توفرت بعض المصالح والحوافز او الأخطار.
يؤكد مونطاني على ان الوحدة السياسية الاجتماعية الأساسية هي تقبيلت التي هي أكبر من الموضع وأصغر من القبيلة وهي أصمد أمام التفكك،وتنتمي الى أحد الحلفين الكبيرين الذين يقتسمان الأطلس من اجل التكافؤ فيأتي المجموع على هيئة خانات رقعة الشطرنج،ودور تلك الأحلاف هو تعديل لانطواء الذي كانت تعيش فيه الوحدات وحفظ التوازن،ولا ينسى مونطاني ان يضيف تواجد أحلاف صغرى إمقون.
جاك بيرك:
نظرا للظرف الذي ظهر فيه، فقد اتخذت أعماله طابعا علميا، إلا ان سيرته العلمية هي أيضا منذ البنيات الاجتماعية للأطلس الكبير حتى المغرب العربي،تاريخ ومجتمع حتى العرب بين الأمس واليوم...ثم اهتماماته مؤخرا بالعام الإسلامي.من المغرب الى المغرب العربي الى العرب الى العالم الإسلامي.إن هذه السيرة لتجعلنا نتأمل قدر السوسيولوجيا الكولونيالية التي عملت على فصل البنيات الاجتماعية المغربية التقليدية ووصفها بالتقوقع والتفكك واللامركزية عبر مفهوم اللف عند مونطاني والأخس عند بريك،وقبلهما ركز ميشو بلير على مفهوم القبيلة،الزاوية،الدولة،لكن الوقائع فرضت الوصل.
بعد 20 سنة من روبير مونطاني خرج جاك بيرك من دراسته المجهرية العميقة لسكساوة الى ان الوحدة الاجتماعية ليست من النوع الترابي بل من النوع السلالي وان الخلية الأساسية هي الإخس أو العضم أي الأسرة الأبيسية الذكورية المجتمعية حول رئيس عائلة ينتهي أعضائها لجد مشترك،ولهذه الخلية مساكنها المشتركة وحقولها وقطيعتها،وعلى حسب الإخسان يتعين توزيع الأرض والماء، ومن ثم فهي قاعدة النظام الزراعي وإطار الحياة اليومية، أما الحياة السياسية فهي تجري في إطار تقبليت وإن تحمل اسم جد مشترك وتعتبر نفسها اجتماع الحاضرين من أصل واحد فهي في الواقع تركيب من قادمين من مختلف الآفاق ولكن دون ان تمس الوحدة المعنوية لتاقبيلت، تاقبيلت دولة مصغرة،ويمكن لتقبيلن ان تنتمي الى لف واحد إلا واحدة الأمر الذي جعل بيرك يرفض صورة ر قعة الشطرنج.
سوسيولوجيا بول باسكول :
تعتبر أعمال بول باسكول كلها بحثا متكامل في المجتمع المغربي برمته وبعالمه القروي بالخصوص، كما ان عمله لم يتخذ منحى واحدا، فبقدر ما اهتم بالبحث المونوغرافي اهتم أيضا بالأبعاد البيداغوجية الابستيمولوجية للسوسيولوجيا المغربية إن صح التعبير،وبذلك يمكن ان نعتبره المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع القروي المغربي،وبقدر ما حاول بول باسكول ان يقطع مع الإرث الكولونيالي كان حريصا على ألا يرمي الرضيع مع الغسيل ومن ثمة استغلاله للمكاسب العلمية الكولونيالية من اجل فهم المجتمع المغربي.
إن علم الاجتماع القروي عند باسكول هو المحاولة على جعل الموضوع القروي قابلا للقراءة والفهم والتحليل والتأويل إن على مستوى الميداني بالمقابلة أو الاستمارة أو على مستوى وصف وفهم وتحليل الوثائق،وذلك من أجل ضبط كل المناحي الاجتماعية ومعاشا وتقنيا وإنتاجا ماديا أو رمزيا،ان السوسيولوجيا القروية عند باسكول ليست وسيلة معرفية فحسب بل وسيلة نضال من أجل الخروج من مأزق التخلف نحو التنمية ورفاه القرويين...
خصائص العالم القروي
تعتبر الخصائص التي سنشير إليها هنا منهجية ونسبية تصعد مصداقيتها تارة وتنزل تارة أخرى حسب الحالات والسياقات والمقاربات.
الاكتفاء الذاتي النسبي:
تعتبر القرية من الزاوية المنهجية عالما مغلقا سواء من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية، وهو ملمح أساسي إذا نظر إليه كمجتمع محلي ومن ثمة تكون العلاقات الاجتماعية علاقات شخصية بين أشخاص يتعارفون فيما بينهم وربما يملكون قرابة واحدة،وهي علاقات غير وظيفية مبنية على قيم الانسجام والاندماج والمحافظة والاستقرار، وإذا كان هناك تغير فهو بطيء وغالبا ما ينظر إليه على أنه خلل مس المنظومة القاعدية.
أما الفرد فيكاد يغيب في مثل هذه المجتمعات،إذ هو غير مطلوب منه أن يتكيف مع ظروف جديدة، كما انه غير مطلوب منه ان يتخذ قرارات أو أن يدلي برأيه حتى، وهو في آخر المطاف ليس سوى الصورة التي كونها الناس حوله مجتهدا ان لا يخون انتظاراتهم والتي يحاول هو نفسه باستمرار أن يكون أمينا لان الجماعة لا تشجع على التعبير على العواطف والآراء الشخصية.
نحن إذا أما م مجتمع جد منظم مسبقا وذلك بشكل لا يترك الفرصة للمفاجئات،فجميع الإمكانات والاحتمالات مبرمجة مسبقا، لكن وكما قلنا سابقا فهذه الخاصية ليست سوى نموذج منهجيا لا يلغي الفروقات التي نجدها بين مجتمع وآخر ، تلك الفروقات التي تبين أهمية بعض الأشخاص،رجال الدين والزعماء والمقاتلون، أو أهمية بعض الفترات على أخرى،مثل الفترات الانتقالية سياسية أو الأزمات أو الجفاف أو الهجرة والغزو..
ولعل الفائدة الابستيمولوجية التي يمكن ان نشير إليها في هذا الصدد هي إمكانية استغلال الباحث للركود النسبي للمجتمعات الزراعية لفهم المتحول،فهي مختبر جيد يمكن ان نجرب فيه ما هو بنيات جديدة وما هو بينات قديمة.
التنظيم الاجتماعي:
ينتظم المجتمع القروي أساسا على معيار يعتبره طبيعيا وهو الدم،غير أن الفحص الدقيق لهذا المعيار يبرز كونه محددا ثقافيا رمزيا تعطى له الصبغة الطبيعية من أجل رفع مستواه إلى أعلى نحو القداسة وبذلك اتخاذه صبغة الإلزام هو وكل ما يرتبط به من ولاءات وأعراف ومواثيق وأحلاف وعهود.
إن أبسط تنظيم اجتماعي قروي هو الأسرة الخلية الأساسية التي من خلالها يتزوج رجل امرأة فيلدان أولاد لتتشكل العصبة الدموية الحقيقية التي تلقي بظلالها على الأشكال التنظيمية الأخرى استعارة منذ العائلة التي تنفتح على ما ليس دمويا بالدم لتصبح كذلك بالولاء مثل العبيد والخدم والمحميين.
وإذا كانت الأسرة تشكل الوحدة الأساسية للمجتمع برمته، وإذا كانت العائلة تشكل الوحدة الرمزية ودلالة الرحم فإن الفخذ او الإخس أهم تنظيم عضوي في المجتمع القروي، إذ هو أعلى من العائلة التي ليس بمستطاعها الحماية والضمان والنيابة سواء عن الأسرة أم الفرد، كما ان الفخذ أقل من القبيلة التي تقابل القبيلة الأخرى ومن ثمة ميوعتها وعدم عضويتها إلا في الشؤون المعاشية والسياسية الكبرى مثل المراعي وحق الماء والأرض والحرب الذي قد يتجاوزها نحو اللف أو الحلف الذي يعتبر تنظيما سياسيا حزبيا بامتياز.
الإخس إذا هو المنظم للحياة اليومية ومعاملاتها العرفية ومنه يؤخذ أيت عشيرة على عكس أيت ربعين المأخذين من القبيلة، وإذا كان هؤلاء يضمنون الاوفاق السياسية والحربية والجرائم الكبرى مثل القتل فإن أيت عشرة مرتبطون بأعراف اليومي من بيع وشراء وإرث وقسمة ونزاعات المنقول والجنح.
إن المجتمع القروي مجتمع الإخس بامتياز ومن ثمة أهمية فهم هذا التنظيم الذي كانت تؤخذ منه الجماعات المنظمة لوتيرة الحياة اليومية في القرى والذي أصبح يلعب دورا حاسما في الانتخابات والتدبير المحلي،شؤون الجماعات المحلية وأراضي الجموع وغيرها.
العقلية القروية:
يعتبر القروي محافظا بطبعه ميالا الى تضخم الإدراكات والتصورات والانفعالات والعواطف،متشدد بتشبثه بالقيم الأخلاقية مثل الصدق والأمانة والتكافل والتضامن وربما ورث بعض قيم الفروسية القديمة من الشجاعة والإقدام والإيثار والزهد، وهي كلها قيم إيجابية وشريفة بالمنظور المثالي الذي يعطي لسلوكه لا واقعية ملفتة، فهو ضعيف المفاوضة والحجاج قليل الإقناع والتكييف، الأمر الذي يهب للشخصية القروية تيبسا وفقرا في المرونة، يريد كل شيء أو لا شيء، يتشبث بالرأي الذي ألفه ولا يعمل على تمحيص الرأي او يتنازل بجانب منه من اجل ربح ممكن، وبذلك يتخذ قراراته أحيانا دون حجاج.عندما ينتزع من محيطه يفقد توازنه لان البرمجة الاجتماعية القروية البسيطة المبنية على معاير أولية مثل،انتماء/عدم الانتماء، جنس، رجل/امرأة. إثنية، من الإثنية/غريب عنها، غني/فقير، من القرية/غريب، من المالكين/من المعدمين. هذه البرمجة التي تسهل الحياة القروية بشكل شبه تام تصبح معرقلة للقروي عندما يخرج من قريته إلى أخرى او بشكل أكبر عندما يهاجر الى المدينة التي يختل فيها التوازن لان العلاقات الاجتماعية تصبح أكثر تعقيد وغنى والإمكانات أكثر انفراجا.
ولا يمكن فهم الإنسان القروي دون الالتفاف لعقيدته الدينية والسحرية والعرفية،ذلك الثلاثي الملقي بظلاله على معاير فهمه وبنائه للعالم انطلاقا من الأعراف الدقيقة والضابطة للعقل الاجتماعي، تلك الأعراف التي وإن كانت دنيوية ومؤسسة بشكل جد بارز فهي مغفلة بطقوس تحفظها الذاكرة لتمرر للأجيال عملا على التجانس والمحافظة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق