السبت، 3 نوفمبر 2012

المؤسسات الاجتماعية

المؤسسات الاجتماعية
 الاجتماع البشري مع تبعثر أفراده له تنسيق، وكل يعمل في ذلك التنسيق.
1 ـ لأجل أن البشر خلق هكذا، فهو يحب العمل في ضمن المجموعة.
2 ـ ولأجل أن التقدم وقضاء الحوائج، إنما يكون بالعمل التنسيقي، وهذا التنسيق يتحقق حتى مع تعارض أفراده بعضهم مع بعض، وكذلك في داخل الاجتماع، تعمل المؤسسات بتنسيق، أي أن كل مؤسسة تكون مع المؤسسة الأخرى في تنسيق.
فمثلاً: المؤسسة الاقتصادية تقوم بتوفير الجهات الاقتصادية لمؤسسة تربوية، والثانية تقوم بتوفير الجهات التربوية للأولى، وهكذا.
وهذا التنسيق، سواء كان بين أفراد الاجتماع، أو بين المؤسسات أو بين الأفراد والمؤسسات، يسمى بـ[ـالنظم] وبـ[ـالنظام] وهذا النظم هو روح الاجتماع، بلى يمكن أن يقال بالتساوي بين الأمرين، فالنظام يساوي الاجتماع وبالعكس.
والفرق بين النظم والنظام، أن الثاني وليد الأول، وإن كان ربما يطلق كل واحد منهما مكان الآخر… وكما أن الإنسان له [فكرة] و [قول] و [سيرة] و [عمل] وأن الثالث عبارة عن كيفية امتداد حياته والرابع عبارة عن فعله وإنتاجه، كذلك المؤسسة لها تلك الأمور الأربعة، إذ المؤسسة تنطوي على فكرة خاصة، كالفكرة التثقيفية، ثم الدعاية والإعلان، ثم منهجها في حياة نفسها، ثم إنتاجها وعملها.
ومن الواضح أن تغيير فكرة المؤسسة يؤثر في الثلاثة الأخر فإذا كانت مؤسسة اقتصادية نقدية، ثم نظمت نفسها لتكون مؤسسة اقتصادية تجارية، تغيرت كل أساليبها الثلاث الأخر.
المؤسسة والأعراف الاجتماعية  
والمؤسسة تبقى حية مادامت تعمل، فإذا تركت العمل ماتت وتلاشت.
والمؤسسة حالها حال الفرد في أنه قد يكون يعمل طبق الموازين العرفية وفي هذا الحال تدوم المؤسسة، أما إذا عملت المؤسسة على خلاف العرف السائد ـ كأن تعمل مؤسسة اقتصادية في البلاد الرأسمالية على طبق الموازين الاشتراكية ـ فإنها تعد منحرفة، فإن دامت في الانحراف، فإما أن يغلقها الاجتماع بمختلف الوسائل والسبل ـ والتي أخيرها القوة ـ وإما أن تتمكن من إثبات نفسها بسبب ما لها من مقومات اجتماعية… وإذا بقيت غيرت من الاجتماع بعض الشيء على لون نفسها.
وذلك لأن الاجتماع لا يتحمل وجود المخالف، فرداً أو مؤسسة أو جماعة، فهو يغير المنحرف [أولاً] بالنصح والإرشاد [وثانياً] بالاستهزاء والهمز وما أشبه [وثالثاً] بالتفرق من حوله حتى يذوى تلقائياً، [وأخيراً] بالقوة، مثل سجن المنحرف أو قتله، وغلق المؤسسة المنحرفة وهكذا، نعم إذا تمكن المنحرف عن الاجتماع، أو المؤسسة كذلك إثبات صحة طريقته مما أقنع الاجتماع بذلك جلب الاجتماع إلى نفسه، وكذا نرى تقلب الاجتماع بسبب المصلحين، كما نرى تقلبهم بسبب من يلبس ثوب الإصلاح، وإن كان كلاهما رمياً ـ أول عملهما ـ بالانحراف.
بين المؤسسة والمؤسسات الأخرى  
وكما تعمل المؤسسات في المجتمع معاً كذلك تعمل أجزاء المؤسسة الواحدة معاً، حالهما حال أجزاء بدن الإنسان، وعملهما على ثلاثة أقسام:
1 ـ العمل في زمان واحد بدون رتبة مثل أن تعمل مؤسسة اقتصادية إلى جنب عمل مؤسسة سياسية.
2 ـ العمل في زمان واحد مع الرتبة كأن تعمل مؤسسة الحلج في رتبة متقدمة على عمل مؤسسة النسج، وإن كانتا تعملان في زمان واحد.
3 ـ العمل في زمانين كعمل مؤسسة حصد القصب قبل عمل مؤسسة صنع السكر.
ومثالها في البدن عمل العين والأذن معاً، وعمل القلب قبل عمل الشرايين ـ رتبة ـ وعمل الجفن قبل عمل العين بالنظر، وإذا كان العمل رتيباً يلزم ملاحظة التنسيق، لا أن يعمل أحدهما أكثر، فإن ذلك يوجب فوضى في عملهما فإذا عمل المتقدم أكثر، لم يطق المتأخر الاستيعاب، وإذا عمل المؤخر أكثر لزم توقفه عند عدم وصول الوقود اللازم إليه.
والمؤسسات على قسمين: قسم يحتوي على عدة أفراد لهم عمل واحد وقسم يحتوي على عدة مؤسسات صغيرة، إما تعمل كل في اتجاه واحد عام أو في عدة اتجاهات مثلاً: مؤسسة الخياطة تعمل فروعها في أمور شتى، مثل القص، والخياطة والكي وما أشبه، والإطار العام للكل واحد، بينما مؤسسة تربوية كبيرة، يعمل فرع منها في المدارس، وفرع في التمثيليات، وفرع في الطباعة، وهكذا.
مهمات المؤسسة  
واللازم في المؤسسة ملاحظة أمرين:
1 ـ التنسيق في العمل والنمو والضمور.
2 ـ ملأ الفراغ بالقدر الممكن، فإذا كانت مؤسسة سياسية لها فروع التربية السياسية، والدعاية، وتكثير الأفراد، وجمع المال، كان اللازم أن يحصل فرع المال على مقدار من المال يكفي للفروع المذكورة، كما أن على فرع التربية أن يربي بقدر الأفراد المنخرطين في فروع المؤسسة، وهكذا… فإذا ضمر المال مثلاً: قللوا من الكل، وإذا نمى المال أنموا من الكل، وكذلك الحال في سائر الفروع.
أما بالنسبة إلى ملأ الفراغ: فإن المؤسسات لها إمكانيات تختلف سعة وضيقاً حسب قوة وضعف المؤسسة، والغالب أن المؤسسة لا تملأ فراغاتها، ولا تستغل قدراتها، وبذلك تهدر الطاقات، بما لو استغلت أتت بثمار طيبة… مثلاً: إذا كانت المؤسسة تربوية ولها عشرة أعضاء كان لأولئك مقدار عشرة في المائة من الوجاهة لجمع المال، ولجذب الشباب، لكنهم يصرفون خمسة في المائة من تلك الوجاهة، فتبقى الخمسة الباقية معطلة وهكذا.
والقدرة على ملأ الفراغ غير أعمال تلك القدرة، فاللازم على المؤسسة وضع المنهاج الكامل لاستنفاذ تلك القدرات: وملأ فراغ تلك الطاقات وبذلك تكون المؤسسة آخذة في التقدم والصعود.
ومن المعلوم أن قدرة المؤسسة ليست بقدر قدرة أفرادها ـ فرداً فرداً ـ بل تتضاعف القدرة، أضعاف قدرة كل فرد فرد، فإذا كانت قدرة عشرة أفراد مبعثرين بقدر تربية مائة فرد ـ كل فرد يربي عــشرة ـ كانت قــدرة العشرة المجتمعة بقـــدر تربية خمسمائة فرد ـ مثلاً ـ ينظرون في عشرة صفوف، ويتبادل أفراد المؤسسة في الصفوف المذكورة، حسب المنهاج المدرسي المنظم، وبذلك تكون النتيجة خمسة أضعاف نتيجة الأفراد المبعثرين.
ثم اللازم على القائمين بالمؤسسة، أن يلاحظوا أن لا يتجاوزهم الزمان، فإذا تجاوزهم الزمان يلزم عليهم، أن يلائموا مؤسستهم مع الزمان، وإلا كان صرفاً للطاقات البشرية والمادية في غير مورد… حتى إذا كان الزمان مر بمقدار واحد في المائة، يلزم اللحوق بالزمان وإلا كان هدراً بمقدار ذلك الواحد مثلاً: مؤسسة للمواصلات بين بلدين تستعمل سيارات كبيرة، ثم تغير الزمان وأخذت السيارات الصغيرة تستعمل هناك، فإن بقاء المؤسسة على حالتها السابقة لا ينتج إلا هدر طاقات المؤسسة.
أنواع المؤسسات  
وكل مؤسسة تصنف في الصنف الذي تعمل لأجله، فالمؤسسة التي تعمل لأجل ترفيع المستوى الثقافي، تصنف في ضمن المؤسسات الثقافية، وما تعمل لأجل الوقاية والعلاج، تصنف في ضمن المؤسسات الصحيحة، وهكذا، والصعب في الأمر أن تصنف المؤسسة في نطاق عمل، بينما هي تعمل لأجل شيء آخر، كما هو الحال في الأعمال الأمنية والأحزاب السرية، حيث أن الحزب مثلاً يعمل لأجل تبديل السلطة إلى سلطة ملائمة في نظر المؤسسة، بينما يضطر أعضاؤها إلى تغطية أعمالهم بغطاء تجاري أو ثقافي أو ما أشبه… وعلى مثل هذه المؤسسة العمل المضاعف سراً واقعاً، وعلناً تغطية.
والمؤسسة:
1 ـ قد تؤسس لأجل التوجه إلى داخلها، مثل العائلة، ومؤسسة الرياضة البدنية، حيث أنهما تتوجهان إلى داخل المؤسسة، ولا هم لهما خارج أفراد العائلة، وخارج الأفراد في المؤسسة الرياضية.
2 ـ وقد تؤسس لأجل الخارج، كالمؤسسة الصحية للأطباء، والمؤسسة الدفاعية للمحامين، حيث أن همهما علاج الفقراء من المرضى، والدفاع عن المعوزين من المظلومين.
وتقسم المؤسسات إلى ثلاثة أقسام:
1 ـ المؤسسة الرسمية وهي المؤسسات الحكومية المرتبطة بإدارة البلاد والعباد.
2 ـ المؤسسة شبه الرسمية، وهي التي تشترك فيها الحكومة والأهالي.
3 ـ المؤسسة غير الرسمية، وهي التي أسسها الأهالي، وهذه الأسماء على هذه المؤسسات اصطلاح، كما هو واضح.
والغالب أن المؤسسات الحكومية تخلو من العطف والنشاط والحركة الحارة، وذلك لأن الموظفين في أكثر الأوقات يريدون بالوظيفة المعاش أو المكانة الاجتماعية التي تحصل لهم بسبب انتسابهم إلى الدولة، وبذلك يتمكنون من نيل مكانة مرموقة ـ بقدر رفعة الوظيفة ـ ومن تمشية أمورهم، ولذا لا يهتمون بعد ذلك بالعمل.
وهذا الجمود يكثر في الحكومات الديكتاتورية، ويقل في الحكومات الاستشارية، حيث تنافس الأحزاب المتصارعة على الحكم… بينما المؤسسات غير الرسمية على العكس من المؤسسات الرسمية، والمؤسسات شبه الرسمية متوسطة بينهما.
وعلاج أن يكون أفراد المؤسسة بالمستوى المطلوب من العمل:
1 ـ وجود الإيمان في باطن الإنسان، فإن الإيمان من أشد المحفزات للخدمة والعمل والتقدم، ولا يعادله شيء، ولذا كان للمؤمنين بالله واليوم الآخر ـ على طول التاريخ ـ نشاط وحركة غريبان.
2 ـ رقابة الدولة رقابة حكيمة.
3 ـ رقابة الطرف الآخر من حزب أو مؤسسة أو ما أشبه، فإن وقوع الإنسان في التنافس يعطيه دفعاً كبيراً.
4 ـ أن يكون سعي الإنسان لنفسه، سواء من جهة العلم، أو من جهة القدرة أو من جهة المال، أو من جهة الشهرة، أما أن يعمل الإنسان ليكون سعيه في كيس الدولة، كما في الحكومات الشيوعية، أو في كيس الرأسمالي، كما في الحكومات الرأسمالية، فذلك مما يثبط الإنسان عن العمل.
ثم المؤسسة إما أن تنشأ للعلاقات الأولية، مثل العائلة فإنها مؤسسة أنشئت من جهة العلاقة الأولية بين الزوجين والآباء والأولاد، وإما أن تنشأ للعلاقات الثانوية مثل إدارة الدولة، حيث أنها تنشأ لا بذاتها، بل باعتبار تنظيم الاجتماع وحفظ العدالة، والغالب أن المؤسسة الأولية يكون بين أعضائها الحرارة والنشاط والحب، بينما المؤسسة الثانوية يكون بين أعضائها الجمود إلا بقدر ما يفرضه العمل من التبادل والتآلف.
وربما تنشأ في داخل مؤسسة ثانوية مؤسسة أولية، حيث يكون بين جملة من أعضاء تلك المؤسسة الثانوية، صداقة وتآلف وحب، وفي هذه الصورة تنشط المؤسسة الثانوية، حيث أن نشاط المؤسسة الأولية التي في داخلها يبعث على التحرك والاندفاع، ولذا تحاول المؤسسات الثانوية إيجاد هذا النوع من النشاط في داخلها، بسبب منظمة ريــاضية، أو كشافة موســـمية، أو تدريب على الكاراتيه والسلاح، أو جعل جوائز في مجالات تنافسية، أو نحو ذلك.
ثم المؤسسة:
1 ـ قد تنشأ لإعطاء الحاجات الأولية للإنسان، مثل المؤسسات الدينية، حيث أن الدين فطري للإنسان، وحتى الذين ينكرون الدين كالطبيعيين، فإنما يغيرون الاسم وإلا فهم يعترفون بدين مبعثه الطبيعة، بينما المتدينون ـ اصطلاحاً ـ كالمسلمين يعترفون بدين ينبعث عن الله سبحانه، ومثل المؤسسات الاقتصادية ونحوها حيث أنها تعطي الحاجات الأساسية للإنسان، ولذا فهذه المؤسسات موجودة حتى في سكان الكهوف والغابات.
2 ـ وقد تنشأ لإعطاء الحاجات الثانوية:
أ ـ سواء كانت سهمية في تقديم الحضارة، كالمؤسسات الثقافية والصناعية والأخلاقية والتربوية.
ب ـ أو لم تكن كالمؤسسات التي تنشأ لأجل السياحة، والسفر، والسباحة، والفن، وما أشبه.
الانشطار والاندماج في المؤسسة  
وحيث أن الإنسان ذو أبعاد، فالمؤسسة التي تعنى ببعد واحد من أبعاد الإنسان لابد لها من:
أ ـ الانشطار حيث ترى الحاجة إلى الاختصاص، مثلاً: المؤسسة الطبية لعلاج بدن الإنسان، لا يمر عليها زمان إلا وتنشطر إلى مؤسستين إحداهما للروح [العلاجات النفسية] والأخرى للجسد، وهكذا المؤسسة الجسدية تنشطر إلى مؤسسة للأطفال وأخرى للكبار وهكذا.
ب ـ والاندماج حيث يدخل الارتباط ببعد في الارتباط ببعد آخر، ففي مثال المؤسسة الطبية تندمج في مؤسسة الصيدلة، لأن الطبيب بحاجة إلى التيقن من الدواء لغرض سلامة المريض… أو تندمج في مؤسسة السياسة، حيث تحتاج المؤسسة إلى من يدافع عن آرائها، وذلك شأن السياسي، مثلاً: ترى المؤسسة الاحتياج إلى التعقيمات الصحية لظهور بوادر الوباء، فإذا لم يكن للمؤسسة جناح سياسي، لم تصل المؤسسة إلى هدفها، فلابد لها من جعل ذلك الجناح وهكذا.
نفوذ الطبقية في المؤسسات  
وحيث أن المؤسسات غالباً بحاجة إلى الحماية السياسية، وإلى المال، لا لبقائها فقط، بل لنموها وتقدمها، تسرع الطبقية المنحرفة إلى الدخول في المؤسسات [وقلنا: المنحرفة، لأن التفاوت السليم ـ وهو ما كان بقدر حق الإنسان ـ لا خوف منه، بل اللازم وجوده، وإلا كان خلاف إعطاء كل ذي حق حقه].
وأحياناً تتحول المؤسسة التي وضعت لخدمة الناس إلى مؤسسة تكون وبالاً على الناس، مثلاً: جماعة يؤسسون محلات تعاونية لغرض إيصال البضاعة إلى الناس بالقيمة العادلة، وإذا بالرأسمالية المنحرفة تدخل أنفها في المؤسسة وتتوسع حتى تأخذ المؤسسة بيدها، وتكون المؤسسة حينئذ آلة لامتصاص المزيد من أموال الفقراء، لتكون دولة بين الأغنياء.
وكذلك أحياناً تؤسس مؤسسة لتثقيف أولاد الناس، وإذا بالديكتاتورية تدس أنفها في المؤسسة، لتحتكرها لأجل دعايتها، ولأجل أن تمتص منها الدم الجديد، ليكون وقوداً للمزيد من كبت الناس وإرهابهم وتقوية سلطانها.
ولذا يجب على أصحاب المؤسسات الخيرية، أن يهتموا بجعل الشروط والمواثيق لئلا تنقلب المؤسسة إلى ضد أغراضهم الشريفة.
الفقراء… والمؤسسات  
ومع ذلك يبقى شيء وهو أن الطبقة الفقيرة ـ الذين ظلموا بتحالف الدولة مع الرأسمالية، أو باستيلاء الدولة على رأس المال، وفي كلا الحالين أكملت أتعابهم ـ هي بنفسها تنسحب عن ميدان تأسيس المؤسسات أولاً، وعن ميدان البقاء في المؤسسات بعد أن أسسوها، وذلك لأن اشتغال هذه الطبقة بأمور معاشها لا يدع لها وقتاً للاشتراك، فلا تؤسس وإذا أسست تنسحب بسرعة لتملأ مكانها الطبقة الغنية التي يسير أمر معاشها بيسر.
لكن هذا أيضاً تابع لأخذ الفرص من الطبقة الفقيرة قبل ذلك، فالمهم علاج المشكلة جذرياً حتى يكون لكل أتعابه في جو صالح، فإن العلم والقدرة والمال إذا فقدت في طبقة، ووجدت في أخرى، كانت الخيرات للثانية وحرمت منها الأخرى، فإن المؤسسة تحتاج إلى العلم وإلى القدرة وإلى المال وحيث لم تكن الثلاثة متاحة لكل من يسعى استغلها جماعة، وحرم منها جماعة، وبذلك يحرمون أيضاً، عن سائر آثار هذه الثلاثة.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، الطبقة الفقيرة لا تقدر على المؤسسات الرفيعة، مثل المؤسسات الحربية، حيث تحتاج إلى السلاح، والمؤسسات الثقافية، حيث تحتاج إلى العلم، والمؤسسات المالية، حيث تحتاج إلى المال، وهذه الطبقة محرومة عن كل ذلك، فإن المؤسسة لا توضع إلا في الجو المناسب لها، فمؤسسة البنوك من نصيب الأغنياء، ومؤسسة صنع الجامعات، من نصيب كبار المثقفين، ومؤسسة استخراج السلاح وتنظيمه من نصيب كبار العسكريين.
كبر المجتمع يتطلب كثرة المؤسسات  
والمجتمع كلما صار أكبر، وصارت حرياته أكثر، صار أكثر تعقيداً، وكلما كثر تعقيد المجتمع احتاج إلى مؤسسات أكثر، فإن المجتمع الحر ينتج ويصنع أكثر، لأن حرية الظهور تفسح أمام الكفاءات، وكلما كان الإنتاج والصناعة أكثر، كان التعقيد أكثر.
مثلاً: البلد الذي لا حرية فيه للثقافة لا مجلة له ولا صحيفة ولا راديو ولا تلفزيون ولا نوادي ثقافية، ولا مطابع وما يتبعها [مثل محلات بيع الكتب، والمكتبات، ومعامل التجليد، وهكذا]…
أما البلد الذي له هذه الحرية فتخرج فيها عشرة صحف، كل صحيفة تحاول تحسين مطالبها، وتكثير قرائها، فإذا دخلت الصحافة في حياة البلد كثرت أعمال أهل البلد قراءة وكتابة و… وبذلك يتعقد الاجتماع، ويحتاج إلى مؤسسات صحافية، ومؤسسات لحماية المستهلك عن الأفكار المنحرفة، وعن غلاء الصحف، وهكذا بالنسبة إلى سائر فروع الثقافة، وكذلك في سائر أقسام الصناعة والإنتاج.
ولهذا السبب لا يكون تعقيد في الأمم البدائية ولا مؤسسات كثيرة، بل المؤسسة الواحدة كانت تكفي لنجاح عدة أمور، مثلاً: كانت العائلة تؤدي التربية والتعليم، وصنع الغذاء والكساء والمسكن، بل وحتى صنع المركب حيث كانت لها دواب تتوالد بما يكفي الأولاد في المستقبل.
التعقيد النافع والتعقيد الضار  
وربما يتوهم أن معنى ما ذكرناه مطلق تعقيد الحياة حتى بالنسبة إلى أشغال الناس في الدوائر المعينة، فإذا رأوا أن ثبت ملكية دار يحتاج إلى صرف ساعات من الوقت في الدوائر، قالوا: إنه من تقدم الحياة الموجب للتعقيد؟
لا، ليس الأمر كذلك، فهناك تعقيد ناشئ من جهة الحرية والتقدم، وتعقيد ناشئ من جهة سوء التربية، والغرور، والاستغلال، فالتعقيد الملازم للتقدم هو القسم الأول، كما مثلناه في أمر الثقافة، حيث أن الحاجة الجديدة المولودة من التقدم تعقد الحياة بقدرها.
أما القسم الآخر من التعقيد فهو ناشئ عن الأمور الثلاثة:
1 ـ سوء التربية، فمثلا: في السابق كان يقتنع عند بيع الدار بورقة يكتب عليها اعتراف البائع والمشتري، وشهادة نفرين من أهل المنطقة، أما حيث ساءت النيات وكثر الاحتيال، احتاج الأمر إلى ضبط أكثر، مما أورث تعقيداً جديداً، وعلاج ذلك تحسين التربية الاجتماعية، لرد ثقة الناس بعضهم ببعض.
2 ـ الغرور، فإن الحكومات الديكتاتورية، تحتاج إلى المصفقين فيعطون كراسي لمن يصفق لهم، وكل كرسي يزيد الأمر تعقيداً، ولذا أخذت الدوائر تنتفخ بصورة مدهشة، وقد حدد الخبراء احتياج دولة في العالم الثالث إلى مأتي ألف موظف، بينما كان لها مليون وألف موظف، وقال الخبراء: إنه ما دام أن الرئيس يريد المصفقين، فلا علاج لمرض تضخم الوظائف والموظفين.
3 ـ والاستغلال ثالث أثافي التعقيد الفارغ، حيث أن الديكتاتوريين يحتاجون إلى مال أكثر لإدارة أمورهم من ناحية، وإلى المصفقين الذين هم بحاجة إلى المال أيضاً، ولا يمكن استغلال الناس إلا بالتعقيد وكثرة الدوائر لتتمكن من امتصاص الأموال في اللف والدوران الذي يطوف الدوائر.
وبهذا النوع من التعقيد [القسم الآخر] تهدر الأموال والأعمار والكرامات، وهذا النوع من التعقيد يسبب:
أ ـ تضخم الدوائر المحتاج إليها، أمثال دائرة القضاء، ودائرة الجباية، ونحوهما.
ب ـ إحداث دوائر جديدة لا حاجة إليها، أمثال دوائر الكمارك وغيرها.
ج ـ ثم في الدول الديكتاتورية، يأتي دور دوائر أخر تزيد الأمور تعقيداً هي الدوائر المشرفة على أعمال أخذتها الدولة من أيدي الناس ـ بألف حجة مكذوبة ـ وإنما أخذتها لتزيد من غرورها، واستغلالها أمثال دوائر القطارات والمطارات والمعامل ونحوها.
فإن الدولة الصحيحة هي التي تدع الناس يعملون بقدر طاقاتهم، وإنما شأن الدولة الإشراف لعدم الأجحاف، وتكميل النواقص، مثلاً: تحتاج البلاد إلى عشرين مطاراً، وألف مدرسة، فتعلن الدولة، أن للناس أن يبنوا تلك ويديروها، بشرط أن لا يجحفوا في أخذ الأجور ونحوها، فإذا لم يقم الناس إلا بضع عشر مطارات قامت الدولة بصنع الباقي وهكذا.
وبذلك يخف كاهل الدولة، وتشتغل كل الطاقات الممكنة، وتعطي كل حاجات الشعب، بينما الدول الديكتاتورية تستأثر بكل شيء لنفسها، لملأ غرورها، ولاستغلال الناس أكثر فأكثر، وبذلك تهدر طاقات الناس الخلاقة وتبقى الحوائج معطلة، ويكثر التعقيد، ويزيد الصلف.
ثم حيث أن الطبقة الفقيرة تشتغل بأمور معاشها، ولا فائض من الوقت والمال لها، ليس لها مجال في بعض المؤسسات أمثال المخيمات الكشافة، والفرق الرياضية وأمثالها، إلا نادراً، وبالعكس من ذلك، فالطبقة الغنية كثيراً ما يكون فرد منها عضواً في أكثر من مؤسسة، حيث له فائض المال والوقت مما يؤهله لمثل ذلك.
ولا يخفى، أن المؤسسات العاملة في خدمة الإنسان ـ مهما كانت معايبها في الأجواء العالمية المعاصرة ـ فهي أمور حسنة، يلزم الإكثار منها، لأنها تعطي ما لا تعد ولا تحصى من الحاجات، مما لو أغلقت بقيت تلك الحاجات معطّلة، نعم يلزم تهذيبها حسب القدرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق