لسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
هذه رسالة خفيفة الوزن، كثيفة المادة، تستهدف تجديد القول في دراسة الخلافات السياسية بين الصحابة رضي الله عنهم، والخروج من دائرة الجدل والمناظرة في وهي قضايا قضايا المفاضلة بين الصحابة وشرعية خلافة الخلفاء الراشدين نظرية استنزفت العقل المسلم في غير طائل - إلى دائرة التأصيل والتحليل والاعتبار. ويتحكم في هذه الرسالة همُّ الفصل بين الشخص والمبدإ، بين الوحي والتاريخ. وهي في خلاصتها دعوة إلى إعادة كتابة التاريخ الإسلامي بمنهج جديد، يمنح قدسية المبادئ رجحانا على مكانة الأشخاص، مع الاعتراف بفضل السابقين ومكانتهم في
حدود ما تسمح به المبادئ التي استمدوا منها ذلك الفضل وتلك المكانة.
وليست هذه الرسالة سردا للخلافات السياسية بين الصحابة أو خوضا في تفاصيلها، بل هي جملة قواعد منهجية مقترحة للتعاطي مع تلك الخلافات، بما يعين على استخلاص العبرة منها لمستقبل أمة الإسلام وآتي أيامها. وليس فيها من تفاصيل تلك الأحداث إلا ما كان ضربا لمثَل، أو دعما لتحليل. ولعل هذه القواعد تكون دليلا لمن هم أحسن تأهيلا وأوسع معرفة بدقائق التاريخ الإسلامي، ليدلوا بدلوهم في إعادة قراءة ذلك التاريخ.
على أن الرسالة تنتمي إلى الفقه السياسي أكثر مما تنتمي إلى علم التاريخ، وهي بمثابة المقدمة المنهجية لكتابيْ "السنة السياسية" و"الشرعية السياسية" اللذيْن نستعين الله في إتمامهما، ونستجديه قبولهما، وقبول هذه الرسالة.. ووصولَها.
وقد حرصنا هنا على انتهاج نهج علماء الجرح والتعديل، لا في تثبتهم في الرواية والنقل فحسب، بل في منطلقهم الفكري الذي تأسس على الإيمان برجحان المبدإ على الشخص، على نحو ما برر به الإمام مسلم جرح الرواة في مقدمة صحيحه، من أنه "ليس من الغِيبة المحرمة، بل من الذب عن الشريعة المكرمة". كما حرصنا على صياغة الرأي طبقا للوقائع، لا صياغة الوقائع في قوالب الآراء، كما هو شائع في أكثر الكتابات حول الموضوع.
لقد نشأ الفقه السياسي الإسلامي متكيفا مع واقع القهر والاستبداد الذي خلفته حرب "صفِّين"، ولم يقتصر هذا التكيف على تفسير التاريخ السياسي الإسلامي، بل تجاوزها إلى النظرية السياسية الإسلامية، وهو ما يجعل المهمة اليوم عسيرة. ولا بد للدارس للفقه السياسي والتاريخ الإسلامي من الانتباه لهذه الظاهرة، والاجتهاد في البحث والتنقيب لبناء صورة دقيقة لما حدث في صدر الإسلام من فتن وخلافات سياسية لا تزال تلقي بظلالها على الأمة حتى اليوم. فالبحث في هذا المجال أقرب إلى عمل علماء الآثار الذين يدرسون أطلالا دارسة عبثت بها أيدي الزمان. ومما يزيد في عسر المهمة الخلط الضمني بين الوحي والتاريخ في المرجعية، وهو أمر سائد في الفكر الإسلامي اليوم، جراء نقص في الوعي بالتاريخ لا يميز بين صورته وعبرته، وتقصيرٍ في دراسة حياة السلف دراسة استقصائية تلم بكل جوانبها المضيئة والقاتمة، ولا تقف عند سرد المناقب فقط.
إن الذي يتأمل نصوص الشرع ومصائر الأمم يدرك أن الخلط بين المبادئ والأشخاص من أسوإ الأدواء الفكرية والعملية. وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم باتباع سنته بإطلاق، لأنه معصوم: "عليكم بسنتي.."، ثم أمرنا باتباع سنة الخلفاء من بعده، لكنه قيدها بالرشد: "وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي". وفي ذلك درس ثمين في التمييز بين الشخص والمبدإ، حتى ولو كان ذلك الشخص أحد الخلفاء بكل أسف - في قراءتنا الراشدين. لكن داء تجسيد المبادئ في الأشخاص ساد لحياة السلف، حتى الذين هم غير راشدين منهم، فاستحال الدفاع عن الصحابة إلى دفاع عن الظلم السياسي، وتبريرٍ للجبرية والخنوع.
ومن هنا حرصنا في هذه الدراسة على تبني فكرة الإمكان التاريخي، وهي فكرة حبلى بالاحتمالات بما هي فعل بشري إرادي تنطلق من أن الصيرورة التاريخية دائما. وما يتحقق في واقع الحياة، ليس هو كل الممكن، بل هو جانب من إمكانات شتى، رجَّحت ظروف الفعل البشري ظهوره. وبذلك تكون فكرة الإمكان التاريخي أداة منهجية فعالة، يتبين من خلالها الفارق بين ما كان، وما هو ممكن، ويصبح التقييم متاحا، استنادا إلى ذلك الفارق.
لكن "الجبرية الأموية" و"الكربلائية الشيعية" لا تزالان سائدتين في دراسة تاريخ صدر الإسلام، وهما وجهان لفلسفة واحدة، تنطلق من أن ما كان هو حدود الإمكان، وأن لا مجال للنقد أو المراجعة. وبسيادة هذين المنهجين ضيع الفكر الإسلامي فكرة الإمكان التاريخي، وعطل العقل المسلم نفسه في دراسة تاريخه.
إن الانفعال السائد في الدفاع عن السلف قد أهدر قدسية المبادئ حرصا على مكانة الأشخاص، واستحال ردا للغلو بغلو، مع تعميم وتهويل يساوي بين عثمان وكاتبه مروان، وبين عمار وقاتله أبي الغادية. وقد بدا لنا أن الشباب الإسلامي المعاصر وقع ضحية لمنهج ابن العربي في كتابه "العواصم من القواصم" ثم لمدرسة "التشيع السني" المعاصرة التي يقودها محقق كتاب "العواصم" الشيخ محب الدين الخطيب وتلامذته. ولذلك ختمنا هذه الرسالة بمناقشة ضافية لمنهج تلك المدرسة وبعض مزالقها.
إن ثقافتنا التاريخية العليلة جزء من محنتنا الراهنة. والعلاقة بين الثقافة العليلة والاستبداد السياسي علاقة وجودية، ولذلك لا عجب أنْ ان السحر ثقافة المصريين أيام الفراعنة. وقد أثمرت ثقافتنا التاريخية العليلة مفارقات غريبة، من مظاهرها أن ضحايا الاستبداد في العالم الإسلامي اليوم هم أقوى المدافعين عنه فكريا، وأشد المبررين له أخلاقيا.. وهم لا يشعرون!!
لقد انتصر المجتمع الإسلامي الأول على الردة الاعتقادية التي ثارت في أطرافه، لكنه كما يقول ابن تيمية - قد انهزم أمام الردة السياسية التي نبعت من قلبه. والردة تكون عن الدين كله، أو عن بعض الدين. وتلك الردة السياسية المتمثلة في تحويل الخلافة إلى ملك هي التي رسمت صيرورة الحضارة الإسلامية ومآلها، ولا تزال تتحكم في حياة المسلمين حتى اليوم.
ولئن كانت الأولوية عند بعض علماء السنة في الماضي هي كشف "فضائح الباطنية" و"الرد على الشيعة والقدرية"، لأن المبتدعة كانت لهم صولة ودولة يومذاك، تكاد تطبق على مشرق العالم الإسلامي ومغربه.. فإن الأولوية اليوم هي كشف فضائح المستبدين، وتجريدهم من أي شرعية أخلاقية أو تاريخية. إضافة إلى أن البدع السياسية لا تقل خطورة عن بدع الاعتقاد، كما تشهد به عبرة أربعة عشرقرنا من تاريخ الإسلام.
لكن كشف فضائح المستبدين المعاصرين غير ممكن ما دام الحديث عن الانحرافات السياسية التي بدأت في عصر الصحابة مطبوع بطابع التبرير والدفاع، لا بطابع الدراسة المجردة الهادفة إلى الاعتبار، وما دام الحديث عن تلك الفتن والخلافات السياسية يتحكم فيه فقه التحفظ، لا فقه التقويم. ذلك أن من طبيعة المبدإ الأخلاقي العموم والاطراد، فليس من الممكن تحريم الظلم السياسي على الخلف، وإباحته للسلف، دون وقوع في تناقض فكري وأخلاقي.
لقد كان التحرج من الخوض في الخلافات السياسية بين الصحابة واضحا وشائعا لدى علماء الأمة وصلحائها، لكن ذلك لم يمنعهم من الخوض فيه لغاية التعليم والتأصيل والاعتبار. وقد أفرد الحافظ الهيثمي في مجمعه بابا بعنوانٍ ذي دلالة، باب فيما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولولا أن الإمام » فقال: وهو يقصد ب"أصحاب « أحمد رحمه الله وأصحاب هذه الكتب أخرجوه ما أخرجته هذه الكتب" أصحاب المسانيد التي جمعها الهيثمي في كتابه، كالطبراني والبزار وأبي يعلى.. فالهيثمي يلخص هنا الإشكال: لا ينبغي التخوض في هذا الموضوع
لمجرد التسلية وتزجية الوقت، لكن الحديث فيه يكون أحيانا ضرورة علمية وعملية. وليس هو بالبدعة المستحدثة، بل سبق إليه أكابر من أهل السنة والحديث، كالإمام أحمد وغيره.
ومهما يعترضْ معترض أو يجادلْ مجادل بأن الكتابة في موضوع الخلافات السياسية بين الصحابة نكءٌ لجراح الماضي السحيق، وجدل نظري في غير طائل، وفتح لباب التطاول على الأكابر.. فإن الأمة لن تخرج من أزْمتها التاريخية إلا إذا أدركت كيف دخلت إليها.
لا أحد يطرب بالحديث عن الاقتتال الذي نشب بين الرعيل الأول من المسلمين، ولا أحد يستمتع بنكء جراح الأمة، لكن الطبيب قد يوصي بالدواء المُرِّ، ويستخدم مِبْضَعه وهو كاره.. وتلك أحيانا هي الطريقة الوحيدة لاستئصال الداء.
والله الموفق لكل خير والهادي إلى سواء السبيل
مقدمة المؤلف
هذه رسالة خفيفة الوزن، كثيفة المادة، تستهدف تجديد القول في دراسة الخلافات السياسية بين الصحابة رضي الله عنهم، والخروج من دائرة الجدل والمناظرة في وهي قضايا قضايا المفاضلة بين الصحابة وشرعية خلافة الخلفاء الراشدين نظرية استنزفت العقل المسلم في غير طائل - إلى دائرة التأصيل والتحليل والاعتبار. ويتحكم في هذه الرسالة همُّ الفصل بين الشخص والمبدإ، بين الوحي والتاريخ. وهي في خلاصتها دعوة إلى إعادة كتابة التاريخ الإسلامي بمنهج جديد، يمنح قدسية المبادئ رجحانا على مكانة الأشخاص، مع الاعتراف بفضل السابقين ومكانتهم في
حدود ما تسمح به المبادئ التي استمدوا منها ذلك الفضل وتلك المكانة.
وليست هذه الرسالة سردا للخلافات السياسية بين الصحابة أو خوضا في تفاصيلها، بل هي جملة قواعد منهجية مقترحة للتعاطي مع تلك الخلافات، بما يعين على استخلاص العبرة منها لمستقبل أمة الإسلام وآتي أيامها. وليس فيها من تفاصيل تلك الأحداث إلا ما كان ضربا لمثَل، أو دعما لتحليل. ولعل هذه القواعد تكون دليلا لمن هم أحسن تأهيلا وأوسع معرفة بدقائق التاريخ الإسلامي، ليدلوا بدلوهم في إعادة قراءة ذلك التاريخ.
على أن الرسالة تنتمي إلى الفقه السياسي أكثر مما تنتمي إلى علم التاريخ، وهي بمثابة المقدمة المنهجية لكتابيْ "السنة السياسية" و"الشرعية السياسية" اللذيْن نستعين الله في إتمامهما، ونستجديه قبولهما، وقبول هذه الرسالة.. ووصولَها.
وقد حرصنا هنا على انتهاج نهج علماء الجرح والتعديل، لا في تثبتهم في الرواية والنقل فحسب، بل في منطلقهم الفكري الذي تأسس على الإيمان برجحان المبدإ على الشخص، على نحو ما برر به الإمام مسلم جرح الرواة في مقدمة صحيحه، من أنه "ليس من الغِيبة المحرمة، بل من الذب عن الشريعة المكرمة". كما حرصنا على صياغة الرأي طبقا للوقائع، لا صياغة الوقائع في قوالب الآراء، كما هو شائع في أكثر الكتابات حول الموضوع.
لقد نشأ الفقه السياسي الإسلامي متكيفا مع واقع القهر والاستبداد الذي خلفته حرب "صفِّين"، ولم يقتصر هذا التكيف على تفسير التاريخ السياسي الإسلامي، بل تجاوزها إلى النظرية السياسية الإسلامية، وهو ما يجعل المهمة اليوم عسيرة. ولا بد للدارس للفقه السياسي والتاريخ الإسلامي من الانتباه لهذه الظاهرة، والاجتهاد في البحث والتنقيب لبناء صورة دقيقة لما حدث في صدر الإسلام من فتن وخلافات سياسية لا تزال تلقي بظلالها على الأمة حتى اليوم. فالبحث في هذا المجال أقرب إلى عمل علماء الآثار الذين يدرسون أطلالا دارسة عبثت بها أيدي الزمان. ومما يزيد في عسر المهمة الخلط الضمني بين الوحي والتاريخ في المرجعية، وهو أمر سائد في الفكر الإسلامي اليوم، جراء نقص في الوعي بالتاريخ لا يميز بين صورته وعبرته، وتقصيرٍ في دراسة حياة السلف دراسة استقصائية تلم بكل جوانبها المضيئة والقاتمة، ولا تقف عند سرد المناقب فقط.
إن الذي يتأمل نصوص الشرع ومصائر الأمم يدرك أن الخلط بين المبادئ والأشخاص من أسوإ الأدواء الفكرية والعملية. وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم باتباع سنته بإطلاق، لأنه معصوم: "عليكم بسنتي.."، ثم أمرنا باتباع سنة الخلفاء من بعده، لكنه قيدها بالرشد: "وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي". وفي ذلك درس ثمين في التمييز بين الشخص والمبدإ، حتى ولو كان ذلك الشخص أحد الخلفاء بكل أسف - في قراءتنا الراشدين. لكن داء تجسيد المبادئ في الأشخاص ساد لحياة السلف، حتى الذين هم غير راشدين منهم، فاستحال الدفاع عن الصحابة إلى دفاع عن الظلم السياسي، وتبريرٍ للجبرية والخنوع.
ومن هنا حرصنا في هذه الدراسة على تبني فكرة الإمكان التاريخي، وهي فكرة حبلى بالاحتمالات بما هي فعل بشري إرادي تنطلق من أن الصيرورة التاريخية دائما. وما يتحقق في واقع الحياة، ليس هو كل الممكن، بل هو جانب من إمكانات شتى، رجَّحت ظروف الفعل البشري ظهوره. وبذلك تكون فكرة الإمكان التاريخي أداة منهجية فعالة، يتبين من خلالها الفارق بين ما كان، وما هو ممكن، ويصبح التقييم متاحا، استنادا إلى ذلك الفارق.
لكن "الجبرية الأموية" و"الكربلائية الشيعية" لا تزالان سائدتين في دراسة تاريخ صدر الإسلام، وهما وجهان لفلسفة واحدة، تنطلق من أن ما كان هو حدود الإمكان، وأن لا مجال للنقد أو المراجعة. وبسيادة هذين المنهجين ضيع الفكر الإسلامي فكرة الإمكان التاريخي، وعطل العقل المسلم نفسه في دراسة تاريخه.
إن الانفعال السائد في الدفاع عن السلف قد أهدر قدسية المبادئ حرصا على مكانة الأشخاص، واستحال ردا للغلو بغلو، مع تعميم وتهويل يساوي بين عثمان وكاتبه مروان، وبين عمار وقاتله أبي الغادية. وقد بدا لنا أن الشباب الإسلامي المعاصر وقع ضحية لمنهج ابن العربي في كتابه "العواصم من القواصم" ثم لمدرسة "التشيع السني" المعاصرة التي يقودها محقق كتاب "العواصم" الشيخ محب الدين الخطيب وتلامذته. ولذلك ختمنا هذه الرسالة بمناقشة ضافية لمنهج تلك المدرسة وبعض مزالقها.
إن ثقافتنا التاريخية العليلة جزء من محنتنا الراهنة. والعلاقة بين الثقافة العليلة والاستبداد السياسي علاقة وجودية، ولذلك لا عجب أنْ ان السحر ثقافة المصريين أيام الفراعنة. وقد أثمرت ثقافتنا التاريخية العليلة مفارقات غريبة، من مظاهرها أن ضحايا الاستبداد في العالم الإسلامي اليوم هم أقوى المدافعين عنه فكريا، وأشد المبررين له أخلاقيا.. وهم لا يشعرون!!
لقد انتصر المجتمع الإسلامي الأول على الردة الاعتقادية التي ثارت في أطرافه، لكنه كما يقول ابن تيمية - قد انهزم أمام الردة السياسية التي نبعت من قلبه. والردة تكون عن الدين كله، أو عن بعض الدين. وتلك الردة السياسية المتمثلة في تحويل الخلافة إلى ملك هي التي رسمت صيرورة الحضارة الإسلامية ومآلها، ولا تزال تتحكم في حياة المسلمين حتى اليوم.
ولئن كانت الأولوية عند بعض علماء السنة في الماضي هي كشف "فضائح الباطنية" و"الرد على الشيعة والقدرية"، لأن المبتدعة كانت لهم صولة ودولة يومذاك، تكاد تطبق على مشرق العالم الإسلامي ومغربه.. فإن الأولوية اليوم هي كشف فضائح المستبدين، وتجريدهم من أي شرعية أخلاقية أو تاريخية. إضافة إلى أن البدع السياسية لا تقل خطورة عن بدع الاعتقاد، كما تشهد به عبرة أربعة عشرقرنا من تاريخ الإسلام.
لكن كشف فضائح المستبدين المعاصرين غير ممكن ما دام الحديث عن الانحرافات السياسية التي بدأت في عصر الصحابة مطبوع بطابع التبرير والدفاع، لا بطابع الدراسة المجردة الهادفة إلى الاعتبار، وما دام الحديث عن تلك الفتن والخلافات السياسية يتحكم فيه فقه التحفظ، لا فقه التقويم. ذلك أن من طبيعة المبدإ الأخلاقي العموم والاطراد، فليس من الممكن تحريم الظلم السياسي على الخلف، وإباحته للسلف، دون وقوع في تناقض فكري وأخلاقي.
لقد كان التحرج من الخوض في الخلافات السياسية بين الصحابة واضحا وشائعا لدى علماء الأمة وصلحائها، لكن ذلك لم يمنعهم من الخوض فيه لغاية التعليم والتأصيل والاعتبار. وقد أفرد الحافظ الهيثمي في مجمعه بابا بعنوانٍ ذي دلالة، باب فيما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولولا أن الإمام » فقال: وهو يقصد ب"أصحاب « أحمد رحمه الله وأصحاب هذه الكتب أخرجوه ما أخرجته هذه الكتب" أصحاب المسانيد التي جمعها الهيثمي في كتابه، كالطبراني والبزار وأبي يعلى.. فالهيثمي يلخص هنا الإشكال: لا ينبغي التخوض في هذا الموضوع
لمجرد التسلية وتزجية الوقت، لكن الحديث فيه يكون أحيانا ضرورة علمية وعملية. وليس هو بالبدعة المستحدثة، بل سبق إليه أكابر من أهل السنة والحديث، كالإمام أحمد وغيره.
ومهما يعترضْ معترض أو يجادلْ مجادل بأن الكتابة في موضوع الخلافات السياسية بين الصحابة نكءٌ لجراح الماضي السحيق، وجدل نظري في غير طائل، وفتح لباب التطاول على الأكابر.. فإن الأمة لن تخرج من أزْمتها التاريخية إلا إذا أدركت كيف دخلت إليها.
لا أحد يطرب بالحديث عن الاقتتال الذي نشب بين الرعيل الأول من المسلمين، ولا أحد يستمتع بنكء جراح الأمة، لكن الطبيب قد يوصي بالدواء المُرِّ، ويستخدم مِبْضَعه وهو كاره.. وتلك أحيانا هي الطريقة الوحيدة لاستئصال الداء.
والله الموفق لكل خير والهادي إلى سواء السبيل
محمد بن المختار الشنقيطي
01 رمضان المبارك 1424 ه الموافق 27 أكتوبر 2003 م
01 رمضان المبارك 1424 ه الموافق 27 أكتوبر 2003 م
الولايات المتحدة الأمريكية تكساس لباك
تحميل الكتاب
او
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق