الرسالة السابعه
الحبيبة ذبابة الحمار:
لقد شرحت لك في رسائلي السابقة مصاعب الموت. لا أقصد تحطيم معنوياتك نهائياً. أحكي
ما حدث لي تماماً وبواقعية، بعدها تصرفي كما يحلو لك، اصبري إن أردت العيش، أو موتي
إن أردت التخلص..
أبدأ الحديث من حيث توقفت في الرسالة الماضية. صدم السائق مقدمة سيارة الإسعاف صدمة
لينة بشجرة .المعاون أو من نزل من الإسعاف، وقال:
-ليس في أي عطل فني.
قال للسائق:
-ماذا ستفعل الآن يا معلمي؟
-الله يلعن الشيطان، في الداخل ميت وجريح ينزف.
-لنوقف سيارة عابرة.
تمر السيارات من يميننا ويسارنا (وظ..وظ..) دون توقف.
قال السائق:
-لا أحد يقف لنا.
-لماذا؟ أمن أجل النقود؟ يأخذ نقوده من المشفى.
-أي غبي يحمل جريحاً في سيارته لتتصبغ بالدم. سائقو هذه الأيام لا ير ّ كبون معهم من لا
يعجبهم من الأحياء. أنا كنت سائق (تاكسي) قبل أن أعمل في الإسعاف. أنا (فنار بهجي*)
متعصب. لونت داخل السيارة ، خارجها، فرشها، هيكلها وعجلاتها بأعلام* فنار بهجة
صارت مثل العروس. أنتظر على الموقف. يأتيني زبون. أنظر إلى شكله. إذا لم يدخل
مزاجي أدبره قائلاً: "عندي زبون يا صاحبي" يأتي آخر، أصرفه .أحياناً يتوجب علي أن أقوم
بمناورة عودة معه فأسأله "إلى أين ذاهب؟" إذا كان ذاهباً إلى مكان على مزاجي، آخذه. إذا
كان ذاهباً إلى مكان قريب أن طريقه خربانة أو لا يعجبني اسمه لا آخذه أيضاً.. وإذا كّلب
الرجل وأصبحتُ مضطراً لإيصاله، آخذه بالحديث حتى أوصله إلى سؤاله عن حزبه أو فريقه
الرياضي. الحزب غير مهم، من المعيب واللاديمقراطية أن أتكلم إذا لم يكن من حزبنا، أما إذا
كان من أنصار فريق خصم للفنار بهجة، أقود السيارة ببطء لكي لا يصل إلى المكان الذي
يريده في الزمن المناسب، ثم أقف في مكان خاوٍ، وأقول خربت السيارة وأنزله منها. أختار
في هذه الحالة مكاناً يسير فيه المقلب على أكمل وجهه، بحيث لا يجد سيارة ويكمل مشواره
ماشياً. هذه صنعة ليست سهلة، كل شخص ممكن أن يقود سيارة، ولكن الشغلة، في معرفة
هذه الأشياء.
سأل المعاون السائق مرة أخرى:
-ماذا ستفعل الآن؟
قال:
-سهلة، لو وقفت إحدى هذه السيارات.. ننظر إلى الشعار المعلق (بالتاكسي). عليك أن تمثل
دور النصير للفريق المعلقة شارته في السيارة، ثم تبدأ الحديث "لعب جماعتنا في الأسبوع
الماضي (كويس)، لكن الحظ لم يحالفهم.." أو بعبارة أخرى من هذا القبيل، ويكمل الرجل
الباقي. بعد لحظات تجد نفسك أقرب إلى الرجل من أقربائه. من الممكن ألا يأخذ منك الأجرة
. عملنا الآن إيقاف سيارة. يا الله، انزل إلى الطريق وحاول إيقاف) تكسي!(
نزل المعاون إلى وسط الطريق. رفه يده لإحدى السيارات التي تذهب وتجيء) وظ وظ ) .
كانت سيارة خاصة. أخرج الرجل يده من الشباك ملوحاً. قال المعاون بينما كان الرجل يلوح
بيده وهو ذاهب:
-أماه، الرجل سّلم علينا.
قال السائق:
-رد السلام ولاه. السلام لله. إذا أحد سّلم ، عليك أن ترد. حتى إذا سّلم عليك عدوك اللدود،
عليك أن ترد ب "عليكم السلام."
أعطى المعاون إشارة توقف لسيارة أخرى فمدت من نافذة السيارة رِجلُ امرأة. كلما ألح
المعاون بتلويج يده، كانت رجل المرأة تُّلوح أيضاً. غَضِب المعاون ، قال:
-واخ سافلة، تسلم برجلها..
قال السائق:
-لا تزعل هذا السلام ليس لك، الرجل الذي في داخل السيارة هو الذي كان يسلم.
بينما كان المعاون يقترب ليوقف سيارة قادمة، قال له السائق:
-لا تُتعب نفسك. هذه لا تقف.
-لماذا يا معلمي؟
-أولاً، سيارة خاصة. ثانياً ، انظر إلى الرجل الذي يقودها. إحدى يديه على المقود والثانية
على كتف المرأة بجانبه! لو وضعت إشارة رسمية أمامها لقفزت من فوقها مثل حصان سباق
يجتاز حاجزاً. إذا خرج زوج المرأة التي في السيارة عندها لا أدري...
وكما قصد السائق حصل. عندما اقتربت السيارة منا، ازدادت سرعتها حتى أن المعاون انكب
على الأرض ليتجنب تأثير ريحها..
قال المعاون:
-فرمان سلطاني لا يوقف هؤلاء.. ماذا سنفعل؟ الرجل ينزف سوف لا أرد .سأخرج أمام أول
عربة تمر.
لم يكد ينهي كلامه حتى خرجت سيارة مثل العاصفة. كان المعاون سيرمي نفسه أمامها لولا
أن مسكه السائق من يده.
-أمجنون أنت؟ الأغرار مثلك يظنون أن السائق يكفيه أن يتعلم القيادة ويأخذ فكرة عن
المحرك.
-طبيعي، وقواعد المرور أيضاً.
-هذا لا يكفي حتى تصبح سائقاً جيداً.. ما عليك أن تتعلمه ما هو خارج القاعدة. وهل يمكن
الوقوف أمام تلك السيارة؟ إنها دليل عزرائيل.. هذه السيارة تدور في شوارع المدينة على ابن
آدم لتأخذه تحت عجلاتها. قبل كل شيء انظر على لوحتها ثم لونها.
-ما لوحتها؟
-من التي يسمونها البلاء الوطني.
-لونها؟
-يغطط القلب.
لم يكد يتحرك المعاون لإيقاف سيارة من بعيد حتى أمسكه السائق من يده وشده وصاح به:
-أجننت؟
أتت السيارة باتجاه الإسعاف تصفر مثل سهم. قفز كل من المعاون والسائق خلفاً، أنقذا
روحيهما.
قال المعاون:
-أنا أعرف أن الحيوانات تَكْلَب. ولكن هذه أول مرة أرى فيها سيارة كَلِبة.
قال السائق:
-ليست السيارة هي الكلبة بل الذين بداخلها كلاب. إنهم من أولئك الذين" يعيشون بسرعة."
-من هم أولئك الذين يعيشون بسرعة؟
-أولئك البليات ذوو الأرواح، الذين يربون على دلال أمهاتهم وصرف نقود آبائهم التي تأتيهم
من دون تعب .يعيشون بأقصى سرعة. لماذا يعيشون بسرعة؟.. في الألف شخص في هذه
الدولة يعيش واحد فقط ويظن الباقون أنهم يعيشون.. هذا الواحد سريع جداً لأنه بدل من ألف..
ضع في سيارة الإسعاف المهترئة هذه بدلاً من كل ألف حصان ألفاً. كيف تسير؟ هكذا
يسيرون.
كانت ثمة سيارة آتية، لا يقال عنها آتية لأنها أخت الريح، منطلقة في الطريق مثل الرصاص.
مرة إلى هذا الطرف ومرة إلى ذاك راسمة خطاً متعرجاً، قال السائق:
-من الممكن أن تقف هذه السيارة.. ليس لها مستقبل، لأنهم ملؤوا خزانها بالعرق بدلاً من
البنزين. غداً ستقرأ في الصحف أن السيارة سقطت بالبوسفور.
سألني الجريح الذي بجانبي:
-عفوكم، لماذا أنتظر؟
قلت:
-أعذروني، أنا لا أستطيع الكلام لأنني ميت ولكن لم يخرج لأن صوت الأموات لا يسمع.
لكون المعاون شاباً حساساً. فهو يريد أن يفعل شيئاً لإنقاذ الجريح لذلك كان يخبطً دون جدوى .
قال:
لأتصل من مكان ما هنا بالمشفى على الأقل يرسلوا لنا سيارة نأخذ بها الجريح.
قهقه السائق حين سماعه هذه العبارة كانه سمع طرفة. لشدة ما ضحك (تدعبل (على الأرض
حتى كأنه أصيب بنوبة عصبية.
-ماذا حدث؟ ما هنالك يا معلمي؟ لماذا تضحكون؟
كان السائق يتأتئ بأشياء مثل ( ت .. تل .. تلفون .. هاء) ثم تخلص من زوبعة الضحك،
وسأل:
-ألا يوجد هاتف؟
-إذا كان على وجوده فهو موجود. ولكن ما فائدته إذا لم ينفع للاتصال.. واخ واخ واخ..
حتى تتصل وتتكلم مع المشفى لا يبقى في جسد الجريح نقطة دم.
-صحيح، من دوختي، ظننت أنه يمكن الاتصال بهواتفنا.
نط السائق قائلاً:
-يا هوه.. كيف لم نر هذه السيارات كل هذه الفترة. أنظر إنها واقفة في ظلال الأشجار..
اذهب لعلك تجد صاحب ضمير يساعدنا.
ذهب المعاون. عند عودته كان يبدو اليأس على وجهه
قال:
-في تلك السيارات أناس من طبقة اجتماعية راقية جداً.
-كيف عرفت؟
-كل هذه الفترة وأنا أراقبهم. من خلال مراقبتي لم أر أياً منهم في وضع طبيعي.. هذا يعني
أنهم من الطبقة الاجتماعية الراقية .. لا أدري ماذا يسمونهم؟ طبق القتسطة على ما أظن.
-ليس طبق القتسطة يا بني. طبق القشطه؟
بعد أن عملا فترة طويلة على إيقاف سيارة في الطريق ، وقف تكسي أخيراً .عندما فهم
السائق أنهما ليسا من الزبائن، وأنهما موظفا الإسعاف التي تحمل مواطنين عملا حادثاً فقال:
-مشغول، ذاهب لعند زبون.
قال سائق الإسعاف:
-نحن أبناء مهنة واحدة. لا تعمل فينا هكذا نقاصة. أخذت رقم سيارتك والباقي تعرفه أنت.
قال سائق التاكسي بعد هذا الكلام:
-يالله لم يطاوعني ضميري على ترككم، لو دفعتم أم المئة أوصلكم إلى أقرب مشفى.
بينما كنا نضع الجريح في السيارة. بدأ سائق التاكسي يصرخ:
-لا يصير. رجعت بكلامي. انصبغت السيارة بالدم.
سأله سائق الإسعاف:
-من أي نادٍ أنت؟
-بشكطاشي.
-ولاه يا صاحبي، هل يمكن أن تكون بشكطاشياً وتترك جريحاً بشكطاشياً وسط الشارع؟ ولا
تسأل من يكون هذا الجريح؟ ألا تعرف أن هذا الجريح هو جناح فريقنا الأيمن؟
وقف سائق الإسعاف أمام الجريح كيلا يرى وجهه وهو يتكلم.
قال سائق التكسي:
-واخ واخ ما كنت أعرف.. ثم جلس خلف المقود.
-كنت قل هذا من الأول يا أخي.. آخذه على رأسي. ما السيارة فداؤه، قل بشكطاشي قبل أن
تُركبه.
ذبابة الحمار الحبيبة، هذا أنت ترين. إذا كان على الموت فقد مت، ولكن لم أمت رسمياً حتى
الآن.
مع أجمل تمنياتي
حمار ميت
*أحد أندية الدرجة الأولى (فنار بهجة.(
*لكل نادي علم خاص به يحمل ألوانه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق