الرسالة الحادية والعشرون
أختي ذبابة الحمار:
حدثت أشياء غريبة هنا في القبر. كانت ثمة أصوات أقدام فوق التراب لا بد أن بعضهم يتجول فوق رؤوسنا. قال الرجل الذي تحتي كونه دفن قبلي:
- صار الوقت ليلاً.
قلت:
- كيف تفهم الوقت، نهاره وليله تحت التراب؟
قال:
- لا تستطيعون سرقة شواهد القبور في النهار ياه..
هذه الأصوات . أصوات وقع أقدام لصوص شواهد القبور. يبيعونها لحجاري الشواهد. وهم يعدلونها حسب الطلب. ليبيعوها لآخرين. بعض حجارة القبور بيعت لثلاثة أربعة أشخاص.
يسرقون حتى الأكاليل الموضوعة على القبور الخاصة. ولأن أعواد زهور الأكاليل قصيرة فلا تجد سوقاً جيداً.
سألته:
- أين حارس المقبرة؟
قال:
- موجود. يعملون اتفاقية بينهم وبينه فلا يتركون مجالاً لنشوب الخلاف...
يقال أيضاً إن هناك من يفتح القبور لسرقة أسنان الموتى الذهب، أو البلاتين. ولكن لم أشهد حادثة من هذا النوع. منذ قدومي حتى الآن. أي خلال أربعة أيام. كانت المرأة الميتة من
وضع المسهل في الكاتو تحكي دون توقف.
سألت الرجل الذي تحتي:
- هل أصبح الصباح؟
قال:
- بماذا يهمك الصباح من المساء؟
ثم أضاف:
- نحن هنا خارج الزمن.
- حدثت ضجة فوق رأسي. قال الرجل الخارج من الزمن.
- الوقت ليس صبحاً، نحن على وشك الظهر.
إنهم يحفرون فوقنا ياه.. سيدفنون في هذه الحفرة فقيراً آخر مثلنا. حدث هذا بالفعل. لم يحفروا التراب بعمق. وضعوا ميتاً مسناً جداً. بعد أن أزاحوا التراب قليلاً، بقدر ما يتسع لميت. يفهم
من الأصوات التي تأتي من فوق أنهم شخصان. وعلى الأكثر ثلاثة. رشوا فوقه التراب كما يرش الملح على الخيار. حسب اعتقادهم أنهم أغلقوا القبر، بعدها بدأ ذاك الصمت المطبق في
منطقة خارج الزمن تلك:
الصمت لا يقطع أبداً كلام الأموات. لهذا قال الميت الذي تحتي للميت المدفون حديثاً:
- ما هو سبب موتكم؟
لم أقصد بهذا القول أنه خوف صمت القبر.
نعم، سأل الميت الذي تحتي الميت الذي فوقي عن سبب موته. وهكذا شرح الميت الجديد: لم أعرف سبب موتي حين مت. ولكن عرفت من خلال نقاش الأطباء فوق رأسي بعد موتي. قالوا إنه لا يمكن إجراء جراحة للمريض الذي أخذ كورتيزون قبل إخراجه. نسي الطبيب الذي أجرى لي العملية قراءة تقرير المعاينة الذي أعطوني إياه في المشفى. لا يعرف أنني أخذت كورتيزوناً مع أنه مكتوب في التقرير. وعلى قول الأطباء أن الجراح أجرى لي عملية ناجحة جداً. حتى زملاءه الأطباء هنأوه. إذا كان على نجاح العملية، نجحت. ولكن مع الأسف الطبيب لا يعرف أنني أخذت كورتيزوناً، فلهذا مت، طبيعي لم يمنع نجاح العملية موتي.
صحيح أن الموت كان نهاية العملية الناجحة. ولكن لم تكن العملية هي السبب لهذا الموت.
السبب هو أخذي كورتيزوناً.
لأنني لم أفهم شيئاً من هذا، سألته:
- وماذا يعني هذا؟
- هذا يعني أن الأطباء الذين عاينوا جثتي قالوا إن العملية ناجحة جداً، وبالتالي، أثبتوا أن الطبيب الذي أجرى الجراحة غير مسؤول عن موتي. أحد الأطباء الذين فوق رأسي قال
إن الطبيب مجبر على قراءة التقرير، ولو قرأه لعرف أنني أخذت كورتيزوناً وكان سيؤجل العملية حتى يخرج الكورتيزون. قال الطبيب الآخر:
- سيدي، هذا الرجل "كان يشير بإصبعه إل ي" في السادسة والسبعين من عمره، ما شاء
الله عاش ما استطاع. يعني لو لم يكن أخذ كورتيزون ونجحت العملية، ولم يمت فوراً، كم سيبقى حتى يموت (ما هيك)* ممكن أن يكون قبل العملية (ما هيك؟).
عاد صمت الموت عندما سكت الرجل. ثم سأل المقبور الجديد:
- كم ميتاً نحن في الحفرة؟
قلت:
- نحن بما فيهم أنتم، ثلاثة رجال وامرأة. يعني أربعة.
قال الميت الذي تحتي:
- هذا الذي نعرفه، حيث لا نعرف ما تحت المرأة الميتة.
قال الميت الذي فوقي:
- اترك ما تحت الأرض. إذا لم يطبق تحديد النسل، سوف لن يبقى مكان للناس حتى
فوق التراب.
بعدها قدم حديثاً طويلاً حول فوائد تحديد النسل.
الحقائق واضحة بالأرقام. لو كان في تركيا بدلاً من الأربعين مليوناً عشرون فقط، من الطبيعي أنه سوف لا يبقى فقراء. لأن أكل الأربعين مليون من بيض ولحم وحليب وحبوب سيأكلها عشرون مليون فقط لما بقي بطالة. ولو كان في تركيا بدلاً من العشرة ملايين خمسة ملايين فقط لزالت أزمة السكن، وأصبح عند كل شخص بيتان أو ثلاثة. عصب الميت الذي فوقي عندما بدأ الميت الذي تحتي بالضحك. وصاح به:
- لماذا تضحك؟
قال الذي في الأسفل:
- أنتم على حق. الحساب واضح. لو كان يعيش في تركيا بدلاً من الخمسة ملايين مليونان فقط، لعم الرخاء.. ولكن أليست كذلك دولتنا. مهما كان، لا يوجد في بلدنا أكثر من مليونين يعيشون مثل البشر.
قال الذي فوقي بصوت عالٍ:
أربعون مليوناً...
- نعم. أربعون مليوناً، الثماني والثلاثون الذين لا يعيشون والميتون دون أن يعيشوا، يعملون لكي يعيش المليونان أو قل الخمسة ملايين مثل البشر.
- ما الذي تعنونه؟
أحسست أنه علي أن أدخل الحديث:
- لا تخيفوا الناس على الفاضي.. هذا نحن كلنا متنا.. ليس هناك ما بعد الموت..
الحمار الميت لا يخاف من الذئب.
قال الرجل الذي تحتي:
- هذا الذي يسمونه تحديد النسل أوجده أولئك الذوات ليلهوا به الناس وليعيشوا بشكل أفضل.
قال الذي فوقي:
- وماذا يعني هذا؟
و ضح الذي تحتي:
- الأمل في المستقبل، أي في الأجيال القادمة.. عمل الجيل الماضي ما عمله.. يجب تنشئة الجيل الجديد بشكل، يفتح فيه عينيه على ما حوله، وبالتالي يظهر العظماء من الجيل.
يعني إذا تحدد النسل، تحدد الجيل القادم. هذا يؤدي إلى قلة احتمال ظهور العظماء بينهم.
السن الأكثر عطاء وإبداعاً سن ما بين العشرين والخمسين. الناس عندنا غالباً ما يصبحون بعد سن الخمسين عالة على غيرهم. الذوات يعيشون حتى الستين والسبعين بل وحتى الثمانين.
وهم يمتصون دم الجيل الجديد. ويطالبون بتحديد النسل ليحملوا هذا الجيل عبئاً أكبر. لماذا يطالبون بتحديد النسل، لماذا؟ لكي يبقوا مسيطرين. دنيانا يديرها الذوات. انظر، انهم على
رأس أي نظام في الدنيا. يريد هؤلاء الأوغاد أن يعيشوا أكثر حتى لا يبقى في أجسادهم إلا الكلس الذي لا ينفع حتى الطبيعة. تكلس كل مكان في الذوات حتى عقولهم.. بخلاء لا يفعلون
ما يفيد أحداً ولا يموتون حتى يتكلسوا جيداً لكي لا تستفيد منهم الأرض كسماد.
قال الذي فوقي بصوت فيه شيء من الزعل:
- ما الذي تريدونه؟ أنتكاثر. نتكاثر.
قطع الذي في الأسفل حديث الذي في الأعلى سائلاً:
- ما هو أكبر مورد لتركيا من العملة الصعبة. سكت قليلاً ثم أجاب نفسه.
- أمن القطن؟ التبغ؟ البندق؟ النحاس؟ لا ليس من أي منها. من أين ؟ من الإنسان،
أرسلنا عمالاً إلى الخارج. ونحن نقف اليوم على أرجلنا بفضل ما يرسلونه من عملة صعبة...
هذا يعني أن الإنسان ضروري لنا. كان يزيد غضبه كلما استمر.
- اليوم، كلمتنا في هذه الدنيا تسمع قليلاً لأننا أربعون مليون. لو كنا عشرة ملايين من سيرد علينا.
قال العجوز الذي في الأعلى:
- لو كان تكاثرنا جيداً لدعمتنا الدول الصديقة التي تعطينا قروضاً. ازداد غَضب الذي تحت حتى أنه بدأ بالصراخ:
- سبب تشجيع تلك الدول لعدم تكاثرنا مختلف. إنهم يخافون لو تزايدنا أن نجد في اليسارية طريقاً للخلاص. إنهم يعطوننا حتى لا نصبح يساريين. ويقولون لنا حددوا النسل حتى يبيعونا آلات ومواد صناعية أدوية تحديد النسل.
جيد لو قطع كلامه هنا. لكن لم يستطع أن يمسك نفسه فصاح قائلاً:
- أفهمت يا حمار ابن الحمار.
خفت أن تبدأ خناقة كبيرة، ولكني هدأت هندما تذكرت أننا أموات. والأموات لا يتخانقون.
أقفل حديثنا عندما سمعنا لحناً جنائزياً من الأعلى. قال الرجل الذي تحتي:
- هذا اللحن الجنائزي لشوبان الله أعلم كم جوقة موسيقية تعزف هذا اللحن في الدنيا في هذه اللحظة، وبالتالي يعذبون روح شوبان. لماذا لم يلحن شوبان لحناً راقصاً بدلاً من هذا ليعزف في جنازة أي شهير في هذه الدنيا..
كان اللحن يبتعد عنا. من الواضح أن الجنازة تتجه إلى الطرف الآخر حيث القبور الخاصة.
أما المكان المدفونيين فيه نحن يشابه أحياء الأكواخ.. ليس لقبورنا شواهد. تلال صغيرة من التراب، تتوزع مع الأيام. تدق فوق هذه الكومات الصغيرة أحياناً قطعة خشبية مكتوب عليها بخط متعرج هوية الميت...
الموت ليس خلاصاً. لننتظر ما الذي سيقع على رؤوسنا سأكتب لك حتى أغطي مقدار السلفة التي أخذتها من مديري يا عزيزتي ذبابة الحمار .
أتركك بخير.
حمار ميت.
عزيز نيسين
* استعمل التركيب في النص الأصلي بالعامية كما الكثير من كلمات النص لذلك أوردها بالعامية العربية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق