الأحد، 12 مايو 2013

كيف ينقل الجرحى من مشفى إلى مشفى


ذبابة الحبيبة:
كنت أظن أننا أتينا إلى نهاية الورطة. وإذ علي أن أذوق الكثير. صدقي أنني لا أبالغ أو أؤلف بقصد تخويفك من الموت.
هل تكتئبين من ذكر كلمة الموت بشكل مستمر يا ترى؟ لي غاية من كتابتي لك من المقبرة هي إبعاد شبح الخوف من الموت عنك. كيفما كان ليس لأي ذي روح على سطح الأرض مهرب من الموت، فَلِم الخوف إذاً؟ ممكن من خلال رسائلي التي أرسلتها من المقبرة أن تأخذي الموت من الجانب المسلي، المضحك الشبيه بالخروج في نزهة... لنعد لسفرتنا.. كلما سخن المحرك تبخر الماء حتى انتهاء ماء السيارة في الطريق.. خرج الثلاثة للبحث عن الماء حيث كنا خارج المدينة.
صاح المعاون من بعيد:
-وجدت.. هنا يوجد بركة ماء..
أحضروا الماء بواسطة وعاء. فهمت – من خلال كلامهم – أن الذي وجدوه طيناً وليس وعاء. فور وضعه في الخزان قفزت صغار الضفادع إلى أعلى من تأثير الحرارة، وهكذا استطاعوا تسيير السيارة إلى عند صنبور وملؤوها بالماء. انتهى البنزين. أخذوا بنزين. نّفست العجلات، نفخوها. بعد قليل انفجرت العجلة. تعاونوا على رقعها.
بعد مجموعة حوادث تملأ كتباً. وصلنا إلى أول مشفى. كان قد أصبح الوقت ليلا.
باءت عمليات بحثنا عن الطبيب المناوب بالفشل .مددوني جانب الجريح على الأرض. نظرت الممرضة إلى الجريح الذي كان ينزف وسألت:
-متى جرح؟
رد على السؤال سائق الإسعاف المتفاني من أجل إنقاذ حياة الرجل.
-قبل الظهر.
-من أسعفه..
أجاب السائق بأننا منذ الصباح في الطريق. ونصحها ألا تركب سيارة إذا كان عندها عمل مهم.
سألت الممرضة:
-وهل الدماء تسيل من الرجل بهذا الشكل منذ الصباح؟
قال السائق:
-نعم.
نقرت الممرضة بإصبعها على خشب الطاولة كما تفعل النساء حرزاً من عين الحسود وقالت:
-ما شاء الله. ما أغزر دمه، الله يحميه من العين..
لم يستطع أحد أن يفعل شيئاً لعدم وجود طبيب مناوب .ذهبنا إلى مشفى آخر، الجريح محظوظ، بعد ساعة بحث وجدوا الطبيب المناوب. قال المسكين بعد أن عاين الجريح:
-يا حرام، لا أستطيع عمل شيء. ليس لدينا أي علاج يقطع الدم السائل أو يسيل الدم المقطوع في المشفى. ليس لدينا سوى الأسبرين والكحول واليود والقطن. أعطيكم منها إن أردتم. لعلكم تحتاجونها.
ولإنقاذ سمعة المشفى أضاف الطبيب:
-هناك الكثير من الأدوية الأخرى بالطبع.. أدوية السكر، القلب، الروماتيزم..
قال السائق:
-الرجل يموت أمام أعيننا.. لو استطعنا إيصاله إلى مشفى الإسعاف. ليمت هناك أفضل...
قال الطبيب:
-لا فرق بين الموت هنا أو هناك.
قال السائق:
-يموت هنالك براحة أكثر.
سأل الطبيب:
-متى أصيب؟
-قبل الظهر.
-وهل ينزف من حينها بهذا الشكل.
-لا، كان ينزف بشكل أغزر قبل ساعات ولكنه قل مع استمراره.
-قال كالآخرين:
-ما شاء الله . رجل غزير الدم.
ذهبنا إلى مشفى آخر كان سيتركنا السائق ويذهب عندما علم أنه سيقبض أجرته من مشفى البلدية ولكنه لم يستطع كانوا يصطحبوني معهم لعدم قبول المشافي للموتى.
الجريح محظوظ وجدنا في المشفى الثالث طبيباً مناوباً وممرضة وأدوية. حتى إن الطبيب المناوب قال:
-وجود هذه الأشياء الثلاثة مجتمعة في مكان واحد أمر صعب جداً. لقد صادفتم يوماً متميزاً.
أرادوا تسجيل هوية المصاب قبل معاينته. بحثوا عن موظف القيود فلم يجدوه.
قال السائق مقترحاً:
-خذوه إلى غرفة العمليات . ثم تسجلونه فيما بعد.
عندها غضب أحد الموظفين وقال:
-لا أحد يمد يده على مريض غير مسجل. وإلا كيف سنصرف له الدواء. صرف الدواء دون تسجيل يؤدي إلى باب سوء التصرف. غضب السائق عندما ذهب البعض للبحث عن موظف
القيود ولم يعودوا، وقال:
-لو كنا حملناه على ظهرنا لأوصلناه إلى مشفى الإسعاف الأولى منذ زمن.
في تلك الفترة كان موظف القيود عائداً من نفسه لينام. جلس إلى الطاولة مثل أي موظف مخلص لعمله، ثم وضع نظارته بهدوء، فتح الدفتر بدقة، سحب قلمه، بدأ التحقيق:
-اسم المصاب؟
-قال السائق:
-من أين لي أن أعرف، أنا سائق البلدية. أخذت الرجل إلى السيارة بعد إصابته بحادث مرور.. تعطلت السيارة في الطريق ونتجول منذ الصباح ..وأخيراً وصلنا إلى هنا.
قال موظف القيود:
-طيب، طيب، نكتب مجهول الهوية وينتهي...
قال المعاون:
-يا أخي أمن أجل هذا ننتظر كل هذا الوقت؟
قال الطبيب انتهت المعاملة الرسمية. لكننا لا نستطيع أن نفعل شيئاً بدون أشعة، وجهاز الأشعة عندنا معطل.
-إذا كان لا يوجد أشعة فلماذا القيد؟ فوقها أضعنا كل هذا الزمن؟
أجابت رئيسة الممرضات:
-القيد شيء والعلاج شيء آخر. إننا نرفع شهرياً جدولاً بعدد المرضى الذين دخلوا مشفانا، لو ما عملنا قيداً فليس هناك جدول.
قال موظف القيود:
-صحيح إن جهاز أشعة مشفانا خربان ولكن عمل القيد على ما يرام.
قال سائق الإسعاف لسائق التاكسي:
-يا صاحبي كيفما كان نقودك تأخذها، إما من مشفى الإسعاف أو مشفى البلدية. أو تجد أحد أقرباء المصاب فتأخذ منه.. عملت خيراً، نقلناه من مشفى إلى مشفى حتى هذه الساعة المتأخرة.. فتممه.. وأوصلنا إلى مشفى الإسعاف الأولي.
-أين سأجد أقرباء المصاب ياهوه.. أنا أريد نقودي.
-سهلة، اعتبر نقودك في جيبك..
لم تحتمل أعصابهم وجود ميت بينهم فحشروني في) الباكاج.(
قاد سائق التاكسي سيارته وهو يتكلم:
-درنا كل هذه المشافي ، في بعضها لا يوجد ممرضة، في بعضها الآخر لا يوجد طبيب، وإذا وجد الطبيب والممرضة فلا يوجد علاج، وإذا وجد الآخر فليس هناك جهاز أشعة وإذا وجد فمعطل، كأننا سنجد هذه الأشياء مجتمعة في مشفى الإسعاف الأولي.
قال السائق:
-موجودة ، حتى لو كانت غير موجودة نتدبر الأمر. نربط الجريح بخيط ، بحبل، أو شرشف ونقطع نزف الدم ريثما يأتي الطبيب. من الممكن أن يختنق المريض من الضغط ولكن لا نتركه ينزف..
قال سائق التاكسي:
-أنا لا أفكر في النقود، لأنني لو كنت قد شغلت عدداً منذ ركوبكم لسجل مئتي ليرة. أنا شخص فضولي. والفضول دفعني لمعرفة أي مشفى فيه الطبيب والممرضة والدواء والأشعة كلها مجتمعة، لهذا أنقلكم من مشفى إلى آخر. وإلا كنت من زمان أنزلتكم من السيارة وسحبت.
وصلنا إلى باب مشفى الإسعاف الأولي. أنزلوا الجريح حيث كانوا ، دلوا أرجله من النافذة حتى لا يتسخ فرش السيارة بالدم. لم يفتح أجد الباكاج الذي حشرت فيه. نسوني هناك. ماذا أعمل؟ لو صحت أنا هنا لا أحد يسمعني لأنني ميت. لو فتح الباكاج ورآني من يعلم ماذا سيفعل؟
بينما كنت أفكر بما يمكن أن أفعله – مع أنني لا أستطيع أن أفعل شيئاً – كانوا يحملون الجريح على النقالة انفجر زعيق خلف السيارة. فتحت باب الباكاج الذي كان مفتوحاً قليلاً ونظرت دون أن ألفت انتباه أحد. القادمون كانوا دورية شرطة. نزلوا بسرعة وطوقوا النقالة التي كان عليها الجريح. سحب أحد رجال الشرطة مسدسه وصاح:
-لا تتحركوا..
صاح شرطي آخر:
-لا تتحركوا..
قال ثالث:
-ارفعوا أيديكم..
أسقط النقالة حاملوها لشدة خوفهم فجرح الجريح مرة أخرى.
طوقونا ، قال أحد المطوقين:
-وقعتم في قبضة العدالة.
صرخ أحدهم يجب أن يكون رئيس الدورية.
-أين البغل الذي ذبحتموه، أخرجوه بسرعة.
تأتأ السائق:
-بغل ماذا؟ أي بغل؟
-بغل، حصان، أو حمار.. نحن نتبعكم من المسلخ، تبعنا أثر الدم فعرفنا طريقكم. لقد لوثتم شوارع اسطنبول كلها بالدم.. يعني تذبحون الحمير والبغال وتطعمونها لسكان اسطنبول على أنها خراف ذات حدوات، هذا؟
قال السائق:
-لا بغل ، ولا حمار، ولا حصان.. والله انسان.
-ماذا؟ إنسان؟ آه يا وحوش.
شرح حقيقة الوضع لرئيس الدورية.. عندها قال:
-ما شاء الله، كم من الدماء في جسد الرجل.
ولكي يضرب مثلاً حياً على ارتفاع المستوى الاجتماعي في البلد. قال رئيس الدورية بعد أن حمل الجريح إلى داخل المشفى:
-لقد جئنا إلى هنا. لنفتش السيارة، لكي نعمل شيئاً ، ولا نعود بخفي حنين..
عندما عرف أن ثمة ميتاً في الباكاج.
-ما هذا؟
قال السائق:
-كما ترون، ميت، رجل منحوس، كل ما جرى على رؤوسنا بسبب جلب جثته إلى هنا.
أخذوا الجريح إلى مكان آخر وبالتالي افترقت عن رفيق طريقي الطويل .
رموني في مكان من قبو المشفى عندما عرفوا أنني ميت لكي يرسلوني إلى الطبيب الشرعي.
حيث رحت نائماً على البلاط لشدة تعبي من الهز في السيارة.
آه يا ذبابة الحمار الحبيبة، إذا كان عندك عقل لا تملي الحياة بسرعة. أنا أكتب لك من مصاعب الموت لكي تشعرين بطعم العيش في تلك الحياة الجميلة . صحيح أن الحياة لأمثالي وأمثالك صعبة لكنها جميلة.
سلامي ومحبتي
حمار ميت
الكاتب عزيز نيسين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق