أصبحت شقيقتي البالغة من العمر ثلاثة سنوات مريضة فقد كانت لا تستطيع الوقوف على رجليها.
بعد مرور سنة أدركت أنها مصابة بمرض كساح الأطفال ( و هو مرض يصيب العظام ) و هو ناتج عن سوء التغذية وعدم الاهتمام اللازم .
ربما يتسأل البعض: ماذا عن الطبيب ؟. في ذلك الوقت كنا نسمع فقط بأسم الطبيب. كان الطبيب بالنسبة إلينا حالة من الرفاهية و لذلك لم يكن من المتاح لنا أن نستعين بطبيب أو حتى نسمع صوته.
عندما يموت طفل كان يقولون : " الله أعطى و الله أخذ " و لكن لو تلقت شقيقتي تغذية سليمة و جيدة بإشراف طبيب، لتحسنت حالتها كثيراً و أصبحت في صحة أفضل.
جربوا كافة أنواع الأدوية, و الأدوية التي أتكلم عنها هنا هي الوصفات الشعبية التي يتم تجهيزها بلا نقود, و عندما فشلنا، أخبروا أمي بطريقةٍ أخرى لمعالجتها: " في المساء، عندما تقام صلاة المغرب، خذي الطفلة إلى المقبرة و اتركيها فوق حجر قبر ثم أرجعي البيت دون أن تنظري إلى الوراء. و بدون أن تشربي أي شىء حتى لو كان قطرة شاي واحدة. سوف يتبعك البعض و سوف يحضروا الطفلة في البيت ".
أوضحت أمي للطفلة أنه إذا أردات أن تشفى و تتحسن و وإذا أرادت أن تمشي و تلعب كما كانت في السابق فعلينا أن نتبع هذه الوصفة، قالت لها أمي: " يجب ألا تبكي عندما نتركك في المقبرة ", و كانت شقيقتي بنت ذكية و مطيعة.
كانت أمي تأخذ شقيقتي في ذراعها كل مساء و تأخذني بيدها لنذهب إلى مقبرة " جروكلوك " التي تقع بين منطقة " كاظم باشا " حيث نسكن و منطقة " بيغولو " حيث كانت أشجار الصنوبر الكثيفة في المقبرة تجعل من ظلام الليل أكثر عتمة. في هذا الجو الكئيب تبدو القبور أكبر بكثير من حجمها الحقيقي. عندما تنتشر أصوات آذان صلاة المغرب من المآذن و المنارات، تترك أمي شقيقتي فوق حجر القبر و تأخذ يدي و بدون أن تنظر إلى الوراء كانت تسرع الخطى بعيداً. استمر هذا الحال لشهور عديدة حتى دخل الشتاء. و في كل مرة لم تلتفت أمي إلى الوراء و لم تصرخ شقيقتي ذات الثلاثة سنوات عندما توضع فوق حجر القبر.
لم أكن أستطيع رؤية وجه أمي أسفل خمارها. لم يكن أحد يدرك حجم المعاناة التي تعانيها, فقد كانت لا تتوقف و هي في الطريق بين المقبرة و البيت. عندما تصل إلى البيت عائدةً من المقبرة كانت ترمي بنفسها على المرتبة و تغمض عينيها حتى يعود أحدهم بشقيقتي من المقبرة.
أفكر كثيراً في تبعات ترك طفلٍ مريضٍ في مقبرة كملاذ أخير لكي يشفيه و يعافيه الله. إن الفقراء الذين لا يجدون طريقهم إلى الطبيب أو للأدوية و الذين ليس لديهم القدرة حتى على إطعام أولادهم، يسألون الله: " يا الله، تركت طفلي ها هنا عندك، فادفن مرض طفلي في الأرض، أرجعه يا الله لي معافى و سليم ".
في إحدى الأيام أحضر أبي تفاحاً إلى البيت. فأخبرني قائلاً : " أدر ظهرك ", فأدرت وجهي ناحية الجدار و وقعت تفاحة أمامي، ثم تفاحة أخرى. ثم قال أبي : " لقد أرسل الله إليك هذا التفاح فأدعوه ". إن الله الذي أرسل التفاح قد يشفي أختي أيضاً و لكن أختي ماتت.
حينما حملت أمي الكفن الصغير للقبر، كنت أظن أن الأمر لعبة, و ضحكت على العمة سارة التي كانت واقفة على باب الغرفة. أجل أنها لعبة، سيتركون أختي في هذا الصندوق الخشبي في المقبرة و هناك سوف تطيب و تأتي راكضة نحو البيت.
قالوا: " خذوا الولد بالداخل ".
وضعوني في الغرفة لأني لم أستطع التوقف عن الضحك و الضجيج. أتت إلى أمي و قبلتني, و أخبرتني: " ماتت أختك، يجب ألا تضحك ".
خجلت بعد أن علمت بأني فعلت شيئاً خاطئاً.
دائماً كنت أسأل لماذا أصبحت كثير الدعابة و الضحك, و لم أجد جواباً سوى: " أن الشيء الذي جعلني مداعباً هو حياتي التي عشتها, لقد كانت حياتي طريق طويل ملؤه الدموع ".
الكاتب :عزيز نيسين
بعد مرور سنة أدركت أنها مصابة بمرض كساح الأطفال ( و هو مرض يصيب العظام ) و هو ناتج عن سوء التغذية وعدم الاهتمام اللازم .
ربما يتسأل البعض: ماذا عن الطبيب ؟. في ذلك الوقت كنا نسمع فقط بأسم الطبيب. كان الطبيب بالنسبة إلينا حالة من الرفاهية و لذلك لم يكن من المتاح لنا أن نستعين بطبيب أو حتى نسمع صوته.
عندما يموت طفل كان يقولون : " الله أعطى و الله أخذ " و لكن لو تلقت شقيقتي تغذية سليمة و جيدة بإشراف طبيب، لتحسنت حالتها كثيراً و أصبحت في صحة أفضل.
جربوا كافة أنواع الأدوية, و الأدوية التي أتكلم عنها هنا هي الوصفات الشعبية التي يتم تجهيزها بلا نقود, و عندما فشلنا، أخبروا أمي بطريقةٍ أخرى لمعالجتها: " في المساء، عندما تقام صلاة المغرب، خذي الطفلة إلى المقبرة و اتركيها فوق حجر قبر ثم أرجعي البيت دون أن تنظري إلى الوراء. و بدون أن تشربي أي شىء حتى لو كان قطرة شاي واحدة. سوف يتبعك البعض و سوف يحضروا الطفلة في البيت ".
أوضحت أمي للطفلة أنه إذا أردات أن تشفى و تتحسن و وإذا أرادت أن تمشي و تلعب كما كانت في السابق فعلينا أن نتبع هذه الوصفة، قالت لها أمي: " يجب ألا تبكي عندما نتركك في المقبرة ", و كانت شقيقتي بنت ذكية و مطيعة.
كانت أمي تأخذ شقيقتي في ذراعها كل مساء و تأخذني بيدها لنذهب إلى مقبرة " جروكلوك " التي تقع بين منطقة " كاظم باشا " حيث نسكن و منطقة " بيغولو " حيث كانت أشجار الصنوبر الكثيفة في المقبرة تجعل من ظلام الليل أكثر عتمة. في هذا الجو الكئيب تبدو القبور أكبر بكثير من حجمها الحقيقي. عندما تنتشر أصوات آذان صلاة المغرب من المآذن و المنارات، تترك أمي شقيقتي فوق حجر القبر و تأخذ يدي و بدون أن تنظر إلى الوراء كانت تسرع الخطى بعيداً. استمر هذا الحال لشهور عديدة حتى دخل الشتاء. و في كل مرة لم تلتفت أمي إلى الوراء و لم تصرخ شقيقتي ذات الثلاثة سنوات عندما توضع فوق حجر القبر.
لم أكن أستطيع رؤية وجه أمي أسفل خمارها. لم يكن أحد يدرك حجم المعاناة التي تعانيها, فقد كانت لا تتوقف و هي في الطريق بين المقبرة و البيت. عندما تصل إلى البيت عائدةً من المقبرة كانت ترمي بنفسها على المرتبة و تغمض عينيها حتى يعود أحدهم بشقيقتي من المقبرة.
أفكر كثيراً في تبعات ترك طفلٍ مريضٍ في مقبرة كملاذ أخير لكي يشفيه و يعافيه الله. إن الفقراء الذين لا يجدون طريقهم إلى الطبيب أو للأدوية و الذين ليس لديهم القدرة حتى على إطعام أولادهم، يسألون الله: " يا الله، تركت طفلي ها هنا عندك، فادفن مرض طفلي في الأرض، أرجعه يا الله لي معافى و سليم ".
في إحدى الأيام أحضر أبي تفاحاً إلى البيت. فأخبرني قائلاً : " أدر ظهرك ", فأدرت وجهي ناحية الجدار و وقعت تفاحة أمامي، ثم تفاحة أخرى. ثم قال أبي : " لقد أرسل الله إليك هذا التفاح فأدعوه ". إن الله الذي أرسل التفاح قد يشفي أختي أيضاً و لكن أختي ماتت.
حينما حملت أمي الكفن الصغير للقبر، كنت أظن أن الأمر لعبة, و ضحكت على العمة سارة التي كانت واقفة على باب الغرفة. أجل أنها لعبة، سيتركون أختي في هذا الصندوق الخشبي في المقبرة و هناك سوف تطيب و تأتي راكضة نحو البيت.
قالوا: " خذوا الولد بالداخل ".
وضعوني في الغرفة لأني لم أستطع التوقف عن الضحك و الضجيج. أتت إلى أمي و قبلتني, و أخبرتني: " ماتت أختك، يجب ألا تضحك ".
خجلت بعد أن علمت بأني فعلت شيئاً خاطئاً.
دائماً كنت أسأل لماذا أصبحت كثير الدعابة و الضحك, و لم أجد جواباً سوى: " أن الشيء الذي جعلني مداعباً هو حياتي التي عشتها, لقد كانت حياتي طريق طويل ملؤه الدموع ".
الكاتب :عزيز نيسين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق