الرسالة الخامسة عشرة
أخذوني – نهائياً – إلى المشرحة. تصوري، براد كبير بحجم صالون ، المشرحة شيء كهذا. يدخل إلى الصالة، المشرحة هذه . من باب.. هناك باب آخر يؤدي إلى المكان الذي يقطَّع
ويفرم فيه الأموات. في المشرحة يحدد سبب موت الميت. هناك باب آخر يؤدي إلى خزان كبير. خزان ماذا؟ خزان ماء معالج، يغطس فيه الأموات المقطعين على شكل أذرع ورؤوس.
ستفهمين فيما بعد سبب شرحي المفصل لمخطط المشرحة.
بعد أن مددوني بين الأموات الآخرين بقليل، دخل خمسة – ستة أشخاص. من حديثهم فهمت أنهم أطباء. وعاملوا الطب الشرعي. في قعر الخزان تشققات تُسرب الماء المعالج. كانوا يتكلمون في موضوع كيفية صيانته. يبدو أنه أتى من يحاول تصليحه عدة مرات، وعندما يرون الأموات متمددين في المكان الذي أنا فيه. يهربون تاركين أدواتهم.
ما كانوا يتكلمونه: "كيف يمكن صيانة الخزان دون رؤية المصلحين للأموات؟ لمكان الخزان بابان. سيغلق الباب المؤدي إلى الصالة التي تحوي الأموات. بالتالي لا يرى المصلح وصبيته
الأموات. يستعملون الباب الآخر لمكان الخزان.
خرجوا بعد اتخاذهم هذا القرار . بقيت في البراد ذاك ثلاثة أيام. لا أذكر أنني ضحكت وتسليت كما في تلك الأيام الثلاثة.
كان يأتي إلى الطب الشرعي بعض من يبحث عن أحد أفراد عائلته أو قريبه، ممن هم في عداد المفقودين، أو القتلى ، فيفتح له باب المشرحة يفرجونهم الموتى. يعرض أحياناً، الموتى المجهولو الهوية من أجل تحديد هويتهم. لهذا كان باب صالتنا كثيراً ما يفتح ، ويأتينا زوار.
مثل عميلة التفتيش. ينحنون علينا، ينظرون في وجوهنا ليعرفوا فيما اذا كان الشخص الذي يبحثون عنه. ثلاث مرات، كادوا يأخذوني. إذا وجدوا الميت الذي يبحثون عنه، يأخذونه لعمل
مراسم الجنازة. كان سيأخذني رجل على أنني زوجته التي تركت له ثلاثة أطفال وهربت، ولكن بما أن جنسي مدرج في قائمة الطب الشرعي ذكر، لم يعطوه إياي. عرضوني على امرأة تبحث عن بنت هاربة لها، في الثالثة عشر من عمرها .وأخرى هاربة بعد أن قتلت أمها بالسكين. لم اعجبها فلم تختارني.
دخل شاب مع أحد موظفي الطب الشرعي إلى الصالون الذي نحن فيه. فهمت من كلامهما أنها ساعة الانصراف .وأبواب الطب الشرعي على وشك الإغلاق. ولأنه جاء من مكان بعيد جداً ليتعرف على جسد ابن أخيه الميت، توسل إلى رئيس الأطباء فأذن له بالدخول. دخل الموظف وأشعل النور وذهب بعد أن قال للشاب: "ابحث عن ابن أخيك.".
طالت فترة استعراضه وجوه الأموات .لم يجد ابن أخيه مشى يائساً إلى الباب. لم يستطع فتح الباب. لأن حارس الطب الشرعي، قفل الباب الحديدي الضخم ناسياً الشاب في الداخل. لَكم الشاب الباب الحديدي، لكمه ، لكمه، دون جدوى. إنه رجل جريء، لكنه خاف إلى حد لن تري مثله، كأننا نحن الأموات أغلقنا الباب عليه فكان يبكي دون أن يقترب منا أو حتى يلتفت لجهتنا. سكت فجأة. لم يصدر (تك) لا منه ولا من الأموات.. الباب لا يفتح إلا في حال جلب ميت جديد. يجن الرجل لحينها . وسيموت من البرد إذا لم يجن.. درجة الحرارة في الداخل خمس عشرة تحت الصفر. الرجل شجاع، ليس شجاعاً بكل معنى الكلمة لكنه ذكي.. كان يرتجف ويتعالى صوت صدى اصطكاك أسنانه ببعضها في ذاك السكون. المهم أنه يملك بعض المعلومات الفنية أخرج علبة السجائر وأخرج منها ورقة التغليف الداخلية وأدخلها في مكان ما من محرك جهاز التبريد فأحدث تماساً فوق المحرك وبالتالي توقف البرد. لكي لا يموت، أمضى الوقت حتى الصباح يركض بين الموتى. الفرجة الحقيقية كانت عند الصباح عندما فتح الحارس الذي قفل الباب ناسياً الرجل في الداخل. فوجد رجلاً حياً أمامه وبدأ يركض وهو يصرخ، ظاناً أن أحد الأموات قد بعث.
ركض الشاب وهو يصرخ للحارس لكي يقفل الباب بعد خروجه.
-قف.. يا هوه.. قف.. أنا لست ميتاً.
لكي لا يقف الحارس مرة أخرى كان يقف الشاب مقابل الحارس من جهة الباب وجرت مطاردة بين الأموات.. أية فرجة.. آه لو كنت حياً. لأضحك من كل قلبي. المهم دخل موظفون آخرون، وفهموا الوضع، لكن لسان الحارس ارتبط وبدأ يتأتئ.
لا تنتهي تسليتنا في المشرحة أبداً. في ذاك الصباح أتى مصلح مع عاملين لصيانة الخزان، كان الرجل لا يرى الأموات لأنهم أغلقوا الباب المؤدي إلى الصالة. نحن أيضاً لا نراه. ولكن
فهمنا أنه صاحب مزاج من خلال الأغاني التي كان يرددها وهو يعمل.
أمر المعلم صبيه بإفراغ الخزان.
من أين للرجل أن يعرف أنه نُسي في قعر الخزان بعض أعضاء الجسم المقطعة كالرؤوس والأذرع والأرجل.. سمعنا صراخ العامل ..
-دخيلك يا معلمي الحقني...
أظن أن الصبي كان يفرغ الخزان فأحس بيده وجود شيء ما، فسحبه. وكان سحبه يداً يصافحها وكلما سحبها كانت تسحب معه. لم يكد الصبي ينهي صرخته حتى طاف على سطح الماء رأس إنسان. أغمي على الصبي وسقط بين الأذرع، الأرجل والجذوع المقطعة. صحا المسكين عندما سقط في ماء الخزان المعالج، ثم أغمي عليه من جديد عندما رأى نفسه بين قطع الإنسان تلك.. أما المعلم، فهرب وهو يولول. نحن لم نسمع سوى ولولته. أتى فيما بعد إلى مكان الخزان الأطباء، الموظفون والعمال.
كان المعلم يقول مكرراً : "لا أعمل مهما أعطيتموني لا أعمل هنا."
لم يستطيعوا صيانة الخزان، طوال الفترة التي قضيناها هناك، لا بد وأنهم أصلحوه بعد خروجي. كان يمر وقتي جميلاً مسلياً في المشرحة. كنت أتمنى وجودك معي كنا تسلينا معاً. كم من
الأحداث التي مرة على رؤوس الأموات الذين هناك غريبة مضحكة.
لقد سررت لموتي، كوني استطعت أن أستمع إليهم وأتكلم معهم . يا للأسف.. لم يتركوني هناك أكثر من ثلاثة أيام. كنت أرغب في سماع حكايات كل الأموات الذين هناك.
سأحكي لك في رسالتي القادمة ما سمعت من أحداث غريبة
لك محبتي وأجمل تحياتي
حمار ميت
الكاتب عزيز نيسين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق