السبت، 4 مايو 2013

كيف نقل الحماار فى سيارة الاسعاف

الرسالة الثانية



ذبابة الحمار العزيزة والحبيبة

شرحت لك في رسالتي السابقة كيف مت، الأصح، كيف تمددت في ساقية على طرف طريق متماوتاً.. الصعوبة الحقيقية بدأت فيما بعد. اجتمع حولي كل من كان ماراً. صاح أحد المواطنين المتكومين فوق رأسي:
- أي جنس بشري نحن ياهوه..؟ يموت الرجل أمام أعيننا ولا تهتز لأحدنا شعرة.
قال آخر:
- صحيح. أكون سافلاً إذ كان قد بقي في هذا الوطن صاحب شي من إنسانية. هنا أشخاص كُثر ليس بينهم من يهب لتقديم المساعدة.
سأل أحد المزدحمين:
- لماذا لا تقدم المساعدة أنت؟ ألست إنساناً؟
- من الأفضل أن تسأل نفسك بدلاً من سؤالي؟
- أنا عندي شغل.. وإلا كنت رميت نفسي إلى الصيدلية وأخبرتهم هناك..
- عنده شغل. أي شغل وأنت تتفرج منذ نصف ساعة؟
تداخلت الأصوات على شكل ضوضاء.
- طبيب؟ طبيب؟ أليس من طبيب بين كل هؤلاء؟
- قرأت في الجريدة هذا الصباح عن هجرة العقول.. هاجر أطباؤنا إلى أمريكا وألمانيا.. يا أخي ما بقي ففي الوطن أطباء.
- بـ .. آه ألا تعرف شبكات الهاتف.. حتى تأتي حرارة الهاتف يكون الرجل قد فقد حرارته منذ زمن.
- لو انقضت بالموت نعمة.. لو انتظرت حتى إنجاز مخابرة تلفونية لما بقي من الرجل قطعة واحدة حيث تأكله الذئاب والطيور الجارحة. أتظن من السهل إجراء مكالمة هاتفية هذه الأيام.؟
- واخ واخ يموت الرجل أمام عيوننا!!!
- العدل.. لا يوجد عدل.
- ما الذي قاله الشاعر "عذبني آدم لم يبق عدل / أمي تبكي بين شجر اللوز المر"
قال شاب لآخر بجانبه:
- لا يمكن أن يحدث مثل هذا في أوربا أو في أمريكا، إنها دول حضارية.
- ماذا تعني، أتقصد أن دولتنا غير حضارية؟ إذا كنت رجلاً، كرر أمام هؤلاء الشهود.
- أنا لم أقصد هذا.
- ياهوه... اتركوا المجادلة واعملوا شيئاً. الرجل يموت.
- في أوروبا، لديهم مكاتب خدمات اجتماعية في حال حدوث شيء من هذا القبيل، لو سقط كلب متألماً وسط الطريق. يهبون بسرعة ويأخذونه إلى مشفى الحيوانات فوراً.
قفز الرجل الذي بجانبه.
- بلا خلط .. ليس هكذا .. في أوربا أو أمريكا، لا يتدخل أي شخص في شؤون الآخر. لكل شخص عمله حتى أنه إذا صرخ أحدهم بجانبك متوسلا "إني أموت، بَلعة ماء كرماً لله" لا أحد يعطيه ماء. فهمت؟
- سيدي، وهل ذهبتم إلى أوربا حتى تتكلموا هكذا؟
- شخصياً لم أذهب.
- إيه...
- إذا كنا لم نذهب ، فسمعنا ممن ذهب، فوق ذلك أنا أقرأ الصحف.. أذهبتم أنتم؟
- بالطبع. نظمت الرابطة النقابية في مؤسستنا السنة الماضية رحلة لمدة خمسة عشر يوماً في حوض البحر الأبيض. درنا كل من اليونان، إيطاليا ، إسبانيا طولاً وعرضاً وبعدها يا سيدي.. سيدي.. ذَكّرني ما اسمها.. المهم، كلها كل أوربا.
- وضع الإنسان الذي يتجول في أوربا شيء مختلف.
- في آخر رحلاتي إلى أوربا علمت أن...
- أليس من صاحب وجدان بينكم؟
- موجود، ما العمل؟
- جميل، اذهب خبّر الإسعاف.
- لا يتدخل أحد في أوربا أو في أمريكا في حي ولا في ميت. لماذا ؟ كونهم بلاد حضارية. لكل عمله . لانتشال الساقطين في الطريق، الساقطين في ساقية على طرف الطريق، الساقطين المتوفين، الساقطين غير المتوفين، منظمات مختلفة، لا يحدث كما هو عندنا هكذا. لا يقفون يتفرجون على موته وهو يلفظ أنفاسه ، يمرون دون أن يتوقفوا.
- يعني لم يبق عندهم إنسانية أيضاً، كيف يمر الإنسان دون أن يتوقف أو يعمل أي شيء، يلتفت على الأقل.
- هذا يعني، إلا من كان عمله. يأخذونه ويعملون به ما يريدون.
- لو فككت زنار وأزرار صدر المسكين.
- يا سيدي أفضل عمل في حالة كهذه التدليك. لو دلكه أحدنا لأنقذناه.
- لو حركوا أرجله وضغطوا على صدره قليلاً. يمكن أن يصحو.
- أي تدليك . يا أخي أي تدليك... آه.. مات الرجل وأنت بِمَ تتكلم.
- مات! واخ واخ.. أماه.
- لماذا استغربت.
- كان حياً قبل قليل.
- وما المدهش في هذا؟ بعدها مات. كل الأموات قبل أن يموتوا بقليل يكونوا أحياء.
- الروح مثل الطير، دقيقة موجودة ودقيقة لا.
- هذه نهايتنا جميعاً.
- نحن لا يمكن أن نكون بشراً يا أخي. وهل من الإنسانية أن يكون هذا الحشد فوق رأس الرجل ولا يساعده أحد.

عزيزتي ذبابة الحمار، في الحقيقة كنت معجباً جداً بحديث الناس المجتمعين فوق رأسي. لو كنت أعرف أن كل هذه المتعة لهذا الحدث لذهبت كلما ضجرت إلى إحدى الساحات المزدحمة ووقعت مؤدياً (مشهد) الموت.
لكن لحظتها لا يمكن لي أن أعمل ذلك المشهد لأنني وعدت بأنني سأموت. ولا يمكن لي أن أرجع في كلامي لأن كلمتي كانت أمام جمع غفير من الناس.
بعض العابرين، يقفون منذ نصف ساعة من الزمن يستفسرون، ويحصلون – حسب اعتقادهم – على بعض المعلومات عني، ويذهبون. والبعض يمل لسماع كثرة التفاصيل الدقيقة والمطولة فيولون. ولأن كل أربعة – خمسة أشخاص يحتلون مكان كل ذاهب، فالازدحام كان يكبر. يتدافعون لرؤية الميت.
صرخت امرأة بولد أمامها:
- ما عمل ولد يقف هنا أما رجل؟
بعدها قال رجل كان يحمي بين ذراعيه امراة من الزحام:
- لم يبق تربية. ومع هذا يقولون إنهم يربون الجيل الجديد للوطن "خرجت إلى الهضاب ، لأنه لم يبق عندي سوى صاحب الجناب".
- ومن هم الذين تجتمع فيهم الأبوة والأمومة في هذه الدنيا؟
قال واحد ممن يدقق في ألبستي، عيني، حاجبي...
- انظروا إلى ربطتي حذائه، إحداها سوداء والثانية بنية.
انفجر الجميع ضاحكين من هذا الكلام.

خجلت إلى حد. أردت أن أخفي إحدى قدمي تحتي حتى لا أبدو أنني استعملت ربطات حذاء مختلفة الألوان. ولأنني ميت فمن العيب أن أتحرك من ناحية، ومخالف للأعراف من ناحية أخرى. عندها أيقنت أنه على الواحد منا.. أن يفكر جيداً أو يستشير الآخرين قبل أن يعمل أي شيء. إذا كنت ستموتين فعليك أن تعرفي شكل استلقائك على الأرض. وعلى هذا الأساس ستحسبين سقوطك. أنا عندما مت تمددت في ساقية على حافة الطريق بشكل عشوائي، حتى إنني لم أفكر أن بعض النبهاء من المواطنين سيلاحظون أن ربطتي حذائي من لونين مختلفين.

قال أجد المدققين فيما كنت ألبس:
- أراهن على ان حذاءه رُقّعت نعلُه ما لا يقل عن ثلاث مرات. أكثر المتألمين عليّ كانت امرأة مسنة صباغها ودهونها طبقات.. طبقات. قالت:
- واخ واخ.. ما شاء الله رموشه طويلة ومقلّبة. يا حيف على شبابه.
ما هؤلاء الناس ليس بينهم أي شبه. منهم من هو صاحب مزاج بالشعر ومنهم بالرموش. من يخطر بباله أن هذه المرأة صاحبة مزاج بالرجال، ذوي الرموش الطويلة؟
- بنطاله عيون عيون.
- أكمام (جاكيته) مهترئة.
- بنطاله ذاب تماما عند الركبة.
- ما الذي تقولونه، ياهوه..
- ماذا سنفعل؟
- ليخبر أحدكم طبيباً.
- إنه يموت أمام أعيننا.
- لنر فيما إذا كان حياً.
- يا عزيزتي ليمت أو ليعش فما علينا نحن إلا أن نشهر إنسانيتا.
- كم عمره قولكم؟!
- أربعون.. خمسة وأربعون
- لا أظن ليس أكثر من ثلاثين
- أنا أعرف بالبشر. يكفي أن أنظر في وجه الإنسان لأعرف من أي طينة هو.. هذا الرجل موظف محدود الدخل مئة بالمئة.
- وأنا أقول أنه كذلك.. إنه من النوع الذي يعمل وهو يجلس إلى الطاولة بشكل دائم.
- من أين عرفتم هذا؟!
- انظر إلى كوع جاكيته لقد اهترأت تماماً.
- انه قصير القامة.
- لا يعرف عمره تماما.
- أتريد أن أقول لك شيئاً ؟ ليست الفرجة لمن يموت بأجَلِه هكذا أية قيمة. وليس لها أية بهجة. لينفذ الإعدام. عندها تصبح للفرجة متعة.

ذبابة الحمار الحبيبة، بقيت في تلك الساقية أكثر من ست ساعات على ما أظن لأن الشمس كانت على وشك المغيب، كان الناس يأتون فصائل فصائل ليتفرجوا عليّ. الجميع حزين ومتأثر، وتألموا لكوننا أناساً سيئين لا نساعد بعضنا. حتى أن البعض تمادى فشتم ودعا على من لا يمد يد المساعدة، وبينما كانوا على وشك رفعي، إذ بأحدهم يقول وهو معلم باعتقادي:
- لو كنت أعلم لأتيت بالتلاميذ ليتفرجوا كيف يموت الإنسان ونعمل درساً تطبيقياً.
صرخ أحد المواطنين محاولاً تفريق الزحام:
- ألم تروا في حياتكم ميتاً حتى تكومتم فوق رأسه.
حاول رجل آخر أن ينظم الجمع فقال:
- لنقف بالدور يا شباب، بالدور بلا تدفيش ولا مزاحمة.
بينما كانوا يضعونني في سيارة الإسعاف، شق أحد المواطنين الازدحام لرؤيتي قائلاً:
- دقيقة يا شباب.. لقد أتيت من مسافة بعيدة لرؤيته.
سألوا الرجل:
- أمن معارفكم؟ أم أقاربكم؟
قال:
- لا، علمت بالأمر فأتيت.
يا حرام، لم يتمكن كل المواطنين من رؤيتي.
انطلقت السيارة. تبعها ركضاً بعض الأولاد والشبان لدقائق، في النهاية فهموا على ما يبدو أن قوة الإنسان، لا يمكن أن تسبق قوة الآلهة.
ذبابة الحمار الحبيبة، في الرسالة القادمة أحكي لك حكاية رحلتي - نعم كانت رحلة – في سيارة الإسعاف.
تحياتي وقبلاتي لإبرتك وعيونك.


المخلص
حمار ميت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق