الرسالة الخامسه
عزيزتي ذبابة الحمار:
وعدتك في رسالتي السابقة أن أحكي لك كيف أُصلحت سيارة الإسعاف، ونُقلنا إلى المشفى .
اسمعي:
أدخل المصلح رأسه داخل المحرك محاولاً معرفة مكان العطل. لكنه لم يستطع بأي شكل،
رغم تكرار المحاولات. كان يخرج رأسه بين فترة وأخرى يسب ويشتم لمدة دقيقتين، يرتاح
بعدها، يشرب سيجارة. ثم ينحني على المحرك من جديد يحادث سائق السيارة.
-يا أخي ما دام الرجل أتى إلى هنا لشراء هذه التحفة. لو كنتم) أرخصتموها) عليه وتخلصتم
من هذه البلية. أنتم تتخلصون، ونحن أيضاً، والوطن كذلك ...من ناحية، لو أخذ هذه الخردة
إلى هناك ووضعها في (شادر) وقطع بطاقات من أجل رؤيتها.. سيجمع من ورائها نقوداً
كثيرة... انحنى مرة أخرى على المحرك وبعد فترة من ( خربطته) قال:
-كيف لي أن أكشف العطل وليس في هذه السيارة شيء سليم؟
رفس السيارة. تألمت قدمه. ذهب إلى الدكان وهو يعرج. جلس القرفصاء أسفل الدرج. كيفما
كان، أنا ميت ولا يستطيعون إنقاذي... يا ليتهم استطاعوا إنقاذ الجريح الذي بجانبي .قذف
معاون سيارة الإسعاف بصقة على الجريح الذي في العربة وقال:
-في حياتي لم أرى أنحس من هذا الرجل.
غضب السائق وبدأ يحادث نفسه:
-يمشون في الطريق ولا ينظرون أمامهم فيدهِسون أنفسهم ويبلوننا.
انضم المصلح إلى الحديث من مكانه:
-ماذا يستفيدون من النظر أمامهم.. إذا لم يدهسوا بالسيارات التي تأتي من أمامهم. فيدهسون
بالتي تأتي من خلفهم.
-استغفرك يا رب.. لا تدخل في شؤونه تعالى.. سبحانك يا الله، فعلت حسناً أنك خلقت
للإنسان عينين اثنتين.. لكن بدلاً من أن تجعلهما بجانب بعضهما، لو وضعتهما واحدة في
الخلف وواحدة في الأمام.
قال المعاون:
-عندما خُلق الإنسان لم تكن هناك زحمة مواصلات مثل الآن.
قال السائق للمصلح متوسلاً:
-دخيلك يا معلم. دخيل عينيك... الجريح يموت داخل السيارة من النزف.. قد يطلع أحد
أقربائه مسؤولاً فنبتلي.. دبرها، الله يخلي لك) هالعين (
وقف المصلح ودس رأسه تحت غطاء المحرك. وخربط فيه لفترة .. نهايتها عرف أين عطب
المحرك. عرف لكنه لم يجد القطعة المطلوبة.
قال:
-لا يوجد منها.
-دخيلك يا معلم.
قال المعاون:
-إذا كانت غير موجودة في أي مكان ، سأذهب وأسأل الصيدلية.
قال السائق بلهجة تأنيب:
-هو دواء ولاه..
قال المعاون:
-أين الدواء من الصيدليات يا معلمي.. حتى الاسبرين لا تجده في الصيدليات. ما عدا الدواء
كل شيء موجود.. ممكن أن نجد القطعة التي نبحث عنها.
-لقد جربت كل القطع التي عندي ليس بينها ما يصلح. منذ فترة، وقعت تحت يدي خردة
محرك طائرة نفاثة لأبحث بينها لعلي أجد ما يركب مكان القطعة.
قال السائق:
-إذا كان أجل هذا الجريح لم يأتِ بعد ستركب إن شاء الله.
أدخل المصلح يده بين القطع الصدئة وهو يقول "بسم الله" ثم أخرج واحدة، نفض عنها الغبار،
وضعها على طاولة العمل، بردها بالمبرد الخشن ثم الناعم، (جلخها)، عمل لها عملة. أدخلها
في مكان من محرك السيارة. ثم وقف مقابل السيارة وصرخ فرحاً:
-إيه، ما شاء الله، كأنها تفصيل ياه..
جلس السائق في مكانه من السيارة قال المصلح:
-النقود.
رد السائق:
-تعال إلى المشفى، اقبض نقودك.
-هذا يعني، احترقنا.
-لا تشغل بالك، تتأخر قليلاً. ولكن من المؤكد أنك ستأخذها.. ارفع مقدار الفاتورة وقابلنا بعد
أن تقبضها.
-فهمت لماذا كان السائق لا يريد أن يتخلص من الإسعاف. لو كانت جديدة ، لما احتاجت
للتصليح بهذا القدر. وبالتالي تقطع رزقه. هذا ما فهمته من قول المعاون للسائق:
-ما يدفع لتصليح هذه الخردة لمدة ستة شهور يكفي لشراء سيارة إسعاف جديدة.
-يبدو أن السائق فهم أكثر مما تعنيه حرفية هذا الكلام.
-لا تطولها، سأنظر في أمرك.
-قال السائق:
-يا الله.
صاح المصلح من خلف السيارة.
-انتبه! لا تسرع. إنها قطعة نفاثة، الله يحميها. من الممكن بأن تفاجأ أن خردتك هذه تطير.
بتدوير مفتاح التماس، وضغط السائق على (المرشْ) اهتزت العربة، زعقت، رفعت أنفها في
الهواء، سارت وهي ترتجف.
صرخ المعاون:
-نطير أم ماذا !دخيلكم!
قال السائق:
-حتى الآن، ولكن من الممكن أن نطير.
حدثت هزة قوية.
-هل هذا جيب هوائي.
-لا تمد ذراعك من النافذة ولاه.
-لماذا؟
-حتى الآن يسأل . سيصبح ذراعك جناح وتطير السيارة.
عدنا ندور في أزقة المدينة المتعرجة الضيقة. قال السائق:
) -يقطعها من هالعادة) السافلة، لا تمشي، لا تمشي، بعدها إذا مشت لا تعرف التوقف... آخ.
-دخيلك ما الذي حدث؟
-هزة قوية أسقطت كل قطع المحرك.
-لا تقلها يا معلمي.
-لم يبق في السيارة ما يدعى محرك.
-كيف تسير؟
-ألم ننطلق بسرعة، إنها تسير الآن بقوة ذاك الانطلاق...
-إلى أين ذاهبون؟
-غير معروف، قاع جهنم مثلاً.
-ماذا سيحدث.
-من أين لي أن أعرف.
-دخيل الحمار.. وهل يوجد مثل الحمار.. لو حملته زيت نفط لما طار هكذا .يستعملون
الحمار، عندما يذهبون لنزهة يصطحبونه معهم. من ناحية العناد فهو عنيد، ولكن مهما فعل،
في النهاية يعود إلى اسطبله لا يمكن أن يفعل مثل هذا. لا تدري إلى أين ذاهبة. إذا ركبت
الحمار وسرحت به فما عليك إلا أن تتركه يفلت نحو الاسطبل فيعود لوحده. عندما تصل إلى
الباب "تك" يقف. لا يفعل مثل هذه ، تذهب وتجيء من أمام باب المشفى دون اكتراث. لا
يمكن أن تكون أرواح المواطنين مؤمنَة إلا إذا صنعوا سيارة إسعاف تدخل (الكراج) من
نفسها.
قال السائق:
-ليس هذا وقت للهبل، انكب كل البنزين، ورغم هذا تطير . لو نصدمها في مكان ما ونوقفها
ليس من طريقة أخرى لتوقيفها ، زودّتها.
قال المعاون متوسلاً:
-دخيلك! إذا كنا سنصدم فاختر لنا مكاناًَ جميلاً، مرتفعاً ويكشف البحر.
-ما قولك في شجرة؟
-لا بأس ولكني منحوس ، الآن نصطدم في شجرة ايلنطس*. أو أجاص بري فيصبح موتنا
فاجعة فوق فاجعة. إذا كان لا بد للإنسان إلا أن يصطدم بشجرة فلتكن مزهرة.
-تفوه. كنا سنصطدم بالجدار.
-الجدار مكتوب عليه: "مكان خاص لتبول الحمير"... انتبه لا تصطدك فيه فتنعفس السيارة
وتغدو رقيقة وتلصق بالجدار فيظنها المارة إعلان جداري لمعمل السيارات.
بينما كانوا يبحثون عن مكان جميل ولين مناسب لصدم السيارة وقعت هزة كبيرة أخرى أخذنا
بعضنا إثرها – أنا والجريح – بالأحضان. قال الجريح:
-عفواً
الرجل لا يتنازل عن تربيته حتى وهو في طريقه للموت. كوني ميت لم أخرج صوتي قال
السائق:
-الحمد لله أننا اصطدمنا ووقفت السيارة ومرت على خير
ذبابة الحمار الحبيبة، هل يموت الإنسان لو كان يعلم أن كل هذا سيقع له. جمل لو كانت
انتهت عند هذا. لم يكفِ ما كنت أعانيه في حياتي، هناك ما ينتظرني بعد مماتي.
في رسالتي القادمة سأحكي لك ما وقع لي بعد ذلك.
مع تمنياتي بالنجاح والسعادة يا عزيزتي ذبابة الحمار.
مع محبتي وأشواقي
حمار ميت
*نوع من الشجر الحراجي. موطنه الأساسي الصين نقل إلى أوربا وانتشر بسرعة هناك لكونه سريع النمو
وكثيف الظل. رائحته غير جيدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق