السبت، 15 يونيو 2013

سوسيولوجيا العمل الجمعوي بالمغرب : ملاحظات أولية

فوزي بوخريص
عن جريدة الاتحاد الاشتراكي
الاربعاء 5 يونيو 2013
1   العمل الجمعوي في ظل الحماية الفرنسية :

ينبهنا الباحث عبد الله حمودي، إلى أنه من الصعب الحسم قطعيا في مسألة استمرار أو انفصال التنظيمات المدنية التي عرفها المغرب في السياق الاستعماري، وتلك التي ميزت المجتمع المغربي تاريخيا. فهناك تشكيلات مدنية نابعة من التجربة التاريخية الخاصة لمجتمعنا. لكن بعض تشكيلات المجتمع المدني لم تبرز في الواقع إلا ضمن السياق الاستعماري، أي في الهامش المدمج والمفرق بين التجربتين:المغربية والغربية.

وهكذا فقد شهدت فترة الحماية تأسيس عدد من الجمعيات، من أبرزها : جمعيات قدماء تلاميذ الثانويات في المراكز الحضرية مثل «جمعية قدماء ثانوية مولاي يوسف»بالرباط و»جمعية قدماء ثانوية مولاي إدريس»بفاس، وجمعيات الكشفية الإسلامية والحسنية، وجمعيات التربية والتخييم والفرق المسرحية…والفرق الرياضية المختلفة، والجمعيات الثقافية..الخ. ويذكر الباحث محمد سبيلا نماذج أخرى من هذه الجمعيات، أهمها: «النادي الأدبي» بسلا، «حماة الحقيقة «بالرباط، الرابطة المغربية للطالب» بتطوان، «جمعية المغرب الحديث»، جمعية الشباب المغربي»، «رابطة طلبة شمال إفريقيا»، «رابطة العمل المغربي»..الخ .وقد تأرجحت على العموم مواقف السلطات الاستعمارية تجاه هذه الجمعيات بين التشجيع، خاصة عندما يتعلق الأمر بجمعيات تخضع لتوجيه الإدارة وتخدم غاياتها، أو على الأقل لا تشكل أي تهديد لوجودها، وبين التضييق والحصار، في حالة العكس، كما حدث لجمعية قدماء تلاميذ ثانوية أزرو ، التي رفض الحاكم العسكري لجهة مكناس الترخيص بتأسيسها بتاريخ 27 مارس 1942، قبل السماح بذلك عندما ضمن إمكانية التحكم فيها عبر فرض قانون أساسي تحكمي و»تعيين» أعضاء الجمعية.
وفي مجال الحريات العامة، كانت المرتكزات الأساسية لقانون الحريات العامة، خلال نظام الحماية هي ظهائر 27 أبريل 1914، و9 فبراير 1918 و20 نونبر 1920 حول الصحافة، وظهير 24 ماي 1914 المنظم للحق في تأسيس الجمعيات ،و ظهير 26 مارس 1914 حول حرية الاجتماع .وتستمد هذه النصوص روحها من التشريع الفرنسي، لكن درجة ليبراليتها كانت أقل، لدوافع سياسية مرتبطة بضمان استمرارية الحضور الفرنسي بالمغرب.فعلى سبيل المثال تميز ظهير 24 ماي 1914 بطابعه التضييقي ، حيث كان يفرض على كل من يريد تأسيس جمعية، سواء كان مغربيا أو فرنسيا، ضرورة التصريح القبلي بذلك، كما كان يمنح للإدارة حق المراقبة الإدارية الضيقة، التي تصل إلى حد معارضة تأسيس جمعية ما ، في أجل ثلاثة أشهر انطلاقا من التصريح الأخير.
وعلى العموم يمكن القول ، مع الباحث محمد جسوس ، إن المجتمع المغربي ظل طوال قرون يعتمد على الأسرة والقبيلة والعشيرة والزاوية والجماعة، وكانت هذه التنظيمات تتكفل برعاية الأطفال، والاهتمام بحاجات الكبار والنساء ومختلف الأجيال وإدماجهم داخل المجتمع.كما كانت هذه التنظيمات قريبة من حياة المواطنين، بحيث يعتمدون عليها بشكل كبير في مختلف مجالات حياتهم .لكن مع بداية القرن الماضي بدأت هذه المؤسسات التقليدية تعرف تراجعا كبيرا من حيث سلطها ومواردها، وفعاليتها وقدرتها على الاستمرار في تلبية تلك الحاجيات.
وقد ساهمت السياسة الاستعمارية الفرنسية، في نظر الباحث علي الكنز ، في الحط من قيمة هذه الأشكال المحلية للتنظيم والتعبير، من خلال تأكيدها على التقابل بين «السيبة والمخزن»، أو بين ثورة الجموع و إرهاب الدولة.ونتيجة لذلك تقوى عند الوطنيين المغاربة احساس بالرفض لكل البنيات الاجتماعية التقليدية..
و بالمقابل لم يتمكن المجتمع المغربي من بناء مؤسسات بديلة للتنظيمات التقليدية إلا بصفة جزئية ، سواء تعلق الأمر ببناء تنظيمات المجتمع المدني ( الحزب والنقابة ..) أو ببناء صرح الدولة الحديثة ، من أجل التكفل بضمان الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والسكن والأعمال الاجتماعية..الخ، والتي شابتها عدة اختلالات، أفضت إلى بناء دولة متعالية ، مركزية وبيروقراطية ، تنزع نحو الاستبداد والاستغلال وسوء استعمال المسؤولية الإدارية والسياسية والموارد العمومية.وفي هذا الصدد حاولت الحركة الوطنية بناء أدوات أخرى وأجهزة أخرى تتكلف بتغطية حاجيات المجتمع، التي لم يعد يتكلف بها أحد، خصوصا عبر خلق الجمعيات، التي هي تنظيمات ذات طابع وسائطي، تستهدف تلبية حاجيات وحقوق إنسانية واقتصادية واجتماعية، لم تعد تلبيها التنظيمات التقليدية، ولا تستطع الدولة تلبيتها وحدها.
والواقع أننا نجد بوادر الوعي بأهمية الجمعيات في بناء المجتمع المغربي في فكر الحركة الوطنية، التي لم تراهن على مؤسسة الحزب والنقابة فقط، بل نجد استحضارا للجمعيات أيضا وللتنظيمات المدنية عموما، ولعل هذا ما نلمسه، على سبيل المثال، في خطاب أحد قادة هذه الحركة، الذي يقول « هدفنا هو تكوين مجتمع مغربي صالح جدير بتراثه وبما يصبو إليه من مستقبل رفيع، وذلك لخير الإنسانية.فيجب أن نعمل بكل ما في المستطاع لبث هذا الهدف في النفوس حتى يبعث فيها الشعور العام به ويؤلبها لخدمته.ولنشر هذه الفكرة يجب استخدام كل ما في متناولنا من مؤسسات اجتماعية عتيقة أو جديدة.» ولن يتحقق هذا الهدف ، في نظر صاحب «النقد الذاتي»، إلا بتنظيم الشباب ضمن الفرق الكشفية والرياضية والتنظيمات الجمعوية.
وهكذا فقد هيمنت النزعة الوطنية على العمل الجمعوي في مرحلة الحماية ، من خلال انخراط الفاعلين الجمعويين في الجهود الوطنية الرامية إلى توعية المغاربة بالتحديات المطروحة عليهم، واستنهاض هممهم من أجل مكافحة المستعمر، و الحفاظ على الهوية الثقافية والوطنية والدفاع عنها ، وذلك عبر برامج وأنشطة ثقافية وتربوية.
2- العمل الجمعوي بعد الاستقلال :

لم تتطور الحياة الجمعوية ، خلال السنوات الأولى التي أعقبت استقلال البلاد، على عكس ما كان متوقعا، حيث ظلت هذه الحياة تتمحور حول شبكة جد ضيقة من الجمعيات.حيث ظهرت في هذه الفترة، مجموعة من الجمعيات الموازية لحزب الاستقلال، وأخرى أقل تخصصا، وأقل ارتباطا بالحزب السياسي، مثل جمعيات قدماء التلاميذ، الجمعيات الرياضية، الجمعيات الإحسانية ، جمعيات العلماء. كما تميزت السنوات الأولى من الاستقلال بظهور مفهوم التطوع بمعناه الحديث، ، إذ تمثل سنة1957 حدثا مهما في هذا الإطار، حيث يمثل مشروع «طريق الوحدة» الهادف إلى الربط الطرقي بين المناطق التي كانت خاضعة للاستعمار الاسباني وتلك التي كانت خاضعة للحماية الفرنسية، تعبيرا عن روح التطوع، كما يجسد رمزا لوحدة البلاد.والأساسي أنه شهد مشاركة آلاف المتطوعين القادمين من مختلف جهات المغرب.وبحكم التأثير القوي الذي كان لهذه التعبئة الجماهيرية على العقليات ، خاصة على الشباب، شهدت هذه الفترة نشأة عدد من جمعيات الشباب، نذكر منها الطفولة الشعبية، الشعلة، الجمعية المغربية لتربية الشبيبة…الخ، والتي هي جمعيات تشتغل بشكل خاص في المجال التربوي والسوسيو-ثقافي، لكن بخلفية سياسية.
وعلى العموم تبنت الدولة المغربية ، ذات الموقف الحذر الذي حكم تعامل سلطات الحماية مع الجمعيات. وكما يذكر الباحث ريمي لوفو، حول الفترة التي أعقبت استقلال البلاد مباشرة، فقد كانت الإدارة تنظر بعين الريبة إلى كل تجمع للأشخاص ، ولو كان لأسباب بعيدة كل البعد عن الفعل السياسي، فهي تعتبر أن ، كل قوة قادرة على التعبئة، مرشحة من حيث المبدأ، لكي تنحرف عن هدفها الأصلي. وهكذا، فبدل أن يخف أو يتلاشى الضبط الاجتماعي و المراقبة السياسية للساكنة ، بعد خروج المستعمر، ازدادا وتعمقا في ظل الدولة الوطنية المستقلة، لدرجة أن المواطن لم يكن يتصور إمكانية وجود أي كيان مدني مستقل عن المخزن.
فقد كشف بحث منجز بعد أكثر من عشر سنوات بعد الاستقلال، حول آراء ومواقف الشباب القروي من مجموعة من القضايا، منها السلطة، بأن الدولة و المخزن في عالمهم ، كانا يحيلان أولا على السلطات المحلية، ثم ثانيا على «ممثلي الساكنة»، أي المستشارين الجماعيين، الذين ينضاف إليهم نواب الأراضي السلالية أو الجموع، ورؤساء التعاونيات..
ولهذا ظل الحق في تأسيس الجمعيات يتعرض لتضييق كبير، إلى حدود إصدار ميثاق الحريات العامة، في نونبر 1958، بل وحتى فيما بعد ، حيث لم تتطور الممارسة الجمعوية كثيرا، ولم تلق التشجيع المطلوب .
ومن خلال ملاحظة مؤسسات وقوانين المغرب المستقل يتبين لنا انشغال الدولة، باستنساخ التشريع والمؤسسات الفرنسية ، من قبيل : لامركزية الإدارة المحلية مثلا، المؤسسات الدستورية، وقانون الحريات العامة…الخ.فعقب الاستقلال، نشرت الجريدة الرسمية ل 15 نونبر 1958 قانون الحريات العامة، ويتضمن ثلاثة ظهائر، منظمة لحقوق تأسيس الجمعيات، الاجتماع والصحافة، تقترب في روحها من قوانين 1881 و 1901 الفرنسية.
ذات الملاحظة يؤكدها الباحث محمد عابد الجابري ، عندما يقول « عندما يريد المرء أن يفهم الطريقة التي عالج بها المغرب المستقل هذا المشكل أو ذاك من «مشاكل الاستقلال» سيرتكب خطأ كبيرا إذا هو أغفل حقيقة أساسية تحكمت في عمل جميع حكومات المغرب منذ الإعلان عن الاستقلال سنة 1956، هذه الحقيقة هي أن استقلال المغرب لم يدشن أية قطيعة مع فرنسا في أي ميدان كان.»
ويرجع أحد الباحثين الفرنسيين سعي الدولة المغربية الحثيث إلى استنساخ المؤسسات والقوانين الفرنسية إلى عدة اعتبارات أهمها : القيمة المبالغ فيها، التي كانت تمنح لمؤسسات سلطة الحماية، استمرار حضور المساعدة الفرنسية التقنية بعد استقلال المغرب. حيث ظل يتواجد، حوالي 15 ألف مساعد تقني فرنسي في المغرب المستقل إلى حدود يناير 1958، وما بين 5 و 6 آلاف إلى حدود يناير 1961.والمؤكد أن الاتجاه الطبيعي لهذا العدد الهائل من المساعدين التقنيين الذين هم في الغالب موظفين سابقين في الإدارة الاستعمارية، هو استنساخ المؤسسات والقوانين التي يعرفونها بشكل أفضل.
ولاشك أن التدخل الاجتماعي للدولة خلال العقود الأولى التي أعقبت الاستقلال، خصوصا من خلال تقديم الخدمات الاجتماعية ، دعم المواد الأساسية ، تشجيع السكن الاجتماعي الخ، ومراقبة الدولة لجزء مهم من الاقتصاد ، شكلا أداة أساسية لضبط النظام، إلى غاية أزمة سنوات الثمانينيات وتطبيق برنامج التقويم الهيكلي.فقد نجحت هذه السياسة ، رغم بعض الانفجارات العنيفة، في ضمان استقرار كبير للدولة منذ الاستقلال.وجاء برنامج التقويم الهيكلي في سنوات الثمانينيات للإخلال بهذا التوازن.فسياسة التقشف المالي التي تميزه، انتهت إلى تخلي الدولة عن التزاماتها désengagement de L?Etat في المجال الاجتماعي(التعليم، الصحة..الخ)، مما انعكس سلبا على قدرة الدولة على الحفاظ على التماسك الاجتماعي والإيديولوجي الذي كانت تضطلع به في الفترات السابقة على التقويم الهيكلي. وكما هو معلوم طبق المغرب برنامج التقويم الهيكلي ، عقب أزمة مالية خانقة، وقد استهدف بالأساس خفض النفقات الاجتماعية ، من أجل تقليص النفقات العمومية ، بالنظر إلى حجم عجز الميزانية الذي بلغ أكثر من 12 % من الناتج الداخلي الخام.ويتضمن التقويم الهيكلي محورين، فمن جهة تدابير من أجل تقليص الطلب العام على المدى القصير، وتندرج هذه التدابير أساسا ضمن الاتفاقية مع صندوق النقد الدولي، ومن جهة أخرى تدابير من اجل الزيادة في العرض، بفضل الإصلاحات الهيكلية، وبعض هذه التدابير ممولة بقروض من البنك العالمي.والتدابير الأولى هي التي شكلت تهديدا بالنسبة للنفقات الاجتماعية، بما أنه ينبغي تقليص السريع لعجز الميزانية..
فكان من نتائج ذلك بروز الجمعيات كفاعل جديد في مجال التنمية الاجتماعية والاقتصادية، فاعل يحظى باعتراف متزايد، سواء على المستوى الوطني أو الدولي.
وقد تحولت الجمعيات، في ظل الأزمة الاجتماعية والاقتصادية إلى فضاء لإعادة رأب صدع الرابطة الاجتماعية المبتورة بين الفئات الاجتماعية المقصية من النظام وباقي الفئات الأخرى داخل المجتمع، وإلى مجال لمواجهة آثار الإقصاء الاقتصادي، الاجتماعي، السياسي والثقافي.
ومثلما توضح الباحثة فاطمة المرنيسي فان أجيال ما بعد التقويم الهيكلي وجدت نفسها مطالبة أكثر من غيرها بتحمل المسؤولية والمساهمة في تدبير الشأن العام ، عبر تأسيس جمعيات غير حكومية والأكثر من ذلك مطالبة بالخلق والإبداع ،وتنويع مجالات التدخل ،من أجل تجاوز الأزمة المجتمعية العامة.وفي هذا السياق ترى هذه الباحثة، أن هذه الدينامية الجمعوية التي عرفها المغرب، منذ عقد التسعينيات، تعكس بداية وعي المواطن المغربي بحقيقة أن النقد لا ينبغي أن ينصب دائما على أداء الدولة لوحدها( برنامج التقويم الهيكلي) ، وأن المواطن أيضا يتحمل جزءا من المسؤولية في ما يحدث،لأنه أصبح اتكاليا ويراهن بشكل مطلق على الدولة، في الوقت الذي كان أسلافه يتعبؤون وينتظمون ويبادرون في استقلال نسبي عن الدولة، كما رأينا سابقا.
لكن الدولة من جانبها قامت خلال سنوات الثمانينيات بخلق مجموعة من الجمعيات الجهوية ، للقيام ظاهريا على الأقل ، بأنشطة ذات طبيعة ثقافية واجتماعية، تدخل في إطار مساعدة الإدارة في المجالات التي تعرف فيها خصاصا.
لكن في الواقع ، يستهدف إنشاؤها منافسة نشاط الأحزاب الوطنية والنقابات، والجمعيات.ذلك أن فترة الثمانينات شهدت على المستوى الجمعوي، الذي يهمنا أكثر في هذا المقام ، انتشارا ملحوظا للجميعات الثقافية في العديد من الأحياء الشعبية للمدن الكبرى وكذلك في العديد من المدن الصغيرة والنائية بل حتى في العديد من القرى. لهذا يمكن القول بأن العمل الجمعوي لم يعد فقط ظاهرة ثقافية بل أصبح أيضا ظاهرة اجتماعية، تعبر عن حاجة أعمق لدى عدد كبير ومتعاظم من المثقفين والمتعلمين.وتكفي ملاحظة المعجم الذي وظفه الشاعر والباحث عبد اللطيف اللعبي للحديث عن واقع العمل الجمعوي بالمغرب خلال الثمانينيات من القرن الماضي، في مقاله» المسألة الثقافية والعمل الجمعوي»، لاستنتاج حقيقة تمحوره حول القضايا الثقافية والإيديولوجية، فالعمل الجمعوي في نظره، هو إطار للممارسة الثقافية، مرآة عاكسة للقضايا الفكرية والثقافية المركزية، تسمح بربط جمهور الهوامش ( الأحياء الشعبية في المدن الكبرى، المدن الصغيرة والنائية، القرى…الخ) بالإنتاج الفكري والثقافي المركزي…و الجمعيات هي عامل لإعادة إنتاج و توزيع للمنتوج الثقافي والإبداعي الخ.
ويرى الباحث عبد الله العروي في مبادرة خلق هذه التنظيمات إحياء شكل من الاخوانيات والهيئات الحرفية القديمة في حلة جديدة.ولم يعرف هذا المشروع النجاح المنتظر منه، على مستوى الواقع.ويشير الباحث إلى أن الدولة شجعت شخصيات نافذة مقربة منها، من أجل تأسيس هذه الجمعيات، ليس لها أي دراية بالعمل الجمعوي، فكانت النتيجة هي، تسيير من طرف أفراد غير أكفاء وفاسدين، لا يقومون بأي شيء لإخراج المدن والمناطق، التي ينحدرون منها، من تخلفها فقد كان هناك مشكل مجتمعي حقيقي ، لكن الحل المعتمد، لم يفهم أبدا، لأنه من وحي الإدارة وخاضع لمراقبتها.و قلة قليلة فقط من هذه الجمعيات ، هي التي استطاعت فرض نفسها، لكن مع ذلك كان تأثير هذه «التجربة» كبيرا على الأذهان، يظهر ذلك بوضوح على مستوى الخطاب السياسي المعارض، الذي تمحور حول نقد هذه التنظيمات ، التي توصف في نوع من السخرية بأنها» جمعيات الهضاب والأنهار والسهول والجبال».
ولو أن البعض يعتبر أن هذه الجمعيات الجهوية لعبت دورا مهما في مرحلة لم يكن فيها المغرب مستعدا لانبثاق مجتمع مدني فعلي.فهي ملأت الفراغ الذي كان يتهدد المجتمع المدني المغربي، كما شكلت ما يشبه»المختبرات» التي سبقت ظهور المجتمع المدني.
ومع ذلك ، فلا يمكن الحديث عن» مجتمع مدني» ، وعن تعبئة المواطنين بالمغرب إلا في سنوات التسعينيات ، التي شهدت دينامية جمعوية غير مسبوقة في تاريخ المغرب الحديث.لا سيما في هذه المناطق النائية والمهمشة التي ظلت لعقود تفتقر التنظيمات الجمعوية كفضاءات للمشاركة والإبداع. والمثير ، أن سكان هذه المناطق، استوعبوا بسرعة فائقة التنظيم الجمعوي كأداة للتنمية، حتى ولو أن خلقها لم يصبح بعد مسألة سهلة التحقيق، خصوصا في المناطق المعزولة، المفتقرة إلى موارد بشرية متعلمة ومؤهلة.
و لا يمكن فهم هذا التطور المضطرد للديموغرافيا الجمعوية منذ بداية التسعينيات ، ولمساهمتها في ملء الخصاص الديمقراطي و التخفيف من أشكال عجز السياسات التنموية الرسمية ، دون الأخذ بعين الاعتبار تغير سلوك الدولة، التي بدأت تعيد النظر،شيئا فشيئا، في سياساتها تجاه الجمعيات، والمجتمع بشكل عام، من خلال تجاوز مقاربتها الفوقية، السلطوية ، المركزية والتوجيهية ، التي تنظر إلى السكان وإلى تنظيماتهم المدنية، ككيانات سلبية، وعاجزة عن تنفيذ المشاريع التي تتعلق بها، نحو اعتماد مقاربة تشاركية ، لامركزية، تصاعدية، ومنفتحة على الجمعيات، وعلى باقي الفاعلين المجتمعيين الآخرين.
ومع ذلك فلا يمكن فهم التطورات التي شهدها العمل الجمعوي ببلادنا مع مطلع عقد التسعينيات، بدون ربطها بالدينامية التي شهدها المجتمع المدني الدولي، في سياق مجابهته للتفاوتات الاجتماعية والاقتصادية المتزايدة، المتمخضة عن العولمة، والأخطار التي تمثلها.حيث تطورت إستراتيجية الممولين الدوليين في تجاه تقديم تمويلات ومساعدات أكثر للجمعيات، خصوصا أمام تفاقم مشاكل الدولة (سوء التدبير و الفساد..الخ).
ولا بد من الإشارة في الأخير إلى أنه علاوة على الطفرة النوعية، التي شهدها عقد التسعينيات، خاصة على مستوى البروز الملفت للجمعيات التنموية، في المناطق النائية والمهمشة ، عرف هذا العقد تأسيس جمعيات جديدة، تستهدف تجديد التفكير في البنيات السوسيوسياسية للبلاد وتأثيرها على التنمية الاقتصادية، ارتبطت في الغالب بأحزاب سياسية، مثل مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد ، مؤسسة علال الفاسي ، مركز عزيز بلال مؤسسة بن الحسن الوزاني، مركز الدراسات لحسن اليوسي…الخ ،و إن كان البعض يعتبر نفسه مستقلا عن التنظيمات الحزبية، مثل جمعية بدائل، مؤسسة زاكورة ، إضافة إلى ظهور تنظيمات مدنية ، تابعة للمقاولات والأبناك المغربية، كما هو الشأن مثلا بالنسبة لمؤسسة البنك المغربي للتجارة والصناعة، مؤسسة مجموعة البنك الشعبي، مؤسسة مجموعة بنك الوفا، مؤسسة محمد كريم العمراني، مؤسسة مجموعة أونا…الخ.بل إن الدولة ذاتها قامت، منذ نهاية عقد التسعينيات، بإنشاء مؤسسات، مثل مؤسسة محمد الخامس للتضامن، صندوق الحسن الثاني، وكالة التنمية الاجتماعية..الخ، رصدت لها إمكانات مالية مهمة جدا، وألحقت بها موارد بشرية مؤهلة، يمكنها التدخل بمرونة، سرعة وإجرائية، من أجل تجاوز الاختلالات الملاحظة أحيانا على مستوى تدخل الوزارات ومصالحها الخارجية في السياسة التنموية المنتهجة . مما يطرح التساؤل حول ما إذا كان خلق هذه المؤسسات و هذه «الجمعيات»يستهدف تيسير الشراكة بين الدولة والجمعيات أم أنه يشكل تهديدا بتوظيف واحتواء الجمعيات من طرف الدولة، وتحويلها إلى تنظيمات أشبه بإدارات ؟

سوسيولوجيا العمل الجمعوي بالمغرب : ملاحظات أولية
فوزي بوخريص
رابعا : تحولات الإطار القانوني والمؤسساتي للعمل الجمعوي بالمغرب.يحتل العمل الجمعوي اليوم مكانة هامة في المجتمع، وتعرف مجالات تدخل الجمعيات توسعا يوما بعد يوم، بحيث أصبح الفاعلون الجمعويون يضطلعون بمسؤوليات متزايدة كانت إلى وقت قريب حكرا على الدولة.فدور الجمعيات لم يعد كما كان في الماضي، مقتصرا على التنشيط السوسيوثقافي، وإنما صارت الجمعيات أداة للتنمية بمختلف أبعادها ، ومؤسسات للتحسيس والتوعية، وفضاء للتربية على المواطنة وحقوق الإنسان، ومجالا للتضامن والتكافل…الخ.
فإذا كانت التنمية في الماضي، تعتبر من مسؤولية الدولة، فإنها اليوم تتطلب وجود جميع أشكال التنظيم الاجتماعي التي تمكن السكان من تحديد حاجياتهم وهيكلة نشاطهم قصد تلبية الحاجيات.حيث يتم تعريف التنمية اليوم باعتبارها «عملية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية شاملة، تستهدف التحسين المستمر لرفاهية الساكن بأسرهم و الأفراد جميعهم على أساس مشاركتهم النشيطة والحرة والهادفة في التنمية وفي التوزيع العادل للمنافع التي تنجم عنها».وفي هذا الإطار أصبحت الجمعيات شريكا لا غنى عنه في سيرورة التنمية، وذلك لكونها قادرة على الوصول إلى السكان عبر برامج فعالة وملائمة لواقعهم الثقافي والاجتماعي، ولأنها تفسح المجال أمام المواطنين للمشاركة في عملية التنمية، و تمكنهم من تحديد حاجياتهم و من هيكلة أنشطتهم و تنظيمها قصد تلبية تلك الحاجيات.
ومع بداية سنوات التسعينيات بدأت الدولة تعتمد مقاربة جديدة، مقاربة تشاركية ، صاعدة تراهن على انخراط جميع الفاعلين المعنيين بمن فيهم الفاعلين الجمعويين، في سياسات وبرامج التنمية.
ومن أجل الوقوف على خصوصية الظاهرة الجمعوية بالمغرب، لا بد من استحضار الإطار القانوني والمؤسساتي الذي ينظم هذه الظاهرة، والذي يحدد شكلها التنظيمي داخل المجتمع، والتحولات التي شهدها منذ نهاية عقد التسعينيات من القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة، خصوصا ما يتعلق بتعزيز الحرية الجمعوية، ودعم الدور الاقتصادي للجمعيات ، وبشكل أخص دعم مساهمتها في خلق مناصب شغل، وذلك عبر مأسسة علاقة الشراكة مع الجمعيات، وتنمية مواردها المالية وتقنين العمل الجمعوي المأجور، بل وعبر تطوير المعرفة العلمية بالظاهرة الجمعوية.
1- القانون المنظم للعمل الجمعوي بالمغرب :
لا يمكن الحديث عن التنظيم الجمعوي، كتنظيم مدني، بدون استحضار البعد القانوني، ذلك أن الحياة الاجتماعية عموما لا تأخذ شكلها وصيغتها التنظيمية المميزة إلا في ظل القانون…
عرف الإطار القانوني الذي يحكم العمل الجمعوي ببلادنا تطورا نسبيا، منذ ظهور أول ظهير للجمعيات1 في مغرب الاستقلال في 15 نونبر سنة 1958.وإضافة إلى الجمعيات الخاضعة لهذا الظهير، سواء كانت جمعيات عادية أو جمعيات معترف لها بصفة المنفعة العامة، أو اتحادات( الاتحاد الوطني لمسرح الهواة مثلا) أو جامعات ( الجامعة الوطنية للأندية السينمائية مثلا)، هناك جمعيات لها قانون خاص منظم لها مثل: ، جمعيات السلفات الصغرى، جمعيات مستخدمي المياه المخصصة لأغراض زراعية، الجمعيات المهنية، الجمعيات الرياضية، جمعيات الطلبة2…الخ.
وقد شهد مغرب الحماية عدة ظهائر منظمة للجمعيات، كان أولها ظهير 1914 الذي أدخلت عليه تعديلات بمقتضى الظهائر الصادرة في كل من 31 يناير 1922 و5 يوينو 1933 و7 أكتوبر 1941 و 7 ابريل 1943 و30 أكتوبر 1948.وتجدر الإشارة إلى أن المبادئ القانونية لهذه القوانين ، مأخوذة في جملتها من قانون الجمعيات الفرنسي المؤرخ في فاتح يوليوز 1901، لكنه يختلف عن القانون المذكور في عدة مسائل جوهرية تجعل النظام المغربي أضيق نطاقا وأقل حرية من النظام الفرنسي وإن ظل محافظا، بشكل عام، على الصبغة الليبرالية.
ويضمن المشرع، في الفصل التاسع من الدستور ، لجميع المواطنين، و دون تمييز، حرية تأسيس الجمعيات ، وباقي الحريات المرتبطة بها من حرية الرأي وحرية التعبير بجميع أشكاله وحرية الاجتماع.كما يشير إلى أنه لا يمكن وضع حد لممارسة هذه الحريات إلا بمقتضى القانون. والملاحظ أن مقتضيات الدستور المتعلقة بالجمعيات، التي صدرت سنة 1962، جاءت بعد أربع سنوات من صدور ظهير الحريات العامة ، المنظم للممارسة الجمعوية. ومعلوم أن صدور القانون المنظم للجمعيات، ارتبط بالظروف والمتغيرات التي تلت مرحلة ما بعد «الاستقلال»، لعل أهمها تعاقب حكومتي احمد بلا فريح من ماي 1958 إلى دجنبر 1958 و عبد الله ابراهيم من دجنبر1958 إلى 1960 ، وبالتالي جاء روحه منسجما مع توجهات هاتين الحكومتين. إلا أنه في خضم الأوضاع التي عرفها المغرب نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، التي تميزت بحدة الصراع الاجتماعي وما صاحبه من اضطرابات اجتماعية، جرى تعديل ظهير 15 نونبر 1958 بمقتضى ظهير 11 ابريل 1973.وقد حمل هذا التعديل مقتضيات جديدة ، تحد من ممارسة الحق في تأسيس الجمعيات وتعرقل نشاطها. وتجمع غالبية الكتابات التي رصدت مسار العمل الجمعوي بالمغرب، على ان تعديلات 1973 شكلت انتكاسة وتراجعا عن العديد من المكاسب التي اقرها ظهير 15 نونبر 1958 المتعلق بحق تأسيس الجمعيات.
و أبرز نموذج على هذا التراجع، كيفية تطبيق السلطة للقانون المنظم ، وخاصة ما يتعلق بمقتضيات الفصل الخامس الذي يهم الأهلية القانونية، فرغم أن المشرع قد أقر نظام التصريح كآلية لاكتساب الجمعية للأهلية القانونية، فان واقع الممارسة افرز أشكالا مختلفة في التطبيق حولت نظام التصريح إلى نظام للترخيص، على الرغم من وجود اجتهادات قضائية منصفة في هذا الصدد.فالتصريح من منظور حكم لإحدى المحاكم الإدارية هو» مجرد إشهاد بواقعة حصول التصريح، ويضع على السلطة الإدارية التزاما لا تملك معه أي صلاحيات تقديرية، ولا تملك معه إلا مراقبة بعدية عن طريق عرض ما تراه مخالفا للقانون على القضاء، المختص وحده في مراقبة مشروعية التصريح». كما أن القانون المعدل يتضمن عبارات غامضة وعامة، من قبيل «النظام العام» و»الأخلاق الحميدة» و»الأمن العام»، والتي تحتمل أكثر من تأويل ، وتقدم أكثر من ذريعة للمساس بمبدأ الحرية والحق في تأسيس الجمعيات والتجمعات، خصوصا وأن القانون يمنح للمحكمة إمكانية حل الجمعيات إذا كان من شأن نشاطها الإخلال «بالأمن العمومي»، وهو ما يتعارض ضمنيا، مع الإرادة الرسمية المؤسسة لقانون الحريات العامة ، التي التزمت بضمان حرية التعبير والنشر والاجتماع، وتكوين الجمعيات ضمانا لا يحده إلا ما يفرضه القانون وحفظ كيان الدولة ومقتضيات الصالح العام»، وفقا لما جاء في خطاب الملك في ماي 1958، والذي اعتبر منطلقا أوليا للحقوق والحريات المتضمنة في ظهير الحريات العامة ل15 نونبر 1958.
ومن التجاوزات التي كانت تحدث أيضا، نجد عدم تسليم السلطة لوصل الإيداع أو التأخير في تسليمه، بحجة عدم وضوح النص القانوني الأساسي أو عدم دقته.
والواقع أن التضييق على الممارسة الجمعوية يبدأ منذ تأسيس الجمعية، ويتواصل بعد تأسيسها، ومن أشكال التضييق الأساسية التي تعرقل عمل الجمعيات، نذكر: فرض الإدلاء بوثائق لا ينص عليها القانون عند التصريح بتأسيس الجمعية، إخضاع الوثائق المدلى بها لحقوق التنبر مرتفعة القيمة، تعقيد مسطرة التأسيس عبر فرض وثائق كثيرة ومكلفة، عدم تسليم الوصل عن التصريح بتأسيس الجمعية مباشرة، مما يؤخر انطلاق نشاط الجمعية بل وأحيانا يعيق وجودها ذاته، غموض مسطرة الاعتراف بصفة المنفعة العمومية، التي تخول للسلطات المعنية (وزارة الداخلية، الأمانة العامة للحكومة،…) سلطة تقديرية لا محدودة ، منع الاجتماعات الداخلية فيما بين أعضاء الجمعية في بعض الأحيان بدعوى وجوب التصريح بعقدها كما لو كانت الاجتماعات عمومية التي تتطلب الإشعار، إثقال كاهل الجمعيات بأعباء الرسوم الضريبية، و اعتماد الجزاءات العقابية بالسجن و الغرامات المبالغ فيها…الخ.
وهذا ما جعل بعض الباحثين ، يتحدث عن مفهوم «الجمعيات بحكم الواقع»associations de fait ، للإشارة إلى تلك الجمعيات التي لم تحصل على ترخيص قانوني ، لكنها موجودة بقوة الواقع في الفضاء العام3 و تعد «الجمعية الوطنية للشباب حاملي الشهادات» أبرز مثال في هذا الشأن.وينبغي تمييز مفهوم الجمعية بحكم الواقع كما يتجسد في الواقع المغربي نتيجة التضييق على الممارسة الجمعوية ، عن مفهومها كما هو في المجتمع الفرنسي مثلا، والذي يشير إلى الجمعية التي لا تلتزم بالشكليات القانونية، المنصوص عليها في قانون الجمعيات، أي الجمعية غير المصرح بها، والتي لا تتمتع بشخصية معنوية، مع ما يترتب عن ذلك من نتائج أهمها : أنها لا يمكن ان تتلقى دعما، ولا هبات ، ولا توقيع عقود، ولا تشغيل أجراء..الخ.ولو أن القانون يمنح لها بعض الحقوق منها : إمكانية امتلاك مقرات للاجتماع، جمع اشتراكات، وفتح حساب بريدي..الخ.
ولم تتوقف الجمعيات ، خصوصا الجمعيات التربوية، الثقافية والحقوقية ، طوال السنوات التي أعقبت تعديل 1973، عن المطالبة بتوسيع مجال الحريات العامة وتحسين شروط الممارسة الجمعوية، لا سيما في جانبها القانوني، كما خاضت معركة طويلة بهدف الاحتلال التدريجي ل»فضاء المبادرات المواطنة».و في خضم الدينامية الجمعوية التي شهدها المغرب خلال عقد التسعينيات، تشكلت بمبادرة من جمعية «الفضاء الجمعوي» ، لجنة من فعاليات المجتمع المدني، قادت حملة ترافعية من أجل تعديل قانون الجمعيات ضمت حولي 2000 جمعية، ترمي بالأساس إلى تحسين شروط الممارسة الجمعوية، وتأكيد دور الجمعيات كفاعل في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وقد تم التجاوب جزئيا مع مطالب الجمعيات حيث مس التعديل مجموعة من الفصول إلا انه لم يصل إلى ما كانت تطالب به الجمعيات. وقد جاءت هذه التعديلات متضمنة في القانون رقم 00-75 بخصوص الجمعيات.
ومن مستجدات القانون الجديد ، التي لها ارتباط وثيق بموضوع البحث، نذكر توسيع مجال الموارد المالية للجمعيات لتشمل إضافة إلى اشتراكات وانخراطات الأعضاء التي لم يعد يحدها أي سقف، وكذا الإعانات العمومية، الإعانات الاجنبية وإعانات القطاع الخاص.
كما حاول القانون الجديد وضع حل «لإشكالية وصل الإيداع» وذلك باعتماد تصريح واحد لدى السلطة الإدارية، بات ملزما تسليم وصل مؤقت عنه وفي نفس لحظة الإيداع، كما تم تقييد السلطة التقديرية للإدارة في هذا المجال، حيث لم يعد أمامها عمليا إلا تسليم الوصل النهائي للجمعية داخل أجل 60 يوما، أو بعد انصرام هذا الأجل، تصبح الجمعية مستوفية لشروط الأهلية القانونية بالوصل المؤقت فقط، ولم يعد أمام الإدارة من وسيلة لمنع أي جمعية إلا عبر اللجوء إلى القضاء.
وأعطى القانون الجديد أيضا بعض الضمانات بخصوص اكتساب الجمعيات لصفة المنفعة العامة من خلال التنصيص على صدور نص تنظيمي يحدد بدقة الشروط والمعايير الواجب توفرها لطلب هذه الصفة، ضمانا للشفافية، وهذا ما يعني و التخفيف نسبيا من حدة التوظيف السياسي والأمني لهذه المسألة من طرف الدولة، مقارنة مع ما كان معمولا به من قبل، وذلك بتوسيع إمكانية استفادة كل الجمعيات من حيث المبدأ من هذه الصفة، إذا ما توفرت على المعايير المطلوبة.
وعمد القانون الجديد أيضا إلى مراجعة المقتضيات التي جاء بها ظهير 1973، فخفض من العقوبات الحبسية والغرامات، وأعطى للقضاء سلطة تقديرية في تقرير إحدى العقوبتين.
وعلى العموم يتضمن قانون الجمعيات، كما تم تعديله في سنة 2002، أحكاما متقدمة، مقارنة مع مقتضيات ظهير 1973، ولكن في الممارسة، ما تزال السلطات ترفض في بعض الأحيان تفعيل مقتضيات القانون.فعلى سبيل المثال، تستمر الإدارة في تجاهل وتعطيل الإجراءات القانونية المنظمة لمسألة «التصريح بتأسيس الجمعية».
وفي هذا الصدد استخلصت منظمة هيومن رايتس ووتش، من خلال دراستها لحالات جمعيات حرمتها السلطات المغربية من الاعتراف القانوني ، اعتبرتها هذه المنظمة حالات متكررة وفي مناطق كثيرة من البلاد « أن التدخل في شؤون الجمعيات ليس نتيجة لمبادرات معزولة من قبل المسؤولين المحليين، بل جزءا من سياسة عامة في البلاد، « تستهدف قمع»خفيف» بواسطته يمكن إضعاف الجمعيات التي يثير أعضاؤها أو أسماؤها، أو أهدافها استياء السلطات، وتهميشها بشكل قانوني».
ويتبين من خلال تقرير منظمة هيومان رايت ووتش ، أن قائمة «جمعيات بحكم الواقع»، طالت لتشمل حوالي 12 جمعية، بعدما كانت تنحصر في مطلع التسعينيات، في «الجمعية الوطنية لحاملي الشهادات المعطلين بالمغرب»4. ولعل هذا ما يجعل مسألة حماية حرية الجمعيات والنهوض بها من الانشغالات الدائمة للجمعيات، ولهذا الاعتبار أيضا تأسست سنة 2005 جمعية وطنية، تعنى بهذه المسألة، هي «المرصد المغربي للحريات العامة» الذي يستهدف رصد الممارسة الجمعوية، وإصدار تقارير وصياغة مذكرات مطلبية5 ، من أجل تحسين الشروط القانونية للعمل الجمعوي.
ونشير في الأخير إلى أنه قد جرى تعديل لقانون الجمعيات في سنة 2009. يرمي إلى تشجيع الفاعلين الجمعويين ومدهم بجميع أشكال المساعدة الضرورية لتسهيل تأسيس الجمعيات وتيسير قيامها بأدوارها لمصلحة المجتمع.يتعلق الأمر بظهير شريف رقم 1.09.39 صادر في 22 من صفر 1430 (18 فبراير 2009) بتنفيذ القانون رقم 07.09 الرامي إلى تعديل الفصل 5 من الظهير الشريف رقم 1.58.376 الصادر في 3 جمادى الأولى 1378 (15 نونبر 1958) بتنظيم حق تأسيس الجمعيات كما تم تغييره وتتميمه. وأهم جديد يحمله هذا التعديل هو أن التصريح بتأسيس الجمعيات لم يعد يتضمن نسخا من بطائق السجل العدلي، بل يكفي فقط الحصول على بطاقة السوابق. بالنظر لسهولة وسرعة الحصول على هذه الوثيقة التي تسلم من طرف مصالح الأمن في أية مدينة، ولا يتطلب تنقل المعنى الأمر إلى مسقط رأسه كما هو الحال بالنسبة للسجل العدلي6. وإن كان التعديل يضيف الفقرة التالية: يمكن للسلطات العمومية التي تتلقى التصريح بتأسيس الجمعيات إجراء الأبحاث والحصول على البطاقة رقم 2 من السجل العدلي للمعنيين بالأمر.
والمثير للانتباه في هذا التعديل، هو أنه من اقتراح الحكومة، ولم يكن موضوع مطلب جمعوي ملح ومباشر، على الرغم من أن الجمعيات تثير هذا المشكل من حين لآخر في تقاريرها ومذكراتها المطلبية، وهذا يعني أن هناك على العموم إرادة سياسية لدى الدولة لتحسين شروط العمل الجمعوي، بل سعي إلى التعامل مع الجمعيات كشريك أساسي في تعزيز صرح الديمقراطية وتحقيق التنمية المستديمة ، يظهر ذلك من خلال عدة تدابير قانونية ومؤسساتية قامت بها الدولة، خاصة مع مطلع الألفية الثالثة.
فمن خلال قراءة في مضامين خطابات ملك البلاد7، في مناسبات متعددة، يتضح أن الموقف الرسمي من الجمعيات قائم على :
- الاعتراف والإشادة بالإسهامات الأساسية للجمعيات في مجالات تدخلها المتعددة(التنمية المحلية، محاربة الأمية والفقر، تقوية البنيات التحتية، دعم الفئات الاجتماعية التي تعيش في ظروف صعبة، البيئة..) وبانخراطها في الشأن العام، بل واهتمامها بمجالات كانت في الماضي ملقاة على عاتق الدولة لوحدها، مما يعد مؤشرا على نضج المجتمع وقواه الحية.
- الإيمان بأن تحقيق التنمية ، الديمقراطية والحداثة رهين بتحسين وتقوية تنظيمات الوساطة و التأطير السياسي والاجتماعي، ومنها الجمعيات، المطالبة بدورها بتوسيع مجال المشاركة، واحترام الديمقراطية الداخلية والاحتكام للقيم الأساسية (احترام الحق في الاختلاف، التضامن، الفعالية..)، وإن كان الإقرار بهذا الخصاص ،لا يمنع من الاعتراف بالفعالية المتزايدة لتدخلات الجمعيات و لديموقراطيتها الداخلية، من خلال: القدرة على تعبئة الطاقات والإمكانيات التي يزخر بها المجتمع من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ممارسة العمل التنموي القائم على مشاركة السكان، الانفتاح الواسع على العنصر النسوي..الخ.
- دعوة السلطات العمومية والجماعات المحلية وسائر المؤسسات العامة والخاصة إلى عقد كل أنواع الشراكة مع الجمعيات ، ومده بجميع أشكال المساعدة .
وبالجملة نستشف موقف ملك البلاد من الجمعيات، من خلال ما جاء في إحدى الرسائل الملكية ، حيث نقرأ ما يلي:»ولا يسعنا إلا أن نبتهج بما أصبحت تشكله الجمعيات المغربية ، من ثروة وطنية هائلة، ومن تنوع في مجالات عملها ، وما تجسده من قوة إقتراحية فاعلة ، أصبحت بفضلها بمثابة الشريك، الذي لا محيد عنه، لتحقيق ما نبتغيه لبلادنا من تقدم وتحديث.»
> يتبع
سوسيولوجيا العمل الجمعوي بالمغرب : ملاحظات أولية
فوزي بوخريص
- 2العمل الجمعوي والشراكة .
يعد المنشور الصادر عن الوزارة الأولى بتاريخ 27 يونيو 2003 (الموافق ل26 ربيع الثاني) والذي يحمل رقم 7/2003، أهم وثيقة حكومية منظمة لعلاقة الشراكة بين الدولة والجمعيات.صحيح أن هذه المذكرة تعكس اعتراف الدولة بالعمل المهم الذي تقوم به الجمعيات ، وبحيوية ودينامية الحركة الجمعوية ، التي صارت تغطي مجالا واسعا في الحقل الاجتماعي، بل والاقتصادي. والمؤكد كذلك أنها تروم الارتقاء بأداء الجمعيات وتحسين شروط عملها، عبر تحسين الإطار القانوني وتبسيط الإجراءات، من خلال وضع إطار جديد للشراكة أ كثر مرونة ومطابق لمبادئ الحكامة الجيدة، وتحسين التنسيق والتحكم على مستوى العملية التنموية، من خلال إطار تعاقدي خاضع لمنطق النتائج، والنهوض بالبعد الترابي المحلي على مستوى الشراكات من أجل تقوية اللامركزية. كل ذلك طبعا من أجل استهداف أنجع وفعال للمشاريع والمستفيدين.
لكن المذكرة تعبر أيضا عن تصور الدولة للأدوار التي ينبغي للجمعيات أن تضطلع بها، إذ تحصر مجال تدخل الجمعيات في ما تعتبره ، قطاعات ذات الأولوية بالنسبة للفعل الحكومي، مثل محاربة الفقر والإقصاء الاجتماعي، دعم النساء والأطفال في وضعية صعبة، محاربة أمية الكبار، التربية غير النظامية، الأنشطة المدرة للدخل، الشباب، الرياضة، الإدماج المهني للشباب وتطوير البنيات التحتية والخدمات الاجتماعية الأساسية.
والملاحظ كذلك أيضا أن المذكرة، إضافة إلى وضعها للخطوط العامة لسياسة جديدة للشراكة بين الدولة و الجمعيات، تقدم نموذجا لاتفاقية شراكة، خاصة بالنسبة للمشاريع التي يبلغ حجم المساهمات العمومية فيها بالنسبة للمشاريع التي يبلغ ة شركة أو يتجاوز مبلغ 50.000 درهم.هذا النموذج ، يتوجه في نفس الآن إلى الشراكة التي تجمع الدولة و جمعية أو عدة جمعيات ، والشركاء الآخرين مثل الجماعات المحلية ، المؤسسات العمومية، و الخواص.
أما فيما يتعلق بالتمويل الذي لا يدخل ضمن المجالات ذات الأولوية و/أو الذي مبلغه أقل من 50.000 درهم، فقد حددت المذكرة الشروط الواجب الالتزام بها من طرف الجهة العمومية المعنية بعقد اتفاقية الشراكة والجمعية الشريكة.
ونستشف من خلال مضمون المذكرة أن الدولة بقدر ما تعلن عن التزامها عبر هذه المذكرة وغيرها ، بتقوية دور وقدرات الحركة الجمعوية وتحسين شروط عملها، خاصة من خلال تنمية مواردها المالية، عبر تخفيف مساطر الولوج إلى الموارد العمومية.بقدر ما تطالب الجمعيات صراحة بضرورة الالتزام بمبادئ الحكامة الجيدة في التسيير ، إذ تشرط عقد اتفاقية شراكة مع الجمعية بمدى انضباطها لمقتضيات القانون ، واحترام القانون الأساسي خاصة في ما يتعلق بالتوافق بين النشاط الممول وأهدافها كما هي منصوص عليها في قانونها الأساسي، وعقد اجتماعات أجهزتها التقريرية بانتظام، واحترام قواعد التسيير الديمقراطي.
بل إن الحكومة تستكمل ذلك بوضع تدابير للتتبع و التقييم وتقديم الحساب، للوقوف على حصيلة تنفيذ برامج الشراكة على الصعيد المادي والمالي والمحاسباتي، من أجل فعالية أكبر للتمويل على مستوى استهداف المشاريع والمستفيدين ..
وتشير المذكرة إلى أن التدابير التي تقترحها على مستوى التدبير المالي و المحاسباتي، تستكمل الإجراءات القوانين المنظمة لاستعمال الأموال العمومية من طرف الجمعيات، خاصة ما ينص عليه : المادة 118 من قانون رقم 99-62 المتعلق بالمحاكم المالية ، الذي يخضع لمراقبة المجالس الجهوية للحسابات التمويلات العمومية التي تتلقاها الجمعيات، والمادة 32 من الظهير المنظم للجمعيات، الذي يفرض على الجمعيات التي تتلقى بشكل دوري دعم من جماعة عمومية او من مؤسسة عامة، تقديم ميزانياتها وحساباتها، طبقا لشروط التنظيم المالي والمحاسباتي المحدد بقرار 31 يناير 1959، والذي يلزم الجمعيات التي تتلقى مساعدات أجنبية، بالتصرح بذلك للأمانة العامة للحكومة .
و إضافة إلى ذلك، تطرح المذكرة ضرورة تعزيز مراقبة التسيير المالي للجمعيات باللجوء إلى التصديق على حساباتها، عندما يتجاوز مجموع المساهمات العمومية المحصل عليها في مشروع ما أو عدة مشاريع 500 ألف درهم.
وبشكل عام، لا يمكن الإشارة إلى مذكرة الوزير الأول السالفة الذكر بمعزل عن التحولات التي بدأ يشهدها الواقع المغربي ، خاصة على مستوى انتشار ثقافة الشراكة بين مؤسسات الدولة و الجمعيات.فالمذكرة إذن صدى أو استجابة لما بدأ يعتمل في هذا الواقع (في حقل التربية والتكوين، بدأت وزارة التربية الوطنية، منذ نهاية سنوات التسعينات، تنفتح على الجمعيات، بل و تسعى إلى إقامة علاقة شراكة1 معها، من أجل النهوض بواقع المنظومة التربوية..(الميثاق الوطني للتربية والتكوين، و اصدار مجموعة من النصوص المنظمة للشراكة،:ظهائر ومراسيم ومذكرات …).
لكن رغم النتائج الايجابية المهمة التي تحققت نتيجة انخراط الجمعيات في ورش النهوض بالتعليم، على الخصوص في المناطق القروية والمهمشة، إلا أن الشريكين واجها مجموعة من المشاكل، تتعلق بضعف ونقص خبرة الجمعيات وحاجتها إلى التكوين والتأهيل من جهة، وتتعلق بقدرة الوزارات ومصالحها الخارجية (الموارد البشرية والمالية) على الاستمرار في الانخراط في هذه السياسة ، التي تتطلب مرونة وموارد ماليا كافية وموارد بشرية مؤهلة، وإيمانا فعليا بروح المشاركة والتشارك، من جهة أخرى.
ولعل هذا ما يفسر انتقال الوزارة في الآونة الأخيرة إلى خلق «جمعيات» موازية ، مثل الجمعية المغربية لدعم التمدرس التي ترأسها كاتبة الدولة في التعليم شخصيا ، والتي تشرف على تنفيذ برنامج تيسير الذي يصل غلافه المالي إلى ملايين الدراهم، والتي تحظى عموما بامتيازات خيالية ، ثم جمعيات دعم مدرسة النجاح ، التي أشرفت الوزارة على تأسيسها، وأمدتها بالوسائل الضرورية للنهوض بمهامها، بل سعت إلى عقد شراكات معها، وفق نموذج لمشروع اتفاقية إطار للشراكة بين الجمعيات والوزارة ، في شخص الأكاديميات.
وعلى مستوى تدبير الشأن المحلي ، يشير الميثاق الجماعي2، إلى أهمية المشاركة المواطنة في التدبير الجماعي، بما أنه يحيل عليها في العديد من مقتضياته، وأهمها : المادة 38، المتعلقة بمجال التعمير والتهيئة المجالية، والتي تنص في الفقرة 5 ، على أن المجلس الجماعي «يشجع خلق تعاونيات سكنية وجمعيات للأحياء.» وتعني هذه المادة أنه في مجال السكن، يتعين على المجلس الجماعي تشجيع المبادرات الخاصة المنظمة في إطار جمعيات أو تعاونيات من أجل تحقيق تجهيزات للسكن الاجتماعي.وعن طريق هذه المنهجية يمكن للمشاريع المنجزة في إطار التعاونيات والجمعيات، والتي تتحمل مسؤوليتها الساكنة المستفيدة، أن تعبر عن الحاجات الفعلية لهذه الفئة المستهدفة3.و المادة 41 الفقرة 2 ، التي تنص في الفقرة 2 على أن المجلس الجماعي»يشجع ويساعد التنظيمات والجمعيات ذات الطابع الاجتماعي ، الثقافي والرياضي».كما تنص نفس المادة في الفقرة 3 و 4 على أن المجلس الجماعي مطالب باعتماد منهجية في تدبير القرب، تقوم على التحسيس، التوعية والتعبئة، بهدف انخراط باقي الفاعلين الآخرين المعنيين بالتنمية المحلية، فإضافة إلى انخراط الفاعلين المؤسساتيين العموميين(الدولة) والمنتخبين المحليين، ينبغي انخراط الفاعلين التنمويين الآخرين وخصوصا الجمعيات المحلية.
وعلى العموم يمكن القول إن روح الميثاق الجماعي ل2002، سارت في اتجاه انفتاح الجماعة على محيطها، بما أن مقتضياته تؤكد على تشجيع مبادرات الشراكة ومشاركة السكان ، وتنظيماتهم المدنية4.
ومع ذلك فإن فسح المجال أمام مشاركة الجمعيات ، يبقى أمرا نسبيا في نص الميثاق الجماعي، لأنه لا يخرج عن نطاق التعبير البلاغي.وما دام أنه ليس هناك قرار إلزامي في هذا الشأن، فإن المجلس الجماعي يتمتع بكامل الصلاحية لقبول مشاركة الجمعيات أو رفضها، خصوصا وأن المشرع لم يحدد بدقة طبيعة بنيات وآليات تسمح بهذه المشاركة ، و لم يعمل بالتالي على مأسسة هذه المشاركة ، كما هو الشأن في بعض التشريعات الأجنبية، التي أقرت بنيات للمشاركة مكملة للبنيات التمثيلية التي تفرزها الانتخابات، وليست منافسة لها ولا بديلة عنها5…
وحمل التعديل الذي شهده الميثاق الجماعي6 في السنة الماضية إضافات مهمة فيما يخص مشاركة الجمعيات، عززت المقتضيات السابقة التي تشير إلى أهمية المشاركة والشراكة في ميثاق 2002 ، حيث ينص القانون الجديد في المادة 14 ، على إحداث لجنة استشارية لدى المجلس الجماعي تدعى لجنة المساواة وتكافؤ الفرص تتكون من شخصيات تنتمي إلى جمعيات محلية وفعاليات من المجتمع المدني يقترحها رئيس المجلس الجماعي.و تبدي اللجنة، التي يرأسها رئيس المجلس الجماعي أو من ينوب عنه، رأيها كلما دعت الضرورة ، بطلب من المجلس أو رئيسه في القضايا المتعلقة بالمساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع الاجتماعي، ويمكن لأعضاء اللجنة تقديم اقتراحات تدخل في مجال اختصاصاتها.كما ينص القانون في المادة 36 ، على أن رئيس المجلس الجماعي مطالب بإعداد مشروع مخطط جماعي للتنمية (الاقتصادية والاجتماعية) ، وبتقديمه للمجلس من أجل دراسته والتصويت عليه.ويحدد المخطط الجماعي للتنمية الأعمال التنموية المقرر إنجازها بتراب الجماعة لمدة ست سنوات ، في أفق تنمية مستدامة وفق منهج تشاركي يأخذ بعين الاعتبار على الخصوص مقاربة النوع…
ويتأكد رهان الدولة على مشاركة الجمعيات أيضا، من خلال الدور الموكول لها في المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي انطلقت منذ سنة 2005.حيث يعتبر النسيج الجمعوي فاعلا أساسيا في المبادرة الوطنية للتنمية البشرية
ومن الإشارات الأخيرة الدالة على روح الشراكة مع الجمعيات، انفتاح اللجنة الاستشارية للجهوية، المكلفة بلورة تصور حول الجهوية الموسعة، على الجمعيات.
الظهير المتعلق بإحداث المجلس الاقتصادي والاجتماعي7، ينص في المادة 11 على أن الجمعيات مكون أساسي في تشكيلة المجلس،
6 وفق الظهير الشريف رقم 1.08.153 صادر في 22 من صفر 1430 الموافق ل18 فبراير 2009، بتنفيذه القانون رقم 17.08 المغير والمتمم بموجبه القانون رقم 78.00 المتعلق بالميثاق الجماعي كما تم تغييره وتتميمه- منشور الجريدة الرسمية عدد 5711 بتاريخ 23 فبراير 2009.خامسا : ملامح ديموغرافيا الجمعيات بالمغرب .
استعرنا مفهوم الديموغرافيا الجمعوية démographie associativeمن الباحث لويس ديرن1 louis Dirn. وعلى غرار الديموغرافيا، كعلم يدرس السكان، انطلاقا من متغير العدد والمدة، وكعلم يتناول بنية السكان ستاتيكيا وديناميا، من خلال البحث في توزعهم حسب السن ، الجنس، الحالة العائلية، النشاط المهني، قياس خصوبتهم ، معدلات وفاتهم وولادتهم، وكذا التنبؤ ، إلى حد ما، بآفاق تطورهم المستقبلي2، يقصد بالديموغرافيا الجمعوية، دراسة الجمعيات ستاتيكيا وديناميكيا من خلال رصد تزايد عدد الجمعيات عبر الزمن ، من خلال تتبع حركية تأسيس الجمعيات و اختفائها، ودراسة توزع الجمعيات جغرافيا بين الجهات، وبين المدينة والقرية، وتوزعهم بين مجالات الاهتمام.
1-1- إشكالية ديموغرافيا الجمعيات بالمغرب :
هناك ثلاث جهات رسمية هي على اطلاع، من الناحية المبدئية، على ديموغرافيا الجمعيات، وفقا لما ينص عليه قانون الجمعيات3 ، هي كالتالي :
- وزارة الداخلية، على اعتبار أن كل جمعية مطالبة بتقديم تصريح إلى مقر السلطة الإدارية المحلية الكائن به مقر الجمعية، والذي يتضمن كل المعطيات الخاصة بالجمعية (اسمها وأهدافها، لائحة تتضمن كل المعلومات الخاصة بإعضاء المكتب المسير، صور من بطائقهم الوطنية ونسخ من سجلاتهم العدلية الخ) ، إضافة إلى القوانين الأساسية للجمعية.
- وزارة العدل، بحكم أن السلطة الإدارية المحلية توجه نسخة من التصريح ونسخة من الوثائق المرفقة به إلى النيابة العامة بالمحكمة الابتدائية المختصة، وذلك قصد تمكينها من إبداء رأيها في الطلب عند الاقتضاء.
- الأمانة العامة للحكومة، التي توجه إليها كذلك السلطة الإدارية المحلية نسخة من وثائق تأسيس الجمعية.
هذا علاوة على بعض الجهات الرسمية الأخرى، التي يرتبط مجال تدخلها بعمل الجمعيات على المستوى الميدان، والتي تعمل على مستوى برامجها وسياساتها على دعم، تشجيع ورعاية عمل الجمعيات، مثل وزارة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن، التي هي من الناحية النظرية الوزارة الوصية على الحقل الجمعوي، ووزارة الشباب والرياضة،ووزارة الفلاحة..الخ. .
ومقارنة مع ما هو معمول به في بعض المجتمعات الأخرى، فهناك صعوبة كبيرة في الولوج إلى المعطيات الإحصائية الخاصة بالجمعيات، مما يحول دون رسم صورة واضحة عن الديموغرافيا الجمعوية. ففي فرنسا على سبيل المثال، يجري إحصاء منتظم لعدد الجمعيات ، وقانون الجمعيات ، يسهل نسبيا ذلك، بحكم أنه ينص على ضرورة التصريح بالتأسيس الرسمي للجمعيات التي ترغب في الاستفادة من التمويل العمومي، في الجريدة الرسمية.وإن كان من الصعوبة معرفة عدد الجمعيات غير المصرح بها ، وعدد «الجمعيات الحية» associations vivantes ،لأنه لا يوجد أي إلزام قانوني يفرض التصريح ب»وفاة الجمعية» وتوقفها عن العمل، مثلما هو الشأن بالنسبة لتأسيسها4.
والواقع أن الخصاص الإحصائي التي يواجه كل من يتناول الظاهرة الجمعوية ببلادنا، ليس مسألة مغربية صرفة، حيث يكاد يكون هذا المشكل عالميا، فكما توضح الباحثة سيبي ميرتين : Sybille Mertens» إذا كانت المعرفة الإحصائية للتنظيمات التعاونية والتعاضدية تطورت كثيرا خلال السنوات الأخيرة، فالملاحظ أنه ما يزال هناك جهل إحصائي عميق فيما يخص الجمعيات5».ويطرح هذا الخصاص المسجل على مستوى إدراك الظاهرة الجمعوية مشكلا.إنه يحول دون الباحثين ووضع بعض النظريات موضع إثبات إمبريقي.ويحرم كذلك أصحاب القرار من معلومات مفيدة لتحليل وصياغة السياسات الاقتصادية.فسواء على المستوى العلمي أو السياسي، فهناك شعور بالحاجة إلى معلومات إحصائية حول الواقع الجمعوي.
ومع ذلك، فمشكل إحصاء الجمعيات في البلدان الأوربية راجع إلى كون عدد مهم من الجمعيات ليست لها شخصية قانونية، ما دام أن القانون المنظم للجمعيات في فرنسا أو بلجيكا مثلا، لا يلزم الجمعيات بالتصريح القانوني لدى السلطات، إلا في حالة ما إذا كانت تود تلقي إعانات ودعم عمومي.وما عدا ذلك فيمكن تأسيس الجمعية والاشتغال بدون تصريح قانوني.أما فيما يتعلق بالجمعيات المصرح بها قانونيا، فمسألة إحصائها تبدو سهلة، بالاعتماد مثلا، بالنسبة لحالة بلجيكا، على سجل الأشخاص المعنويين الصادر عن وزارة الداخلية والوظيفة العمومية، أو بالاعتماد على ما ينشر في الجريدة الرسمية في حالة فرنسا.وإن كانت مشكلة هذا السجل أنه يعيد نشر لائحة الجمعيات القانونية، بما في ذلك تلك التي لم تعد تقوم بأي نشاط، ولكن لم تتوقف عن الوجود قانونيا، أي بأن تحل نفسها.
وكما أشرنا إلى ذلك عند حديثنا عن الإطار القانوني والمؤسساتي للجمعيات بالمغرب، فإن المندوبية السامية للتخطيط بصدد انجاز بحث حول الجمعيات- الأول من نوعه على المستوى الرسمي- سيقدم بالتأكيد معطيات مهمة حول الديموغرافيا الجمعوية ببلادنا.
وبغض النظر عن النقص المسجل على مستوى المعطيات الإحصائية الخاصة بالجمعيات، يمكن القول أن التغيرات التي تطال الديموغرافيا الجمعوية ليست مسألة اعتباطية، بل هي مؤشرات مهمة على ما يحدث في المجتمع، بل يمكن الذهاب إلى حد القول إن الديموغرافيا الجمعوية تعكس بأمانة اتجاهات المجتمع، أو على الأقل بعضا منها 6.فكما بين أليكس دو طوكفيل فيما يخص حالة المجتمع الأمريكي، في القرن التاسع عشر، فإن تزايد عدد الجمعيات غير مفصول عن المنحى الديمقراطي للمجتمع،»فالبلد الأكثر ديمقراطية في الأرض، هو البلد الذي طور فيه الناس، في أيامنا هذه فن البحث بشكل جماعي عن موضوع رغباتهم المشتركة، والذي قاموا فيه بتطبيق هذا العلم الجديد على أكبر عدد ممكن من الموضوعات»7.
وهكذا فالحيوية الكبيرة، التي ميزت الحقل الجمعوي ببلادنا، في العقدين الأخيرين، والتزايد الكبير والمضطرد لعدد الجمعيات، هو تعبير عن توسع مجال المشاركة الاجتماعية، إذ أصبح إنشاء الجمعيات يعبر عن تعقد المجتمع وتغيره، و يستهدف تجاوز الاختلالات التي يطرحها هذا التعقد وهذا التغير، بالنسبة للمواطنين.أو بعبارة أوضح، لم يعد يمثل تأسيس الجمعيات ترفا بل ضرورة اجتماعية، تطمح إلى ملأ الفراغ الذي تتركه عادة تدخلات الفاعلين العموميين أو نتيجة لمحدودية تلك التدخلات ،أمام الطلب المتزايد و الأزمة المتصاعدة. وهو ما تم الوعي به بشكل أساسي في المغرب ، بعد سياسة التقويم الهيكلي.
و بشكل عام فان قدرة المجتمع على النمو و على التطور و على الابتكار مرتبطة بصفة أساسية بقدرته على بناء أكثر ما يمكن من مجالات العمل المتخصصة و التي تكون قريبة من المواطنين و بعيدة عن تحكم الدولة.فكلما كثرت مجالات العمل غير الحكومية، كلما سار المجتمع في اتجاه التنمية والديمقراطية. إذ أن كثافة النسيج الجمعوي محدد أساسي اليوم لقدرة المجتمع على التطور و البناء الديمقراطي.
فالديمغرافيا الجمعوية تعكس بأمانة و بدقة اتجاهات المجتمع و تعبر عن حاجاته، أو على الأقل بعضا منها.ويظهر من خلال تنامي عدد الجمعيات ومن خلال تنوع مجالات الفعل (التنمية، حقوق الإنسان ،الاهتمام بالفئات المحرومة: المرأة،المعاقين، الأطفال في وضعية صعبة…) ، أن هناك وعي لدى الفاعلين الجمعويين بحاجة المجتمع إلى التنمية والديمقراطية..
وحسب المعطيات المقدمة من طرف وزارة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن سنة 2007 8 ، يتشكل النسيج الجمعوي المغربي من 38500 جمعية9، تشتغل في المجالات متنوعة أهمها :
حماية الأشخاص المعاقين- محاربة الأمية- النهوض بصحة الساكنة المهمشة- حماية البيئة- النهوض بحقوق المرأة- حماية الطفولة- العمل الخير والإحساني- الأنشطة الرياضية- التنمية المحلية والجهوية- الأنشطة الثقافية والفنية- تنمية البنيات التحتية- التنمية والأعمال الاجتماعية – حقوق الإنسان ..الخ.
من جانبه تحدث الصحافي والفاعل الجمعوي عبد الرزاق الحنوشي10، بخصوص عدد الجمعيات في المغرب ، في بداية الألفية الثالثة(سنة 2002)، عن رقم 30 ألف جمعية، وبالضبط 30230 جمعية تتوزع إلى 27105 جمعية مغربية، و 3125 جمعية أجنبية.هذا بعد أن كانت الجمعيات المسجلة بقاعدة المعطيات لدى الأمانة العامة للحكومية إلى غاية فاتح نونبر 2001 تصل إلى حوالي: 24732 جمعية، منها الجمعيات ذات المنفعة العامة، وتضم 114 جمعية، تتوزع بدورها إلى 105 جمعية مغربية و 9 أجنبية و10 مؤسسات fondations . وتتوزع الجمعيات، حسب مجالات الاهتمام، إلى ما يلي: جمعيات الشباب والطفولة، الجمعيات المهتمة كليا أو جزئيا بقضايا النساء، الجمعيات المهتمة بالإعاقة، الجمعيات المهتمة بالبيئة، جمعيات آباء وآولياء التلاميذ، الجمعيات الرياضية المدرسية، الجمعيات ذات الطابع الديني ،..الخ.
في الواقع تتضارب الأرقام حول عدد الجمعيات بالمغرب.لكنها تتراوح عموما ما بين 30 و40 آلف جمعية إلى حدود سنة 2007.
وعموما حاولنا التحقق من هذه الأرقام، لدى الأمانة العامة للحكومة، لكن نظرا للتعقيدات الإدارية، عجزنا عن بلوغ الهدف ، إذ باءت المحاولات المتكررة بالفشل.
وحسب البحث الذي أنجزته المندوبية السامية للتخطيط فان عدد الجمعيات العاملة فعلا في سنة 2007 هو 44.614 (+ الجمعيات ذات النفع العام 44.771) وتتحدث الوزارة الوصية على المجتمع المدني اليوم عن رقم 90 ألف جمعية وأكثر (93 ألف) …
لكن يتلاحظ أن هناك توزيعا غير متكافيء للديمغرافيا الجمعوية على مستوى التراب الوطني. فطوال عقود ظلت الظاهرة الجمعوية حضرية بامتياز ، بل كانت أغلب الجمعيات متمركزة في محور الرباط- البيضاء.بل يمكن القول أنه لزمن طويل كان هناك تناسب بين قلة فرص بعض المناطق في التنمية ، كما هو الحال في منطقة الجنوب الشرقي، ، وفرص وجود جمعيات بها، في حين أن المنطق كان يفترض العكس.
وتبين المعطيات الرسمية الخاصة بالجمعيات، بأن نفس الملاحظة ما تزال قائمة إلى حدود سنة 2007، إذ حوالي نصف عدد الجمعيات بالمغرب، يتمركز في محور القنيطرة -الجديدة، بنسبة 47.93 % من العدد الإجمالي للجمعيات، ثلثي هذه النسبة يوجد في محور الرباط-الدارالبيضاء (ب 31.24 % من العدد الإجمالي).وتتضمن جهة مكناس-تافيلالت، التي تحتضن إقليم الرشيدية ، مجال هذا البحث ما مجموعه 2212 جمعية.
>
بعض الخلاصات الأولية :
1- إن ظاهرة العمل الجمعوي بالمغرب ظاهرة حديثة.ارتبطت من جهة بسيرورة التمدين التي شهدها المجتمع المغربي منذ الفترة الاستعمارية، كما ارتبطت من جهة أخرى ببروز الطبقة المتوسطة. فصحيح أن المجتمع المغربي عرف عبر تاريخه، ممارسات اجتماعية وأنظمة تضامن وتعاون عفوية شبيهة بما نصطلح عليه اليوم بالعمل الجمعوي.بل إن بعض هذه الممارسات والأنظمة ما يزال مستمرا إلى حد الآن.لكن لا يمكن اعتبار الظاهرة الجمعوية اليوم امتدادا مباشرا لأشكال التضامن والتعاون التقليدية التي ميزت مجتمعنا المغربي القبلي لقرون طويلة، فالاختلاف بين التنظيمات التقليدية والتنظيمات الجمعوية ، هو اختلاف بين نسقين اجتماعيين متمايزين جوهريا، نسق تقليدي تقوم فيه العلاقات على رابطة الدم والقرابة ووحدة الانتماء للمجال ، وتتوارى فيه ذاتية الفرد وراء سلطة «النحن « ، ونسق حديث تقوم فيه العلاقات على التعاقد بين ذوات مستقلة وتتمتع بحرية الإرادة.
هذا مع الإشارة إلى أن الحداثة الذي يحيل إليها العمل الجمعوي هي حداثة مغايرة : إنها حداثة تضامنية وتشاركية، وليس حداثة العقلانية الحسابية، والفردانية.
2- عرفت الديموغرافيا الجمعوية ببلادنا تزايدا كبيرا منذ بداية التسعينيات وتنوعا على مستوى مجالات اهتمامها، وان كان الغالب عليها هو الاهتمام بالتنمية ، والميل إلى تبني الغايات والأهداف التي تحظى أكثر بالتمويل، كما شهدت هذه الديموغرافيا تغيرا على مستوى توزيعها الجغرافي، حيث لم تعد متمركزة في المدن الكبرى ،وان كان ما يزال اللاتكافؤ في التوزيع بين المدن الكبرى والقرى، وبين المدينة والقرية هو الغالب .
ولعل من أسباب نجاح الحركة الجمعوية في المناطق القروية الأكثر حرمانا في المغرب ، نجد الروح المدنية للنخبة المحلية المهاجرة في المدن الأخرى داخل المغرب أو في بلدان المهجر ، والتي تعود إلى قراها الأصلية، لتقدم تجربتها للساكنة، وتساهم بالتالي في تطوير العمل الجمعوي بهذه المناطق.وعلى العموم فالتغيرات التي طالت الديموغرافيا الجمعوية ليست مسألة اعتباطية، بل هي مؤشرات مهمة على ما حدث في المجتمع. وهكذا فالحيوية الكبيرة، التي ميزت الحقل الجمعوي ببلادنا، في العقدين الأخيرين، والتزايد الكبير والمضطرد لعدد الجمعيات، هما تعبير عن توسع مجال المشاركة الاجتماعية، إذ أصبح إنشاء الجمعيات يعبر عن تعقد المجتمع وتغيره، و يستهدف تجاوز الاختلالات التي يطرحها هذا التعقد وهذا التغير بالنسبة للمواطنين. أو بعبارة أوضح، يمثل تأسيس الجمعيات ضرورة اجتماعية، تطمح إلى ملء الفراغ الذي تركته تدخلات الفاعلين العموميين أو نتيجة لمحدودية تلك التدخلات ،أمام الطلب المتزايد و الأزمة المتصاعدة، بفعل اعتماد سياسة التقويم الهيكلي، وتراجع المؤسسات التقليدية عن أداء أدوارها، وعدم قدرة الدولة على التكفل بحل جميع المشاكل الاجتماعية التي تميز مجتمعا في تحول كامل.
وفي هذا الإطار تشكل الجمعيات ، أحد البدائل الايجابية الممكنة لمآل التغير الاجتماعي ببلادنا، في ظل استشراء واقع الإقصاء، الهشاشة والفقر. وفي غياب هذا البديل الايجابي، سيكون المجتمع في مواجهة اختيارات أو ملاجئ أخيرة، لها نتائج سلبية، ليس على الفرد فقط، وإنما على المجتمع في كليته، لعل من أبرزها الهجرة السرية، التطرف الديني، التهريب، المتاجرة في المخدرات، والعنف الحضري…الخ.
لكن كل ما سبق، لا ينفي حقيقة أن القطاع الجمعوي ذاته يجتاز حاليا أزمة وجودية، تعود إلى أسباب متعددة و متداخلة أهمها: غياب تقليد أو إرث ثقافي جمعوي بالمغرب11، فباستثناء بعض مناطق المغرب، التي تشهد دينامية جمعوية ناشئة، فالعمل الجمعوي ، ما يزال ظاهرة حديثة، وممركزة في بعض المراكز الحضرية الكبرى. وذلك ما يفسر إلى حد ما التزايد الفوضوي واللامتكافئ للجمعيات.
كما أن الفعل الجمعوي ذاته، يعاني من عدة اختلالات أهمها : قلة التجربة والخبرة، غياب رؤية شمولية للفعل الجمعوي ولسياسة التنمية على المدى المتوسط والطويل، ضعف التنسيق و التشاور بين الجمعيات، وفيما بينها وبين باقي الفاعلين التنمويين، تغليب المصالح الشخصية ، الفئوية ،الاقتصادية والسياسية، الطابع الهجين لمالية الجمعيات ولطبيعتها التنظيمية الخ…
ومن خلال استحضار هذه الأزمة وهذه الاختلالات، ندرك حجم وعمق المشكل الذي يعاني منه العمل الجمعوي ببلادنا، والذي يستدعي فتح ورش لتأهيل هذا الحقل الاجتماعي ذي الأبعاد الاقتصادية والسياسية ، ليكون في مستوى الأدوار ، الانتظارات والآمال المعقودة عليه.
فصحيح أن المبادرات الحكومية، في السنوات الأخيرة، دشنت مؤخرا برامج لتأهيل الجمعيات ، وتقوية قدرات الفاعلين الجمعويين، ودعم «تشبيك» الجمعيات. لكن هذه البرامج على أهميتها، لا تنطلق من تشخيص دقيق لواقع الجمعيات والعمل الجمعوي بكافة مناطق المغرب، ولا تحتكم بالتالي على معطيات دقيقة ووافية حول الموضوع.لهذا فهي لا تأخذ بعين الاعتبار كل الجمعيات، إذ تتوجه بالأساس إلى الشبكات والأنسجة الجمعوية ، والحال أنه ليست كل الجمعيات تندرج ضمن شبكات وأنسجة جمعوية .هذا زيادة على أن منطق «التشبيك» يخفي ، في الغالب نزوعات هيمنية لبعض الجمعيات على البعض الآخر، بحيث يكون المستفيد الأول والأخير من هذه العملية هو الجمعيات «الكبرى « في كل جهة من جهات المغرب، بينما باقي الجمعيات «الصغيرة» والناشئة تكتفي بالمسايرة فقط، دون مشاركة فعلية.فالجمعيات في حاجة اليوم لمدونة سلوك جديدة، تستدرك الكثير من جوانب الخصاص والاختلال التي تميز عملها.خصوصا وأن الاهتمام الذي تبديه الدولة تجاه الجمعيات و الحرص الذي تبديه لتحسين شروط عملها ، غير مفصول عن تبنيها لسياسة القرب واللامركزية واللاتركيز، التي تستهدف ليس فقط نقل الانشغالات والمسؤوليات إلى الجمعيات والجماعات المحلية، وباقي تنظيمات القرب، بل ونقل الأخطار والتهديدات أيضا، فقد نجحت الدولة في إنشاء بنية ? عازلة structure-tampon بينها وبين السكان، بنية قاطعة-للتيار، في زمن تصاعد العواصف الاجتماعية، وتمثل الجمعيات أحد أبرز مكونات هذه البنية العازلة إلى جانب الجماعات المحلية.
كما أن السياسات العمومية، التي هي من حيث المبدأ مسؤولية الدولة، تنزع إلى التحول إلى نوع من الأشغال الباطنية أو المناولة «Sous-traitance لفائدة الجمعيات، بفعل تخلي الدولة التدريجي عن جزء من مسؤوليتها، إذ في هذه الحالة تصبح الجمعيات تابعة، أكثر فأكثر، «للطلب العمومي»12، أي تتحول إلى أداة في يد الدولة و وسيلة للضبط الاجتماعي….
> انتهى
يونيو 2013 عن جريدة الاتحاد الاشتراكي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق