الاثنين، 29 أبريل 2013

لا تجيبوا على هذاالسؤال !

عليّ أولاً أن أعرفكم بـ ( سعدي بيك ) بصورة جيدة.
ثمة نوع من الناس يقال فيهم إنهم " مثل بعر الأرنب, لا يفوح و لا يلوث ", إن سعدي بيك هو المثال الأفضل على هذا النوع. لا في العير و لا في النفير، لا للصيف و لا للضيف. فإذا سألته " كم حزباً في البلد ؟ " فهو لن يجيبك حتى بـ " لا أعرف " بل يكتفي برفع كتفيه و زمّ شفتيه.‏ هو رجل رزين و مهذب، يكبرني بعشر سنوات, لكنه يبدو بعمر أبي لشدة رزانته و رصانته، لا يمكنك اقتلاع الكلمة من فمه إلا مثل اقتلاع الضرس الملتهب.
فهو يكاد لا يتكلم أبداً.‏ يقيم مع زوجته و ابنته في قصر صغير عتيق في " أرن كوي " ورثه عن أبيه, و لا يؤجر أياً من أجنحته, على أمل أن يحصل لابنته على صهر يقيم معهم.‏
ألتقي به كل صباح، فإذا لم يحدث ذلك في القطار، حدث حتماً في عبّارة الساعة التاسعة, التي تنطلق من " حيدر باشا ".‏
اضطررت لملازمة الفراش خمسة عشر يوماً بسبب المرض، و في اليوم الأول لعودتي إلى العمل _ بعد شفائي من المرض _ ترجلنا، سعدي بيك و أنا، سوية من القطار و مشينا باتجاه العبّارة، و إذ بأحد المعارف يمر بنا و يقول لسعدي بيك:‏
ـ كيف الطقس يا سعدي بيك ؟‏
ثم تابع طريقه من غير أن ينتظر جواباً من سعدي بيك. ثم لحق بنا واحد آخر و قال و هو يهبط السلالم الرخامية:‏
ـ مرحباً سعدي بيك, كيف الطقس يا سعدي بيك ؟‏
قال الرجل ذلك و هرب مبتعداً، و كان واحداً من زملائنا. نظرت إلى وجه سعدي بيك، فوجدته شاحباً مثل كلس مزج بطلاء أخضر.. ثم سمعنا أصواتاً ساخرة خلفنا:
ـ كيف الطقس يا سعدي بيك ؟‏... كيف الطقس يا سعدي بيك ؟‏
كان غضب سعدي بيك يتصاعد، لكنه يحاول إخفاءه. صعدنا إلى العبّارة و جلسنا في القاعة السفلى. قال رجل يجلس على مقربة:
ـ مرحبا سعدي بيك.‏
لم أكن على معرفة بهذا الرجل المسن و المتأنق. ردّ عليه سعدي بيك التحية:‏
ـ أهلاً يا سيدي.‏
ـ كيف الحال يا سيدي؟‏
ـ شكراً لكم. الحمد لله.‏
ـ أوه ! أوه !.. أنعم الله عليكم بالصحة و العافية, كيف الطقس ؟‏
قفز سعدي بيك من مكانه كالسهم، التقط قبعته و ابتعد, فخرجت معه لأنه رفيق طريقي لسنوات. وقفنا جنباً إلى جنب في مؤخر العبّارة. عرفت أنه مستاء جداً من شيء ما, لكني تجنبت سؤاله خشية أن يزعجه السؤال. التزمنا الصمت حتى وصلت العبّارة إلى المرفأ, حيث سأله عدد من الأشخاص عن الطقس و نحن نترجل من العبّارة.‏ بدأت أغتاظ بدوري، و أردت التدخل, لكني لم أفعل لأنني لا أعرف ما هو الموضوع. و لم يكن الغيظ يناسب هذا الرجل المهذب.
سألته بعد أن صعدنا إلى الأتوبيس معاً:‏
ـ ما الأمر يا سعدي بيك ؟, لماذا يسألك الجميع عن أحوال الطقس ؟
 نظر في وجهي نظرة ارتياب ثم قال:‏
ـ ألا تعرف؟‏
-- لا.. لا أعرف.‏
ـ سأحكي لك.
هذا المساء على العبّارة.‏ افترقنا عند أول النفق.‏ بقيت متشوقاً لما سيحكيه لي سعدي بيك، و لم يبرح خيالي مشهد وجهه الغاضب و هو الرجل اللبق المهذب ذو الأعصاب الباردة. إذن فقد حدث معه شيء ما في غضون الأسبوعين اللذين قضيتهما طريح الفراش.‏ التقينا في المساء عند جسر مرفأ " قاضي كوي ".قال لي:‏
ـ يحسن بنا ألا نستقل هذه العبّارة.‏
فهمت أنه يريد انتظار العبّارة التالية خشية التعرض لسخريات معارفه اللذين يستقلون هذه العبّارة.‏ كان ثمة بائعو سمك طازج على القوارب، اشترى منهم سعدي بيك كيلو و نصف من السمك، تمشينا لبعض الوقت على المرفأ، ثم ركبنا عبّارة الثامنة و عشر دقائق. السمك المبلل كاد يثقب أسفل الكيس الورق الذي تشبّع بالماء. و هكذا جلسنا فوق السطح و سعدي بيك يمسك بكيس السمك بحرص. قال لي:‏
ـ أنت لا تعرف إذن ؟‏
في تلك اللحظة قال أحدهم:‏
ـ كيف الطقس اليوم يا سعدي بيك.‏
نهض سعدي بيك من مكانه دون أن يتفوه بكلمة واحدة. هبطنا معاً إلى الأسفل و قصدنا مؤخّر العبّارة حيث استند سعدي بيك إلى الدرابزين و جلست على المقعد الخشبي المجاور، و قد أمسك بكيس الورق بحرص شديد. قال لي:‏
ـ إياك ثم إياك !, إذا فتح أحدهم حديثاً عن الطقس, فاهرب منه على الفور !, فإذا حدث و سألك عن الطقس فلا تنبس ببنت شفة، فليسأل و لكن لا تجبه. ذلك أنهم يبدؤون الكلام بهذه الطريقة أي بالسؤال عن أحوال الطقس ثم يستدرجون المرء و يقحمونه في ورطة. الرجل الذي أمامك يبدأ بكلمة الطقس فلا ترى خطراً في الحديث عن أحوال الطقس. بعد ذلك ينتقل من الطقس إلى الماء و إذ بموضوع الحديث ينزلق إلى الأرض, ثم.. و إذ بك متورط بلا وعي في حديث.. إياك !, انتبه حماك الله..و إلا أصبحت في ورطة...‏ حدث لي ذلك منذ حوالي عشرة أيام.. ركبت القطار من محطة " أرن كوي " كعادتي كلّ يوم. جاء شخص و جلس بجانبي. مضى بنا القطار بضع دقائق و نحن صامتان. ثم قال الرجل:‏
ـ الطقس يزداد سوءاً هذه الأيام.‏
لم أتفوه بكلمة لأنني لا أحبّ الناس الفضوليين من أمثاله. قال بعد قليل:
ـ الجوّ ينذر بالسوء، أليس كذلك يا سيدي ؟
خجلت من الاستمرار بالصمت فقلت له:‏
ـ نعم.‏
لعنة الله عليّ إن كنت تفوّهت بأية كلمة أخرى.‏ بعد ذلك قال الرجل:‏
ـ يبدو أنها لن تمطر أبداً هذا العام.‏ الرجل يمد صحنه لالتقاط الكلام من فمي و أنا أجيبه بالصمت.‏
ـ أليس كذلك يا سيدي ؟ الظاهر أنها لن تمطر أبداً هذا العام.‏
لا أخرجني الله حياً من هذه العبّارة إن كنت أكذب عليك، لقد أجبته بكلمة واحدة أيضاً:‏
ـ نعم.‏
وكيف أقول " لا" يا أخي ؟, فهو يقول لي " يبدو أنها لن تمطر "، فهل أرد عليه بالقول:‏ " لا "، سوف تمطر" ! فما أدراني إن كانت ستمطر أم لا ؟.
هذه المرة انتقل الرجل إلى الحديث عن الماء، قال:
ـ لدينا شح في الماء.. أليس كذلك يا سيدي، لدينا شح في الماء ؟‏
ـ نعم.‏
ـ إذا لم تهطل الأمطار سنشهد محلاً. هذا العام لدينا محل. يقال إن ( الأناضول ) تحترق من الجفاف.‏ ثم يضغط عليّ لأؤكد على كلامه:‏
ـ أليس كذلك يا سيدي ؟‏
ـ نعم.‏
ـ سوف نضطر لشراء القمح من الخارج.‏
عندما رأى أنني لم أقل شيئاً، ألحّ قائلاً:‏
ـ سنشتري، أليس كذلك يا سيدي ؟‏
ـ و هل أنا وزير التجارة يا أخي ؟ مالي أنا إن اشترينا قمحاً أو شعيراً‏
ـ سنشتري أليس كذلك يا سيدي ؟‏
ـ نعم.‏
ـ لا يمكن إدارة الأمور على هذه الصورة. إن الحكومة عاجزة عن إدارة هذه الأمور.‏
بدأنا من الطقس و انتهينا إلى الحكومة. هل يمكن للحكومة أن تخطر على البال إذا كان الحديث يدور عن الطقس ؟, أترى من أين و إلى أين ؟‏
ـ إن الحكومة عاجزة عن إدارة الأمور، أليس كذلك يا سيدي ؟‏
بما أن الأمور وصلت إلى الحكومة، لم أجبه حتى بنعم هذه المرة. الطقس.. فهمنا، و الماء.. فهمنا أيضاً، و لكن ما شأننا بالحكومة ؟.. التزمت الصمت، لكن الرجل لكز خاصرتي و صرخ قائلاً:‏
ـ أليس كذلك ؟‏
ـ نعم.
قلت ذلك لأنه سيلكزني ثانية إذا لم أرد عليه.‏
ـ الأسعار ترتفع باطراد. ماذا سيحل بهذا الشعب ؟‏
كان بوسعي أن أقول له " لا، الأسعار لا ترتفع، بل تنخفض يوماً بعد يوم ". لكن ذلك يقتضي طق الحنك مع الرجل. قلت له بهدف التخلص منه:‏
ـ نعم.‏
ـ سوف ننتهي إلى وضع كارثي.‏
إنه يفاقم من خطورة الكلام باطراد. التزمت الصمت بلا مبالاة، فقال:‏
ـ أليس كذلك يا سيدي ؟‏ تابعت تجاهلي فلكزني مرة أخرى، فقفزت من مكاني و أنا أطلق أنّة.‏
ـ أليس كذلك يا سيدي ؟‏
ـ نعم.‏
إذا لم أرد على سؤاله فسوف يوجه لكمة إلى أنفي و يسألني: " أليس كذلك ؟ ".
انتباهي منصرف إلى الخارج من خلال النافذة. لكننا لم نصل بعد إلى محطة " حيدر باشا "، حتى أنزل من القطار و أتخلص من الرجل.‏ تمادى الرجل و تمادى حتى تجاوز كل الحدود، و من حين لآخر أردت أن أجيبه بـ" لا ", لكن ذلك يعني الدخول معه في جدال بين نعم و لا، في حين أنني لست بوارد جدال من هذا النوع.‏ يحكي و يحكي و يحكي، ثم يسألني " أليس كذلك يا سيدي ؟ ",‏ فإذا التزمت الصمت لكزني فأطلقت أنّة و ملت جانباً، و قد حشرني الرجل لُصق النافذة فلم يعد بإمكاني أن أهرب و أنجو بجلدي. لم يبق أمامي إلا القفز من النافذة.‏ الرجل يحكي بلا توقف، ثم يضرب بيده على ركبتي و يسألني " أليس كذلك يا سيدي ؟‏ ", فأمسّد مكان الضربة و أجيبه‏ " نعم ".‏ ثم يمسكني من كتفي و يهزني‏ " أليس كذلك يا سيدي ؟ "‏,‏ كنت لأفضل لو بطحني على الأرض و ضربني..
خلاصة القول أننا وصلنا أخيراً محطة " حيدر باشا " بين لكز و صفع و لكم و شد و دفع و هز، و الحمد لله.. عندما ترجلنا من القطار اختفى الرجل في الزحام، أما أنا فلم أرفع رأسي عن الأرض خشية أن أراه من جديد.‏ في اللحظة التي أردت فيها الصعود إلى العبّارة نقرت يدٌ على كتفي ثلاث مرات، التفتَ و إذ به شرطي، قال لي:‏ ـ تفضل معي إلى المخفر لحظة لو سمحت.‏
عندما سمعت كلمة المخفر ارتبط لساني، فأنا لم أدخل قسم شرطة في حياتي، و لا أعرف ما يكون، و لكن ما العمل.. ذهبت معه إلى المخفر، و ماذا رأيت هناك !.. رأيت الرجل الذي واظب على سؤالي " أليس كذلك يا سيدي ؟ " مبتسماً بالإضافة إلى راكبين كانا يقتعدان المقعد المواجه لمقعدنا.‏ ظننت أن الراكبين قد أشفقا عليّ بعد رؤيتهما لذلك الرجل و هو يلكزني و يلكمني طوال الرحلة فقدما شكوى ضده، و الله أعلم. قلت للمفوض:‏
ـ أولاً أنا لست مدعياً على أحد.‏
فقال المفوض:‏
ـ و لكن ثمة من هو مدع عليك، هذا الرجل قدم شكوى ضدك.‏
-- يا سلام!
- أنت تجيب بنعم على كل ما يقوله الرجل، فيقوم هو بتقديم شكوى ضدك ! هل سمعت بما يشبه هذا ؟‏ قال الرجل:‏
ـ نعم، لقد شتم الحكومة بكل ما يخطر على البال من شتائم، و هذا السيدان شاهدان على ما أقول.‏ ثم حكى كل ما قاله لي أثناء الرحلة ناقلاً إياه على لساني، قلت:‏
ـ أنا لم أقل هذا الكلام، بل هو الذي قاله.‏ و قال الشاهدان:‏
ـ نعم هو الذي قال الكلام، أما هذا الرجل فقد وافق على كل الكلام بنعم و نعم و نعم.‏ قال الرجل:
ـ لقد تحدثت بتلك الطريقة بقصد اختبار نواياه.‏ إذن فسوف أهلك بين الأرجل فقط لأنني قلت نعم.‏

أمسك سعدي بيك بكيس الورق المملوء بالسمك في حضنه و قال:‏
ـ السمكات تكاد تسقط فقد انفتح أسفل كيس الورق.‏
كان يمسك أسفل كيس الورق في راحتيه. سألته:‏
ـ ماذا حدث بعد ذلك يا سعدي بيك ؟‏
ـ سجلوا إفاداتنا، و الآن سنذهب إلى المحكمة.‏
ـ ولكن لماذا قدّم ذلك الرجل شكوى ضدك ؟
أجابني سعدي بيك:
- لقد ثار فضولي مثلك لمعرفة ذلك، فسألته السؤال نفسه عندما خرجنا من المخفر.‏ فأجابني قائلاً:‏
ـ حينما كنت تجيبني بنعم لم تكن تفعل ذلك عن طيب خاطر، فخفت أن تشي بي، فسبقتك إلى المخفر بمجرّد نزولي من القطار.‏ فقلت له:‏
ـ حسناً يا أخي ما دمت خائفاً إلى هذه الدرجة، لماذا إذن تتمادى في الكلام و تضرب يميناً و شمالاً ؟‏
ـ و ماذا أفعل، فأنا غير قادر على ضبط لساني، يحدث هذا رغماً عني.‏
إذن، إياك ثم إياك ! لا أحد قادر على تمالك نفسه في هذه الأيام. كل واحد يبحث عن أحد يشكو له همّه، و ليس من المعقول أن يقف وسط الناس و يخطب فيهم بصورة مباشرة. لذلك فهو يبدأ بالحديث عن الطقس مع أي شخص قربه.‏ الطقس ثم الماء... ثم تنتهي الأمور بهذه الطريقة. هل فهمت ؟, إذا حدث و ذكر لك أحدهم كلمة الطقس، فاهرب منه فوراً و لا تدعه يكمل كلامه، و إلا وجدت نفسك في ورطة مثلي.‏

ضحكت، ثم لم أتمالك نفسي عن سؤاله:‏
ـ كيف الطقس اليوم يا سعدي بيك ؟‏
لم أكد أكمل جملتي حتى ضرب سعدي بيك على رأسي بكيس الورق المملوء بالسمك. في الوقت الذي ألقيت فيه بالسمك من فوق رأسي و ثيابي، كان سعدي بيك قد اختفى عن الأنظار.
 
الكاتب عزيزنيسين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق