السبت، 27 أبريل 2013

الحمار الميت يحكي كيف مات

الرسائل التي كتبها (الحمار الميت) الذي لا
يخاف الذئب، من الدار الآخرة إلى صديقته ذبابة
الحمار في الحياة.


الرسالة الأولى


ذبابة الحمار الحبيبة

ستدهشين حتماً عندما ستستلمين هذه الرسالة. ستهلوسين قائلة: "علمنا أنه شبع موتاً منذ زمن، فمن أي اسطبل خرج لنا مجدداً" . لا تنفعلي. أنا أكتب لك من المقبرة. هنا ، كل الذين كانوا أحياءً في يوم ما من كبار ومشهورين وأعيان. إنه الوقت المناسب لكي تلطمي وتصرخي "آه لم نعرف قيمته في حياته. الآن فقط فهمت معنى المثل القائل "أعمى وعيونه لوزية" من خلال معرفتي بالذين لم نفهمهم في دنيانا الكذابة قبل أن يأتوا إلى مثواهم الأخير. بينما كنت أعمى عما هو أمام عيني سمعت عبارات المديح بعد موتي "عيون كحيلة". "نظرته مؤثره".

لا تحزني مطلقاً مما تعانيه من ضائقة في الحياة. عندما ستموتين ستكتب الجرائد "فقيدة كبيرة لا يُملأ مكانها". الأنانيون يملؤون أمكنة المحرومين والفقراء الأحياء ولا يتركون لنا حتى مكاننا في الحياة. ولا أدري كيف لا يستطيعون – ولا بأية وسيلة – تعبئة مكاننا بعد موتنا فيتركونه فارغاً!!

ستعيشين في قلوب الأحياء بعد موتك، ولكن عندها سيكون مكانك جهنم أيضاً. لقد حكى لي أحد الأخوة الحمير ممن لا مكان لهم في الحياة ولم يستطع أحد ملء الفراغ مكانهم بعد موتهم، هذه الحادثة التي وقعت له: "يوم شمسه حارةً جداً حزموا ظهره بحمل ثقيل، صادف الحمار الماشي (طحاً و نحاً) تحت وطأة حمله الثقيل طريقاً ساحلياً، وبينما كان يمر أمام (شاليه) وفي يده كأس مشروب من ذاك المتعرق خارجه لكثرة الثلج داخله.. يرتشف مشروبه وينفث دخان سيجارته. نظر الحمار من تحت الحمل وهو يكاد يغمى عليه لشدة الحر إلى الحمار الذي كان يتناول شرابه أمام الريح وقال:

- لِمَ نفختك هذه. كل ما هنالك أنك تعيش وأنا أيضاً أعيش.
قال حمار الشرفة للحمار الذي يطح وينح تحت وطأة حمله:
- نعم أنت تعيش وأنا أعيش ولكن أنت هكذا.. وأنا هكذا!!!

كل الأعمال في المقبرة تجري بسرعة وعلى ما يرام ذلك لعدم وجود أي دائرة حكومية أو موظف. وليست هنالك مؤسسات وجدت خصصياً لإخراج الناس عن طورهم – البريد مثلا- إذا أراد أحدنا إرسال رسالة من هنا إلى أحد الأحياء يتولد كل ما يريد كتابته في عقل المرسل إليه كما تتولد هذه الرسالة في عقلك الآن.

ذبابة الحمار الحبيبة سأشرح لك في رسالتي هذه كيف مت. لعله يفيدك في زمن تكونين فيه محاصرة إن لم يكن باستطاعتك الحياة.
إنني مُت، أي أنني ما بعد وجودي. لا كقول الذين يبتلعون العصير المجمد (أوخ ، مُت) قَولي أنا مت ليس كذلك. مت بجد.

ستقولين "ليس في الموت مزاح" ولكن عندما تمر حياتنا مهزلة فموتنا يصبح قبيحاً كل القبح.
اثنان سيبكيان من بعدي: أولهما واصل وثانيهما وداد. أنا دائن للأول بخمسمائة ليرة وللثاني بمائة ليرة فقط. من يعلم مقدار حزنهما لموتي قبل أن أدفع ديني.

كنت كلما نظرت في وجهيهما أُفضّل الموت سلفاً (أي دفعة واحدة) عليه تقسيطاً. ( أي أموت وأحيا وأموت وأحيا).

في البداية خططتُ للموت في البيت، فكرت كيف سيرى المارة سفالتي التي وصلت حتى الركب. سأصبح سخرية للناس، لذلك عزفت عن الموت في البيت، لم أستطع العيش في المصيف صيفاً واحداً ولا ففي المشتى شتاءً واحداً. لكي أعيش في مصيف لم أستطع أن أعيش فيه وأنا حي، سحبت نفسي مثل القطط الأصيلة التي لا تريد أحداً أن يرى جثتها، وذهبت إلى مكان بعيد مكشوف وجميل.

قبل أن أموت سألت نفسي:
ما هي رغبتك الأخيرة؟ قل لنر!
قال صوتٌ من داخلي:
- الحياة!!!
قلت:
تجاوز هذه . لنسألك ثانية "ما هي رغبتك الأخيرة "فهذا السؤال يُسأل أصولاً للذين سينفذ فيهم حكم الإعدام . فإذا كان لك طلب ناتج عن تفكير منطقي فقله.
صرخ الصوت عالياً:
- الحياة!..
طلبك هذا يعني "طلب تحكّم طبقة في بقية طبقات المجتمع" ومسجل في القانون على أنه من أكبر المعاصي.
- عِشتَ كل هذه السنين كذبابة في ذيل حصان. ماذا رأيت وماذا وجدت في هذه الدنيا... آ.. قواد!..
أغمضت عيني وانسحبت من "دار الفناء" إلى "دار البقاء" . فتمددت على طولي في ساقية على حافة الطريق. رفسني أحد المارة رفسة، رفستين. عندما لم يلحظ مني أية حركة فتشني!! وبينما كان يبحث في جيوبي الداخلية تدغدغت وكادت الضحكة تخرج من فمي، ولأنني ميت عليّ ألا أخرج أي صوت. لم يجد الرجل أية نقود في جيوبي، أو أي شيء مفيد، ساعة، قلم حبر، خاتم، موسى، قداحة،... تركني وبصق على وجهي. انه رجل صاحب ضمير كان بإمكانه أن يعمل شيئاً آخر غير البصاق.

نادى أحد المارة:
- في الطريق ميت لا يعد من الميتين!!..
أخبر الشرطة. بالرغم من أن الرجل الذي فتش جيوبي قال للشرطي:
- لا يوجد معه شيء. من المستحيل معرفة شخصيته.
هيه .. هيه.. أنا بلحظة أعرف من هو.
هل هذا صحيح بالرغم من عدم حمله الهوية؟!!
ضرب الشرطي بيده على رقمه المثبت في ياقته وعلى مسدسه، وقال:
- نحن لا نحمل هذه على الفاضي يا حباب. نحن نُخرج من الريح الماء ومن السيل الغذاء.
- ولكن كيف؟!
أجعلهُ يتكلم!!
- ميت.. وهل يتكلم الميت؟!!
- هذا سر المهنة.. كل شخص ممكن أن يجعل الحي يتكلم.. ولكني أجعل الميت يتكلم، وسترى أننا لا نجعل الأموات فقط يتكلمون، بل حتى شواهد القبور تتكلم حتى تظن أنها تنطق بالغزل في جلسة صفاء على شاطئ البوسفور..
- بعد بحث وتمحيص وتمشيط وجدوا في جيوبي أشعار الحب التي كتبتها للفتاة الفاتحية* أم عروق الرقبة البارزة. ولمعلمتي البورصية*. قال الشرطي عندما وجد الأشعار:
- الرجل شاعر. اذا بدأ أحد الشعراء بالكلام فلا يستطيع إسكاته شرطة سبع دول.

سأل أحد فاعلي الخير الشرطي عن سبب أخذ الشعر وتركي في الخندق.
قال الشرطي:
لا يُستطاع الخروج من داخل هذا الذي يسمى شعراً. ولأن هذا الشعر الحديث شيء (ملخبط) مثل الشيفرة فلا يفهمه قارئ ولا مستمع. لذا فشرطة الأمن السياسي، هم أكثر قراء هذا النوع من الشعر.. سآخذ هذه الأشعار إلى الشعبة السياسية ليدققوها لعلهم يجدون فيها مخالفة!!!
ذهبوا وبقيت في الخندق.

هكذا يا ذبابة الحمار الحبيبة، هكذا مُـت. ولكن لم أنته عند هذا. وهل تظنين أن الموت عمل سهل. أيـ..ن! صدقي عندما تموتين في يوم ما، إذ كنتِ ندمتِ على ولادتك مرة، ستندمين على موتك ألف مرة.

لقد أتينا إلى هذه الدنيا في زمان ومكان، إذا أردنا أن نعيش لا يُعاش وإذا أردنا الموت لا نستطيع. لا يدعونك تموتين أن تعيشين... سأحكي لك في الرسالة القادمة ما جرى لي بعد موتي. أبلغي سلامي لمن يسأل عني. قلت من يسأل عني، تذكرت، دخيل عيونك احذري أن تقولي "للديّانة" الذين لهم دين بذمتي عن مكاني. بينهم واحد – أنت لا تعرفينه- لا يتوانى عن عمل شيء من أجل أن يدّفعني نقوده. يموت ويتبعني إلى هنا، أي إلى مكان استراحتي الأبدية، لا تعطي عنواني لأحد، خشية أن يحدث شيء من هذا القبيل. أقبل إبرتك السامة.


الملخص لك
حمار ميت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق