الأحد، 28 أبريل 2013

ألا يوجد حمير في بلدكم ?

دخل المقهى واضعاً يده على وجنته و كأن ضرسه تؤلمه.. يهز رأسه يميناً و شمالاً، يضرب خده و هو يردد دائماً:
- يوه.. تبهدلنا, و الله تبهدلنا..
و على الرغم من أنه رجل على مستوى عال من المكانة و الرصانة.. فقد بدأ منذ دخوله الباب يردد:
- تبهدلنا.. و الله تبهدلنا..
عجبت جداً من تصرفاته هذه.. و هو يضرب نفسه بين حين و آخر.. و قبل أن يسلم علي, قلت له:
-- أهلاً و سهلاً, تفضل.. اجلس بالله عليك, اجلس ..
- تبهدلنا, و الله تبهدلنا..
-- كيف حالك ؟
- كيف يجب أن يكون يعني ؟, كما ترى تبهدلنا... يوه..
ظننت أن مصيبة ما قد حلت به، و ربما كانت من جهة عائلته..
- أصبحنا في أسفل السافلين.. لا نساوي قرشين.. نعم قرشين.
-- لماذا ؟, ماذا حصل ؟
- و ماذا سيحصل أكثر من الذي حصل.. باعوا للرجل حماراً جرباناً بألفين و خمسمائة ليرة..
رجعت إلى الخلف و تمعنت في وجهه بدقة.. هل جن الرجل يا ترى !؟
لن أخفي عليكم ما خشيته.. قلت له خجلاً و كأنني أطلب من زوجتي:
-- هل تشرب فنجاناً من القهوة ؟
- اترك القهوة الآن.. تبهدلنا.. هل يساوي حمار جربان, دون حدوات, مبلغ ألفين و خمسمائة ليرة ؟
-- بما أنني لم أبع حماراً و لم أشتر.. فلا أعرف !
- ولك يا روحي, أنا الآخر لست بائع حمير.. و لكن أعرف أن سعر أي حمار لا يساوي هذا المبلغ..
-- إن أعصابك متوترة جداً..
- إن لم تتوتر أعصابي.. فأعصاب من ستتوتر ؟, هل رأيت في حياتك حماراً يباع بألفين و خمسمائة ليرة ؟
-- مضى عليّ عشرون عاماً, لم أشاهد خلالها حماراً واحداً حتى..
- ولك أخي, أنا أسألك عن بيع حمار بألفين و خمسمائة ليرة..
-- و الله لا أدري ماذا أقول لك ؟, إن كان حماراً مدرباً.. ربما يساوي هذا المبلغ..
- و أي تدريب تقصده يا روحي.. يا أفندي.. هذا حمار.. بالتأكيد ليس خطيباً.. حمار بكل معنى الكلمة.. و فوق كل هذا.. عجوز و جربان.. باعوه بألفين و خمسمائة ليرة.. و الأسوأ من هذا كله.. كان لي دور في بيعه !
-- يااااااااااه.. و كيف حصل ذلك ؟
- جئت إلى هنا كي أقص عليك ذلك.. و كما تعلم ذهبنا أنا و زوجتي إلى أمريكا و بقينا هناك عاماً كاملاً بدعوة من جامعة أمريكية..
-- أعرف ذلك..
- هناك في أمريكا تعرفت إلى بروفيسور أمريكي.. و أصبحنا أصدقاء.. ساعدني كثيراً.. كان له فضل علي هناك, و عندما عدت إلى تركيا بقينا نتراسل..إنه صديق لتركيا.. رجل يحب الأتراك كثيراً.. أرسل لي رسالة يرجوني فيها مساعدة أحد أصدقائه.. و هو خبير في الآثار و الأنتيكات و السجاد و ما شابه ذلك... و يسألني إن كنت على استعداد لمساعدة صديقه هذا أثناء زيارته لتركيا. و أجبت على رسالته بأنني على أتم الاستعداد كي أقدم كل المساعدات الممكنة لصديقه إذا جاء إلى تركيا..
و أثناء عطلة الجامعات الصيفية, و بما أن الخبير في السجاد و الآثار سيذهب إلى الهند و إيران قبل مجيئه إلى تركيا.. فقد وصل إلى تركيا في موعد كان مناسباً لي تماماً..
جاء في تموز.. و بما أنه أخذ عنواني و رقم هاتفي من صديقه البروفيسور الأمريكي.. فقد اتصل بي من الفندق الذي نزل فيه.. ذهبت إليه.. رجل كالمارد, أمريكي من أصل ألماني.. و ربما عنده أصل يهودي.. و ربما ألماني يهودي.. أصبح أمريكيا فيما بعد..
أحضر معه بعض السجاجيد و البسط و الخروج.. و ضعها في أربع حقائب كبيرة.. فتحها أمامي و بدأ بعرضها.. كانت عبارة عن قطع أو نتف صغيرة من السجاد و البسط و الخروج القديمة.. القديمة جداً.. و بدا سعيداً جداً بهذه القطع التي جمعها.. و كان يقول: هذه الأغراض بمثابة كنز, و من بينها قطعة سجاد بعرض ثلاثة أشبار و بطول عشرة... و قال متباهياً: إن هذه القطعة تساوي على الأقل ثلاثين ألف دولار أمريكي.. و إنه اشتراها من قروي إيراني بدولار واحد !, و مع ذلك صار القروي الإيراني يدعو له بعد أن قبض الدولار.. و فرح كثيرا !!
سألته عن سبب ارتفاع سعر قطعة السجاد هذه, فقال:
- لأن في كل سنتيمتر منها أكثر من ثمانين عقدة.. إنها شيء رائع إلى أبعد الحدود.. و بدأ بسرد المعلومات بشهية عن السجاد الذي بين يديه.. و قال إن ثمة سجاد واحد في العالم في كل سنتيمتر منه مائة عقدة.. لكنه لا يدري بأي متحف هو.. و إنه سجاد جداري عادي... أراني قطعة لباد, و قال:
- اشتريت هذه بخمسين سنتاً..
و كان يضحك بخبث, معرباً عن سعادته الفائقة.. و قال:
- هذا اللباد يساوي على الأقل خمسة آلاف دولار..
سألته :
-- كيف تشتري هذه القطع الغالية و الثمينة بهذه الأسعار الزهيدة ؟
- إن لي أكثر من أربعين عاماً أعمل بهذا المجال.. لهذا العمل خصوصيته, و طرائق البحث عنه تحتاج إلى خبرة عالية, و له احتياجاته أيضاً..
ثم شرح لي عدة اعتبارات و مهارات أدهشتني.. أراني ألبوماً للسجاد.. و قال أنه نشر ثلاثة كتب حوله.. و أنه يملك معرضاً للسجاد, انتقى مواده من عدة معارض خاصة حول العالم.
خرجنا بجولة في ( الأناضول ).. زرناها ولاية ولاية.. و منطقة منطقة.. كان يصور السجاد في الجوامع.. يركز على ألوانه و خصوصياته.. طبعاً بالنسبة له..
و اشترى من عدة أماكن بعض السجاد و البسط و اللباد و الخروج.. و قال إن الأشياء التي اشتراها هنا لا تقارن بتلك التي اشتراها من الهند و أفغانستان و إيران و تركمانستان, و قال:
- في تركيا سجاد قيم جداً, و لكننا لم نحظ به و لم نره حتى الآن..
وصلنا إلى منطقة فيها حفريات أثرية, حيث أقام عالما آثار أمريكي و ألماني معسكرين, كل بمفرده, يبعدان عن بعضهما مسافة عشرة كيلومترات, كانا يحفران الأرض رأسا على عقب, و يمهدان الجبال و الهضاب..
كانت مساحة الأرض المحفورة تعادل مساحة قرية صغيرة.. ثمة خيام نصبت و بكثرة.. و قال إن مدناً و حضارات طمرتها الأتربة و تراكمت فوق بعضها البعض قبل ميلاد السيد المسيح بعشرة قرون.. و أنهم اكتشفوا بداخلها عدة مدن, و كثيراً من دور العبادة و القصور و القبور..
و بما أن المنطقة مهمة كثيراً سياحياً, فقد كانت تعج بالسائحين, و كنا نلتقي أعداداً منهم كل كيلومترين على الأقل.. و كان القرويون يتوافدون بكثرة إلى تلك المنطقة الأثرية.. و يتجمهرون هنا و هناك.. كانوا يبيعون للسائحين بعض القطع التي أخرجوها من تحت التراب.. كالفخار و قطع البلور و ما شابه.. و السائحون يتهافتون على الشراء.. حتى الأطفال اصطفوا على طريق قراهم يبيعون قطع المزهريات المكسرة و الأحجار المرصعة بالرسوم و الكتابات, و بعض الحلقات.. و يتجهون بقوة نحو السائحين و هم يصرخون: ( فان دالي ) أي دولار واحد.. ( آتو داليرا ) يعني دولارين...!
قلت في نفسي بما أنني جئت إلى هذه المنطقة فعلي أن أشتري شيئاً يبقى للذكرى.. عندما اقتربت من طفلة عمرها عشرة سنوات و إلى جانبها ولد صغير, كانت الفتاة تحمل في يدها قبضة مزهرية مكسورة.. أما الغلام فكان يحمل حجرة زرقاء اللون على شكل رأس إنسان. قلت ربما تكون هذه الحجرة حجرة خاتم فسألتهما:
- بكم هذه الأشياء يا أولادي ؟
طلبت الفتاة أربعين ليرة, و أما الولد فطلب خمسة عشر, فقلت لهما كي أشتريها بسعر أقل:
- إنها غالية..
تكلم الغلام و الفتاة كراشدين.. و دافعا عن أغراضهما..
" أين الغلاء ياسيدي ؟ إن والدنا عمل أياما عديدة في حفر الأرض.. حتى انتشل هذه الأغراض من عمق خمسة أمتار ".
قررت أن أشتري القطع منهما لكن صديقي الأمريكي خبير السجاد قال لي أن هذه الأشياء ليست لها أي قيمة تاريخية أو أثرية.. و أنه من خلال جولاته في الشرق الأوسط شاهد الكثير من هذه القطع:
- الأمور هناك كما هي هنا تماماً.. حيث يعمد القرويون في مناطق الحفر إلى قطع الطريق أمام السواح و يعرضون عليهم ما يحملونه.. رجالاً و نساءً..
و حسب ما قاله صديقي, إن هؤلاء القرويين الماكرين يعمدون إلى صناعة و تقليد الأحجار و الفخار, و كأنها آثار حقيقية.. حتى خبراء الآثار أنفسهم ينخدعون و يشترون تلك القطع بأسعارخيالية.. و يحكى أن راعياً باع كلبه بعد أن حلق له وبره على أنه مومياء الملك !
و كان يضحك بخبث و هو يقص لي هذه الأحداث, و أضاف أننا لا يمكن أن نعتبر هذه القطع الصغيرة التي يبيعها القرويين على أنها تقليد. لأن فيها من النسمات الفنية الصغيرة.. مثلاً صناعة القطعة الحجرية الزرقاء التي كان يحملها الولد ليست سهلة على الإطلاق.
كان الجو حاراً جداً، كنا نسير بسيارة الجيب التي استأجرناها.. و على جانب الطريق رأينا عدة أشجار حور و بئر ماء.. قلنا سنتناول طعامنا في ظل تلك الأشجار.. و ما إن اقتربنا حتى شاهدنا عجوزاً قروياً ينام تحت الشجرة و حماره مربوط على بعد عدة أمتار منه..
سلمنا عليه و بدأ الحديث معه.. كنت أترجم كلمات العجوز القروي إلى الإنكليزية..
- ما أهم الغلال الزراعية في هذه المنطقة..؟
أجابني العجوز:
- لا نزرع شيئا على الإطلاق.. في الماضي كنا نزرع الحبوب و نحصدها.. و لكن منذ بدأت هذه الحفريات.. قبل عشرين عاماً تقريباً, اعتاد القرويون الكسل و التنبلة.. و صاروا لا يزرعون شيئاً..
- تماما مثل باقي المناطق التي تشبه هذه المنطقة, ( قال الأمريكي )..
- طيب كيف يعيش القرويون هنا ؟, ( سألت الرجل العجوز )..
- منذ أن اعتادوا على حفر الأرض و استخراج الفخار و الأحجار منها.. صار كل شخص يحفر الأرض و يستخرج بعض القطع.. ثم يبيعها للأجانب..
- تماماً مثل باقي المناطق, ( قال الأمريكي )..
قال العجوز:
- أبناء هذه القرى أناس حقيرون و منحطون جداً.. باعوا كنوز البلد بأسعار رخيصة جداً.. ظهرت أعمدة حجرية كثيرة و قبور رائعة, لم نبعها بأسعارها الحقيقية لأننا لم نعرف قيمتها.. و لو سارت الأمور كما نشتهي لكنا عمرنا مثل تركيا عشر تركيات.. و الأجنبي الذي معك و غيره.. من هم يعني ؟, كلهم لصوص.. سرقوا كل ما اكتشف تحت الأرض.. و هربوه إلى بلادهم و عمروا به مدناً كثيرة.. بعضهم أخرجوا الآثار بأيديهم.. و بعضهم خدعوا القرويين و أخذوا الآثار من أيديهم.
قال الأمريكي:
- تماماً كما حدث في باقي المناطق الأخرى.
- طيب.. كيف يعيش القرويون الآن ؟, ( سألت الرجل العجوز )..
- في هذه المنطقة أكثر من ست قرى.. إن دخلت بيوتها.. لا تجد فيها لا بسطاً و لا قماشاً.. لا أباريق و لا صحون.. البيوت فارغة تماماً.
- و لماذا ؟
- و لماذا !, لأنهم يبيعونها للسياح... حولوا كل شيء في بيوتهم إلى أثريات.. يطمرون أغراضهم تحت التراب حتى تتعفن و تصدأ.. ثم يخرجونها و يبيعونها للسياح.. لقد فسدت أخلاق الناس يا سيدي.. قبل أيام رأيت ولداً صغيراً.. أقصر من ساقي, يتعلق برقبة حماري.. يريد سرقة الخرزات.. سيسرقها و يطمرها تحت التراب.. هل فهمت...؟ ثم يخرجها و يبيعها للآخرين على أنها أثرية !, حتى الفتيات اللواتي بلغن سن الزواج أصبحن بائعات أثريات.. كل واحدة تحمل حجرة في يدها.. تنحتها و تحولها إلى أشكال عديدة جميلة.. تصور يا سيدي.. يحولون نضوة الحمار إلى ميداليات و عملات قديمة !
قال الأمريكي:
- ألم أقل لك ذلك ؟, باقي المناطق تماماً هكذا..
قلت للعجوز القروي:
- و أنت كيف تعيش.. ماذا تعمل ؟
قال:
- أنا أبيع الحمير و أشتريها..
قال ذلك و تناول سطلاً و ملأه بالماء.. و سقى حماره الذي كان على بعد أمتار منا.. عندما كان الحمار يشرب انطلق الأمريكي فجأة.. و اتجه صوب الحمار, و أما أنا و القروي فكنا نتحدث..
- هل تستطيع العيش من تجارة الحمير ؟
- الحمد لله, منذ خمس سنوات و أنا أمارس هذه التجارة و أعيش منها, ألف شكر لله تعالى.
- كم تربح مثلا ؟
- لا أحد يدري, حسب الحمار.
- كم من الوقت تبقى..حتى تبيع حماراً ؟
- لا أحد يدري.. بعض الأحيان يمر شهر و خمسة شهور و لا استطيع أن أبيع حماراً واحداً.. و بعض الأحيان أبيع في اليوم الواحد خمسة حمير !
جاء الأمريكي و اقترب مني.. كان في حالة حماس شديدة, و قال:
- يااااه.. هناك.. سجادة صغيرة.. على ظهر الحمار.. هل رأيتها ؟
و بما أن الأمريكي كان يتحدث بالإنكليزية.. فالقروي لم يفهم شيئاً.. و بالفعل كان على ظهر الحمار ثمة بساط ملوث بالأوحال من جميع أطرافه.
سألته:
- ما هذا البساط القذر الذي على ظهر الحمار ؟
قال:
آاااه.. إنه قطعة قيمة جداً.. منذ وقت طويل و أنا أدقق فيه.. الألوان رائعة و الحياكة كذلك.. إنه أثر فوق العادة . و في كل سنتيمتر مربع أكثر من مائة و عشرين عقدة.. إنه قطعة لم يرها أحد من قبل, و ليس على وجه البسيطة ما يضاهيها !
قلت:
- هل ستشتريها ؟
قال:
- نعم, و لكن انتبه بعض الشيء, كي لا يفهم القروي أنني سأشتري البساط منه.. أنا أعرفهم جيداً.. لو حاولت شراء البابوج القديم الذي ينتعلونه, سيخلعونه و يقولون.. إن هذا له قيمة.. إذن هو أثري.. و يطلبون المبالغ الطائلة.. و هذا خارج عن إرادتهم, طوال حياتهم, عيونهم لا تشبع أبداً.. يرفعون السعر دائماً.. لهذا السبب لا تدع القروي يفهم ذلك !
في هذه الأثناء قال القروي:
- ماذا يقول هذا الكافر.. هاه ؟
قلت:
- لا شيء, يقول أنه أحب هذه المناطق.
- و ماذا فيها حتى يحبها المرء ؟, كما ترى هضاب جرداء.. أراض كلسية !
- كما قلت لك.. عندي أساليب و طرق عديدة لشراء الأغراض بسعر رخيص سأطبق واحدا منها هنا, ( قال الأمريكي )..
- كيف ؟
- لن نطالب بالبساط, بل سنشتري الحمار.. و بما أن هذا القروي لا يعرف قيمة البساط.. فسيتركه على ظهر الحمار.. و بعد قليل نترك الحمار و نأخذ البساط فقط.. و الآن قل له أنني أريد شراء الحمار...
قلت للقروي:
- كنت تبيع الحمير, أليس كذلك ؟
-- أجل, أبيع الحمير
- مثلاً, هذا الحمار, بكم تبيعه ؟
-- على حسب الشاري
- لو أردنا شراءه ؟
 ضحك و قال:
-- و هل تسخر مني ؟, سيد مثلك ماذا يفعل بهذا الحمار ؟
- و ماذا يهمك في هذا الأمر ؟, نحن سنشتري الحمار, كم تريد ثمناً له ؟
-- ألم أقل لك حسب الشاري, هل أنت الذي ستشتريه أم ذلك الكافر ؟
- هو الذي سيشتريه..
-- و من أي ملة هذا الرجل ؟
- إنه أمريكي..
-- ممم..ممم...ممم.. لا نعتبره غريباً, بل هو محسوب علينا.. ولك عمي هذا الحمار عجوز و ضعيف, قل له أن الحمار لن يفيده شيئاً
قلت ذلك للأمريكي فقال:
- رائع جداً.. إذن سيبيعه بسعر بخس !
- ليكن ما يكون, هو راض عن الحمار, ( قلت للعجوز )..
- و الله سيكون عيباً.. أخشى أن يذهب إلى بلده و يقول أن الأتراك خدعوه !, ( قال العجوز )..
قلت للأمريكي ذلك:
- القروي التركي.. إنسان صاف.. و طيب القلب, و لا يغش. لو كان الأمر في مكان آخر لباعوه على الفور, و بما أنه إنسان طيب بهذا المقدار, فسأعطيه أموالاً كثيرة.
قلت للقروي العجوز:
- الأمريكي يريد شراء الحمار.
- كلامك جميل ياسيدي.. و لكن هذا الحمار سيموت قبل أن يصل إلى أمريكا.. ثم إنه حمار مصاب بالجرب الذي انتشر في كل أنحاء جسمه..
- و ماذا يهمك ولك روحي.. الرجل يريد الحمار..
- الله.. الله.. ولك عمي هذا الحمار ليس أنثى مغنجة حتى يستفيد منها.. ماذا سيفعل بهذا الحمار الجربان العجوز ؟
- و ما دخلك فيه ؟, أنت تعرف المال الذي ستأخذه فقط.. الآن بكم تريد بيعه ؟
- صار عندي فضول كثير.. اسأل الأمريكي هذا.. ألا يوجد حمير في بلدهم ؟
- إنه يسأل .. ألا يوجد حمير في بلدكم ؟
فكر الأمريكي بعض الوقت,ثم قال:
- نعم يوجد حمير.. و لكن لا يوجد مثل هذا الحمار..
قلت للقروي كلام الأمريكي..
- ممم.. ممم .. إذن فالحمار الأمريكي لا يعجبه.. فهو يريد حماراً تركياً !, إيه, ماذا سنفعل.. أصبح الذنب ذنبه و ارتفع عني.. أنا ذكرت لكم عيوبه و نواقصه. و من غير المعقول أن نكسر بخاطر هذا الأجنبي من أجل حمار جربان.. لنبعه..
- كم تريد ؟
- من أجل خاطرك عشرة آلاف..
- ماذا ؟! أنت مجنون ولك عمي.. هل ضيعت عقلك ؟ أحسن حصان عربي أصيل بمائتي ألف ليرة !
- إذن ماذا يريد أن يفعل بالحمار, ليشتري حصاناً خالصاً.
عندما ذكرت ذلك للأمريكي قال:
- ألم أقل لك ؟, أنه لو تقدمت لشراء أي شيء منهم يكون تصرفهم هكذا.. يطلبون الكثير قائلين: لقد ارتفعت أسعار الحمير.. و لو طلبنا منه البساط لطلب مائة ألف ليرة.. أنا أستطيع أن أدفع له عشرة آلاف, و لكنني إذا رضيت.. سيطلب الخمسين ألف.. لذلك يجب أن نساومه.
قلت للقروي :
- قل الصحيح, بكم اشتريت هذا الحمار ؟
- أنا لا أكذب أبداً, قبل قليل توضأت و لن أقول الكذب من أجل منفعة دنيوية.. أنا اشتريت هذا الحمار بخمس ليرات.. كي أسلخ جلده و أستفيد منه بعدد من البوابيج.. حتماً سيموت غداً أو بعد غد.. سأسلخ جلده, و لا يستفاد منه من شيء آخر.
- العدل, العدل ولك عمي.. كيف تبيع حماراً بعشرة آلاف و اشتريته بخمس ليرات ؟
- ولك روحي أنا لم أعرض عليكم بيع الحمار بل أنتم الذي طلبتموه.. قلت: حمار عجوز. الرجل رضي به. قلت جربان.. رضي أيضاً.. قلت ليس هو بأنثى.. فطالب به.. قلت سيموت عند الصباح.. و يقول نعم
ها, كدت أنسى.. هذا الحمار يعرج من قائمته الخلفية.. ليكن عندكم علم..
- ليكن..
- هل رأيت ؟, إذن هذا الحمار له قيمة و أهمية ما.. الشيء الذي لم أفهمه لماذا يريد الأمريكي هذا الحمار العجوز الجربان الأعرج المهزوز الذكر ! هلا أجبتني ؟ عشرة آلاف أقل من هذا المبلغ لا أرضى.. و لن أعطيه.
قلت للأمريكي:
- إنه لن ينزل من السعر أبداً و لنعطه العشرة آلاف.
بقينا ساعتين و نحن في جدال مع القروي.. نتركه نمشي.. و كأننا غيرنا قرارنا.. ولكنه لا يهتم و لا يبالي.. رجعنا إليه, قال:
- كنت أعرف أنكم سترجعون !!
قلت:
- و كيف عرفت ذلك ؟
- و كيف لا أعرف, وجدتم حماراً بكل هذه المواصفات.. أمن المعقول أن تتركوه و تمشوا هكذا ؟؟؟!
طلبت من سائق الجيب أن يسوق السيارة و يبتعد من هناك.. و ينتظرنا في أسفل الطريق ... لأننا سنترك الحمار هناك و نركب السيارة..
المهم يا سيدي.. بعد أخذ و رد و مناقشات.. اتفقنا أن نشتري الحمار بألفين و  خمسمائة ليرة, فما كان من القروي إلا أن سحب البساط من على ظهر الحمار و ناولنا رسنه و قال: ألف مبروك..
ثم أضاف:
- على أي حال, ذهب حمارنا العجوز بسعر رخيص.. و لكن لتجدوا فيه الخير..
كانت عينا الأمريكي مفتوحتين ينظر إلى البساط في يد القروي.. ما العمل الآن ؟
قال:
- دعنا لا نظهر له شيئاً على الإطلاق.. لنأخذ الحمار و ننزل قليلاً.. ثم نعود إليه دون أي إشارات, و نقول له: ( آاااه يا عم, إن ظهر الحمار سيبرد.. أعطنا القطعة التي في يدك لنغطيه.. و لكن انتبه كي لا يفهم الرجل أننا نسعى وراء ذلك السجاد الذي في يده.. )
أمسكنا الحمار من رسنه أنا أسحبه من الأمام و الأمريكي يقوده من الخلف.. لو قلنا أننا مشينا, خطأ.. ربما لأن مشيتنا كانت صعبة جدا ً.. أو لأن الحمار لم يكن لديه القدرة على نقل خطواته.. لو خلصنا السجاد من القروي, لكنا سنترك الحمار و نمضي في طريقنا !
ابتعدنا عن المنطقة عشرين أو ثلاثين خطوة بجهد جهيد.. نادانا القروي من الخلف و أسرع نحونا و قال:
- توقفوا.. توقفوا.. لقد نسيتم هذا الشيء..
فرحنا كثيراً .. الرجل يأتي بالبساط من تلقاء نفسه.. قطع الرجل التلة و وصل إلينا و قال:
- ولك عمي لقد نسيتم الوتد الحديدي للحمار.. عندما ستأخذونه إلى أمريكا, أين ستربطون رسنه ؟, ألم تفكروا .. هل تشترون حماراً بدون وتده.. عدم فهمكم واضح عليكم..
أخذنا من يده الوتد الحديدي.. و فيه حلقة حديدية.. قال لي الأمريكي:
- هيا تكلم.. جاءت الفرصة المناسبة.. اطلب منه البساط الآن.. و لكن انتبه.. لا تظهر له شيئا, قل له: ( أعطنا هذا البساط القذر أيضا ) !
قلت للقروي:
- هذا الحمار ضعيف و مهزوز و مريض, سيبرد.. أين القطعة القذرة التي كنت تغطيه بها ؟, أعطنا إياها لنغطي ظهره..
قال:
- لا.. لا.. لا أعطيكم إياها اشتريتم مني الحمار فقط.
- نعم اشترينا الحمار فقط, و لكن ماذا سيحدث لو غطينا ظهره بتلك القطعة.. إنها لا تساوي شيئا !
- نعم, إنه قديم و قذر.. و لا يساوي شيئاً.. و لكن لن أعطيكم إياه..
- لماذا ؟
- لا أعطيكم يا سيدي.. إنه ذكرى من والدي.. و من غير المعقول أن أعطيكم إياه  !, إنه ذكرى متواصلة بين الآباء و الأجداد.. لا أعطيكم.
قلت للأمريكي:
- إنه لا يعطينا إياه, لأنه ذكرى من أبيه و جده.
قال:
- اسأله, ماذا سيستفيد منه يا ترى ؟
قلت للقروي:
- هذه القطعة القذرة.. ماذا ستستفيد منها يا ترى ؟
أخذ القروي موقفا مفاجئاً و قال:
- ماذا تعنون بقولكم لا يساوي شيئا ؟, بعد قليل سأجد حماراً جرباناً آخر, و سأضعه على ظهره.. فإن حالفني الحظ سأجد فضولياً آخر مثلكم.. و أبيعه الحمار بإذن الله.. هذه القطعة تجلب لي الحظ.. أنا أعطيتكم الوتد مجاناً .. هل قلت شيئا ؟
- يا أخي نعطيك بعض الليرات ثمناً للقطعة.. و نغطي بها ظهر الحمار..
- و الله عال !, كيف سأبيع الحمير الأخرى ؟, منذ خمس سنوات و أنا أبيع الحمير الجربانة بسبب هذه القطعة.. هيا مع السلامة.. اذهبوا, ترون الخير على وجهه بإذن الله..
خشيت أن يصاب الأمريكي بسكتة قلبية حادة.. تأبطت ذراعه.. تكلم القروي بعد أن ابتعد عنا بعض الشيء و قال:
- إذا كنتم ستتركون الحمار لا تبتعدوا عنه كثيراً.. أقول ذلك كي لا تتعذبوا فقط..
تركنا الحمار في مكانه واتجهنا نحو سيارة الجيب .. قال الأمريكي الخبير بالسجادات:
- يقولون باقي المناطق.. أمثال هذا الإنسان ليس موجوداً في باقي مناطق العالم.. لم أختبر هذا الشيء أبداً.. كل الأشياء طبق الأصل, إلا هذا الشيء !
ركبنا الجيب, و بقي الوتد في يده, و سألته:
-- ماذا ستفعل بهذا الوتد الحديدي ؟
قال:
- سأضعه في معرض سجادي كذكرى.. إنه وتد قديم جداً.. اشتريناه بألفين و خمسمائة ليرة !, سعر رخيص جداً..

-- نعم.. نعم.. تهزأنا... و الله تهزأنا..
و هنا, تركت صديقي و هو يضرب بيده على رأسه و يقول:
- تهزأنا.....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق