عندما تقوم 5 دول عربية كُبرى بثورات ضخمة غاضبة في عام واحد تقريباً ، يسقط فيها عشرات الآلاف من الشُهداء والجرحى ، وتسقط أنظمة وتقوم أنظمة أخرى محلها .. وتكون كل هذه الثورات مُرتكزة بشكل رئيسي على الحشد من خلال الإنترنت ومواقع الإعلام الإجتماعي ..
فالطبيعي والمتوقع أن يشهد الانترنت إنتفاضة كُبرى فيما يخص المحتوى العربي .. باعتبار أنه مصدر إنطلاق الثورات التى ساهمت فى تحرير الأوطان ، والتى أثبتت أن الشباب العربي وصل إلى قدر من التطور الفكري والتواصل العالمي بشكل يوازي العالم الغربي.. بل وربما يفوقه فى بعض الدول !
***********
أرقام مُبشرة .. ومُخيفة
الحقيقة ان الأرقام التى تأتينا عبر مواقع الدراسة والإحصاء يُمكن وصفها بالمُبشرة والمُخيفة فى نفس الوقت .. مُبشرة لأنها تُشير أن الشباب العربي جائع إلى أقصى حد للمعلومات والمعرفة بلغته العربية الأم .. ومُخيفة لأنها تُشير أيضاً إلى ضرورة أن يكون مُعدل التحسين والانتشار فى المُحتوى العربي سريعاً بشكل خُرافي ، حتى يُغطى هذا الإقبال الهائل عليه من كل الناطقين باللغة العربية من المُحيط إلى الخليج..
في تقرير للإنترنت وورلد ستيتوس ، صدر في نهاية ية العام 2011 ( عام بدء إندلاع الثورات العربية ) ، ذكر بعض الحقائق المُذهلة حول نمو المُستخدم العربي لشبكة الانترنت :
عدد المُستخدمين الناطقين بالعربية للإنترنت ارتفع فى الفترة مابين عامي 2000 و 2009 بنسبة كبيرة تُقدّر بحوالي 23,3 % .. أي أن عدد العرب المُستخدمين للإنترنت حالياً – مطلع 2013 – يزيد حتماً عن الـ 90 مليون مُستخدم من بين 360 مليون نسمة هم المجموع الكلي للسكان فى الأوطان العربية ..
هذه النسبة من مُستخدمي الانترنت فى الوطن العربي هي فى الواقع مُتناسبة جداً مع عدد السكان ، إذا علمت أن عدد مُستخدمي الانترنت على النطاق العالمي يُقدر بمليارين ونصف مُستخدم على الأقل ، من بين مليارات العالم السبعة !
شبكات التواصل الإجتماعي
مُفجرة الثورات العربية ، والملاذ الأول للشباب العربي بكافة اطيافه وطبقاته الإجتماعية والثقافية والتكوينية ، والتى ساهمت هي بشكل رئيسي فى الطفرة الهائلة فى عدد مستخدمي الانترنت العرب فى الفترة الاخيرة ..
يُقدر عدد مُستخدمي الفيسبوك فى الشرق الأوسط وشمال افريقيا بنحو 44 مليون مُستخدم عربي ، حسب إحصاءات صدرت فى نوفمبر من العام الماضي ، نشرها موقع Socialbakers المتخصص ..
أما بالنسبة لموقع تويتر للتدوين المُصغر ، فكما جاء فى تقرير الإعلام الاجتماعية لكلية دبي للإدارة الحكومية ، أن هناك مليون و 300 ألف عربي نشيط على تويتر ، يُساهم بشكل فعّال فى نشر وتنمية المُحتوى العربي ، أنتجوا نحو 172 مليون تغريدة مع نهاية الربع الاول من العام الماضي 2012 ..
طبعاً أعداد مُستخدمي تويتر العرب أكثر من هذا الرقم بكثير ، إلا أن الدراسة ركزت على المُستخدمين النشطين فى الشبكة ، الذين لا يسعون إلى التعارف والترفيه ..
هذه الأرقام هدفها توضيح الصورة لك أن الإنسان العربي لا يستخدم فقط الإنترنت لأغراض الترفيه أو قضاء الوقت – كما نظن جميعاً – وأن هناك عشرات الملايين العرب الذين تختلف اهتماماتهم ومواضيعهم وتخصصاتهم يلجأون إلى الإنترنت كملجأ أساسي – وربما وحيد – لتلبية هذه المُتطلبات ..
**************************
إنها المُعاناة !
من يبحث فى الشبكة العنكبوتية باللغة العربية عن موضوع ( جاد ) هو حتماً كمن يبحث عن إبرة فى أكوام ( وليس كومة واحدة ) من القش .. مُعاناة حقيقية سيشعر بها حتماً كل من مرّ بهذا الموقف ..
فبعد ساعات من البحث المُضنى عن موضوع مُعين ، ستجد نفسك امام عدد من الروابط ، بمجرد دخولك إليها تجد نفسك في صفحة مُلوّنة مليئة بالقلوب والأزهار لمُنتدى يحمل فى الغالب اسماً من نوعية الأسماء السخيفة المُعتادة : عيون القلب – عالم حواء – صبايا الخير – همس المشاعر – إلخ ..
والمثير للغيظ أكثر أن أغلب هذه المُنتديات يكون مُغلقاً ولا يسمح لك برؤية الموضوعات .. وبالتالي يعرض عليك العروض المُلحّة بحتمية الإنضمام للمُنتدى لتُشاهد الموضوع ، وكأنه يحوي كنوزاً من المعلومات لا تُقدّر بثمن ، ولم تُنشر في أي موقع آخر عربي أو أجنبي ..
وبعد أن تنضم إلى المُنتدى ، تجد نفسك أمام عدة سطور لا تُسمن ولا تُغنى من جوع ، مكتوبة بلغة ركيكة مؤسفة تُشير أن صاحب الموضوع نفسه لا يكاد يفهم ما يكتبه .. ثم الردود المُعتادة من اعضاء المُنتدى المجهولين : يسلموووو .. ماقصرت .. تسلم الأيادي .. موضوع مُهم جداً .. إلخ
حتى لو قادك حظك الحسن إلى الدخول فى روابط عربية اكثر جدية .. ستجد أن مُعظمها يوفر معلومات لا تُشبع الفضول فى أغلب الأحيان ، ربما تتعرض إلى موضوعات أساسية بشكل مُجمل ، ولا تتطرق أبداً إلى الفرعيات أو التفاصيل المُحددة التى يسعى وراءها الباحث او الدارس او المُتقصى .. أو حتى من يرغب الإستزادة من معارفه الشخصية ..
تخيّل معى 90 مليون مُستخدم عربي لشبكة الإنترنت ، بالتأكيد سيكون منهم عشرات الملايين الذين يبحثون عن محتوى جيد لملايين الموضوعات والعناوين والأبحاث .. يجدون انفسهم في النهاية وسط عدد هائل من المُنتديات الغير مُتخصصة أغلبها .. أو مواقع شحيحة المُحتوى ، ضعيفة من حيث النوع والقيمة .. فقط إذا استثنينا بعض المواقع الجادة من القائمة !
****************************
محتوى فقير.. أم تحت خط الفقر ؟
الصورة من احدى مشاركات مسابقة تجسيد للتصميم الجرافيكي و من تصميم أحمد شديد حول إحصائيات المحتوى العربي على الويب
و التصميم معدل بأخذ الاذن من صاحب التصميم لانو محمي بحقوق ملكية
كما توضح لك الأرقام والدراسات ، المشكلة الجوهرية هي أن كم المحتوى العربي .. ونوع المُحتوى العربي .. لا تناسبان على الإطلاق مع الزيادة الهائلة فى الحاجة إليه .. فجوة عملاقة بين عدد المُستخدمين العرب لشبكة الانترنت ، وحجم المُحتوى العربي المُتواضع والهزيل – إذا قورن بحجم الطلب عليه – ..
الإحصائية فى الأعلى توضح أن موقع اللغة العربية فى قائمة لغات المُستخدمين على شبكة الإنترنت هو المرتبة السابعة ( أو الخامسة كما صنفتها بعض الدراسات ) من بين 6,500 لغة يتحدث بها البشر .. يقابلها فقط 3 % من حجم المحتوى العالمي للإنترنت !
هذا الخلل في ( الكم والكيف ) فيما يخص المحتوى العربي ، هو فى النهاية مُجرد نتيجة صحيحة وصادقة ومعبرة عن مجموعة كبيرة من الأخطاء فى إدارة وتوجيه المُحتوى العربي على الإنترنت.. يُمكننا التركيز على أهم 3 أخطاء كارثية – في رأيي – :
محتوى ركيك فى الغالب ..
فقر نوعية الكثير من المواد المنشورة واحتوائها على معلومات مليئة بالأخطاء أو معلومات غير دقيقة .. ناهيك طبعاً عن اللغة الكارثية الكسيحة التى تكاد تكون سمة سائدة ، وكأنها لغة دون قواعد او ضوابط لغوية او إملائية ، حتى لتشعر أن الكثير من النُشطاء فى انتاج المُحتوى العربي يحترفون الكتابة باللغة السنسكريتية القديمة البائدة ، وليس باللغة العربية
احتراف التكرار والنقل بشكل يدعو للدهشة
مئات الآلاف من المواقع العربية لا تفعل شيئاً سوى إعادة نشر المقالات والمواد حرفياً بعد استنساخها من مواقعها الأصلية ، وتجريدها من إسم كاتبها وإسم الجهة الناشرة ، بلا ادنى اهتمام .. بل ويعمد البعض إلى إضافة إسمه هو بدلاً من إسم الكاتب بمنتهى السماجة المُمكنة ، فى استمرار لظاهرة انتهاك حقوق الملكية الفكرية بشكل فج .. وغياب كامل – كالعادة – من الجهات الرسمية ذات الإختصاص بمُراقبة حركة الملكية الفكرية والسطو عليها..
قصور المُشتغلين على تطوير المحتوى الاليكتروني ..
هذه الإشكالية الكُبرى فى المحتوى العربي سببها المُباشر والصريح هو عدم تفهّم العاملين فى إنتاج هذا المُحتوى لديناميكية العالم الرقمي .. وعدم إلمامهم أصلاً بالمحتوى الفكري الذي يُريده المُستخدم فى سوق الإنترنت الشاسع والواسع .. فضلاً عن غياب الكثيرين منهم عن دراسة الكيفية التى يبحث بها المُستخدمون عن المعلومة ، وتجمدهم فى قوالب قديمة بالية مُزرية فى اساليب الكتابة والإنتاج دون ادنى تفكير فى تطوير القدرات سواءاً على مُستوى المُحتوى المُقدّم ، أو طريقة تسويقه الصحيحة لتصل إلى القراء المُستهدفين ..
يظن هؤلاء انهم هم المسؤولون عن تطوير المُحتوى العربي على الانترنت .. ولكنهم فى الحقيقة أكبر آداة حقيقية لهدم المحتوى العربي الراقي والأكاديمي والرصين على شبكة الإنترنت ، وتجريف الكفاءات التى تستطيع النهوض به بشكل صحيح ومميز..
إذن ، لدينا مُحتوى ركيك شامل عام ( ملئ بالأخطاء غالباً ) .. وملايين المواقع والجهات تقوم بنقل هذا المُحتوى الركيك الملئ بالأخطاء .. واصرار المُشتغلين على تطوير المُحتوى العربي على عدم مُحاولة تفهم الأساليب الجديدة الفكرية لسياسات التحرير والنشر والتسويق ..
فتظهر النتيجة مُشوّهة مريضة أمام مُستخدم عربي نشط الفكر ، يتوقّ إلى مُحتوى يوازي حدود فكره ويتجاوزها ليتعلم منه ! ..
ثم النتيجة الحتمية : الإعتماد على المُحتوى الأجنبي بشكل كامل – خصوصاً الإنجليزي والفرنسي – ، وإهمال مُتابعة المُحتوى العربي .. وبالتالى إهمال تطويره..
*************************
لا داعي أن انوّه أننى أعنى هنا فى هذا المقال ” المحتوى العربي الرصين “ الذي يُرضى قارئه ويمنحه فكرة جديدة أو معلومة جديدة مفيدة .. ولا أقصد طبعاً المحتوى العربي العام الملئ بأخبار الممثلات وفضائح الفنانين ولاعبي الكرة ووصفات الأكلات الشعبية .. هذا المحتوى من أفضل ما يُمكن عندنا في الواقع ، إذا ما قورن بغيره من لغات العالم الاخرى .. ولا داعي للمزيد من التطوير فيه أكثر من ذلك
تعمّدت أن أركز بشكل كامل على السلبيات التى يُعاني منها المُحتوى العربي على الانترنت ، لأنها الطريقة الوحيدة التى تدفعنا للتفكير لعمل شيئ ما ..
ربما يُزعج هذا التشخيص لحال المُحتوى العربي الكثيرين ، ويراه صادماً بشكل كبير .. ولكن الصدمات هي الحل الوحيد والسريع للإفاقة على حد علمي .. وهذا هو دورنا على أية حال ، فالمُجتمع الذي يُريد النهوض هو المُجتمع الذي يكشف نقاط ضعفه من أجل التغلب عليها وتحويلها إلى نقاط قوة ..
أتطلع بشدة إلى تعليقات تُقنعني بالحجة والدليل والأرقام أننى مُخطئ ومُتحامل ومُبالغ أكثر مما يجب .. وتعليقات أخرى تتناول خطوطاً عريضة لمنهجية واضحة ومحددة لتطوير المُحتوى العربي – كمّاً وكيفاً – ، بعيداً عن مهرجانات تطوير المُحتوى العربي التى نسمع عن انعقادها كل فترة.. ولا نرى آثارها إطلاقاً !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق