تقرأ رواية القلعة البيضاء ضمن هالة كبيرة من المقولات المتباينة بالإضافة إلى طقم كبير من المستويات الثقافية التي تحاذيها، فكاتبها تركي حاصل على جائزة نوبل للآداب، وهو كاتب جدلي ومشاغب على الساحة التركية، وعائد ذلك, نزعته النقدية اتجاه الممارسات التاريخية للدولة العثمانية وخلفيتها الإسلامية. فهناك الكثير ممن يلمّحون بأن شروط الحصول على جائزة نوبل قد توفرت في أعمال (أورهان باموق) نتيجة الطرح الذي ينتهجه في مجمل أعماله الروائية، وهو طرح تشوبه الشوائب لمحاولات باموق تحقيق عنوان المقاربة بين الأنا والآخر والهوية وتاريخيتها على حساب (الأنا التركية بالتحديد)، عوضا عن مساءلة الفعل في مدار التاريخ، وهو فعل ينسب عادة للإمبراطوريات الكبرى لاسيما في وقتنا الحاضر، و تحديدا في غمرة انشغال الكتاب والنقاد في التنظير لنظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي، وتحليل الكتابة في ظل عهد الإمبراطوريات الاستعمارية الكبرى بريطانيا وفرنسا ... وتشكيل قراءة مضادة للكتابة الكولولونيالية كما هي لدى إدوارد سعيد، وهومي بابا، وليلى غاندي، وفرانز فانون وغيرهم. والمثير للدهشة أن يخرج كاتب من صميم المنطقة الأكثر جدلية ليحرف البوصلة، حين يرسل سياط النقد لأناه الجمعي الكلي، وهو فعل لا مستساغ دوما في أدبيات الخطاب الرسمي لأمة ما.
أورهان باموق الثائر على ممارسات أبناء جلدته يخطو صوب الآخر، وهو هنا يرغب في أن يكون رسول التقارب نحو شقي الخلاف : الشرق الغرب، وهو في هذا النهج يأتي بما هو لا متوقع للآخر، ونعني هنا (الغرب)،إذ يرغب باموق في أن يكون أدبه نقطة للتواصل كما هي مدينة اسطنبول جسرا بين قطبين متنافرين الشرق والغرب، وهكذا يُسقط البعد الجغرافي على الرؤية الحضارية التي يرتئيها – باموق- في قراءته لخارطة الصراع الحضاري بين الأمم والحضارات .
ضمن هذا الإطار تندفع أمامنا عدد من التساؤلات بصدد هذه القضية، هل حقق باموق هذه المقولة بواقعية وحياد حقيقي، أم أنه انتقص من ذاته الجمعية ليربح الآخر، ويعلي من ذاتيته المتوحدة المتفردة ؟ والتي استطاعت أن تحقق جائزة نوبل في أواسط الخمسينات من العمر، أم أن باموق كان فعلا ينطلق مما يؤمن به في أن الأنا والآخر؟ و كلاهما مدين للآخر، وكلاهما- أيضا- شيء واحد كونهما يدينان بمرجعية واحدة هي الإنسانية جمعاء. هذا ما سنحاول أن نقرأه في روايته " القلعة البيضاء".
تقع أحداث الرواية في القرن السابع عشر الميلادي، وبطل الرواية شاب إيطالي يقع أسيرا في يد الأتراك، بعد أن تم الاستيلاء على المركب الذي يقله، ومن ثم يباع كعبد لأحد الباشاوات الأتراك، يُجرى معه تحقيق يدعي فيه ( الشاب الإيطالي ) بأن مجال دراسته علم الفلك والرياضيات والهندسة والأدوية و الطب، بالإضافة إلى إدعائه الذكاء الذي ساعده على تعلم اللغة التركية بسرعة، هادفا من كل ذلك إلى لفت الانتباه إلى قدراته الطبية التي تؤهله إلى تجاوز بعض المصاعب والأخطار، يتمكن من تحقيق ذلك، حين ينجح في شفاء الباشا الذي كان له دور بنيوي في تدعيم الفضاء السردي وحبكته عندما يسمح بدفع الأحداث إلى الأمام حين يقدم هذا العبد (الإيطالي) لشخص تركي هو الـ ( خوجه ) أي أستاذ، وواجبهما التحضير للألعاب النارية بمناسبة حفل زفاف يقيمه الباشا، واللافت للانتباه في هذا الشخص- أي الخوجه- أنه يشبه الشاب الإيطالي في الشكل إلى حد التطابق، وهنا ننفتح على فكرة تذويب الملامح والكينونات صوب ابتكار فكرة التشابه والتماثل من منظور إنساني، ولكن هذا التشابه الفيزيائي والذي يعمل هنا كدالول لا يلبث أن يُدعم، حين نعلم أن المحمول المعرفي والثقافي لكلا الرجلين هو في الحقيقة واحد أو متساو. لنصل إلى مقولة إلغاء مفهوم المفاضلة والأسبقية والهيمنة على الإرث الحضاري والمعرفي للإنسان، حين يتم خلق مفهوم هجنة المعرفة التي يلجأ لها باموق، وهنا هو مدين للخطاب الكولونيالي في هذا التوصيف، لنقرأ هذا النص من المتن الروائي حيث جاء على لسان الشاب الإيطالي :
" في الصباح و أنا أسير إلى منزل ذلك الذي يشبهني تصورت، أنه ليس لدي ما يمكن عمله له، لكن اتضح فيما بعد أن معرفته بالأمور لا تتجاوز معرفتي بها. علاوة على ذلك استطعنا أن ننسجم معاً ".
التركي والإيطالي بينهما علاقة أولية تتمثل بالعلاقة بين السيد والعبد، وهي في مستوى أبعد العلاقة بين الأنا والآخر، وفي اللقاء المبدئي بين الرجلين تبدو الهوة بين الاثنين شاسعة، إذا يبرز عدم الاعتناء بمعرفة الآخر؛ التي تصل أحياناً درجة إنكار وجوده وتحييده وتهميشه، وهنا ندخل في الفضاء الكولونيالي المعكوس حيث يتحول الموضوع الأوروبي أو (الذات) صاحب المركزية المتعالية إلى المفعول، ويتخلص من الطابع الفاعلي الذي موضعه به كتاب الكولونيالية، وهكذا فمن اليسير في هذا الوقائع قراءة التحول والتعديل التي يجريها باموق لكلاسيكيات الخطاب الكولونيالي، مع أن اللقاء الأيدلوجي بين الشخصيتين يبدو متساويا فكلا الاثنين يعني الآخر، ويبدو الحوار في البداية معدوما وغير مرغوب فيه، كما نقرأ هنا :
"شعر بتحفظي في الحوار لكني لاحظت أنه لم يهتم كثيرا، وهذا أغضبني. في تلك الأيام ربما كانت هذه هي الطريقة الوحيدة التي يفهم بها أحدنا الآخر : كان كل منا لا يبالي بالآخر "
تمضي الرواية في خيطها السردي حين تجمع بين النقيضين- الإيطالي والخوجه- علاقة طويلة تقوم على هدف واحد، هو خدمة السلطان حيث يعمل الإيطالي كعامل علمي يحاول الخوجه أن يستفيد مما لديه من علوم ومعارف، وهنا نلاحظ المؤشر الذي بات منحازا إلى الاستفادة من الآخر، والتي هي ديدن المطلب الشرقي الحديث في محاولة الاستفادة من الآخر(الغرب)، وتمضي العلاقة بينهما لسنوات تتمثل في محاولة المواجهة بين الشبيهين المتنافرين حضاريا وتاريخيا، ولكن المتشابهين فيزيائيا، ومع هذا فإن مقولة الاختلاف لن تصمد طويلا، إذ يعمل باموق على تحطيمها كلما مضينا في قراءة الرواية عبر إلقاء الضوء على التنازع والتنافس العلمي بين الشخصيتين، والصراع بينهما على تحقيق رضا السلطان أولا، ومن ثم عبر استحضار البعد التاريخي لكل منهما، حين يقومان بتجربة الكتابة، والكتابة هي هنا ثيمة وموضوع بحد ذاته فالكتابة، هي محاولة كل من الآخر لإثبات الذات، ونفي الآخر، وهنا يجري استحضار الماضي ووضعه على الطاولة في بعد صراعي شديد التأزم، ولعل الرواية هنا تصل إلى أقصى درجة من التوترات السردية، حين يجلس كلا الرجلين على طاولة واحدة متقابلين، يخوضان صراعا حول من يكتب، وماذا يكتب ولمن يكتب... في ظل انتشار وباء الطاعون الذي يتهدد الجميع، و الذي لا يقيم فرقا بين النقيضين والمتشابهين ولكافة المدينة بكل من فيها من أجناس وأعراق وديانات، وعلى ذلك يكون الانحياز لفعل الكتابة عاملا في اللقاء والمنافسة:
" وكان هو الذي أصر على أن يجلس كلانا إلى طرفي المائدة وكتب معا، كان ذلك وقت كتب كل منا " لماذا نحن هكذا ". لكنه مرة أخرى انتهى بعدم كتابة شيء أكثر، لماذا الآخرون هكذا ؟ "
الكتابة على طرفي المائدة إشارة إلى المواجهة، وربما هي إشارة تحمل في داخلها بذرة فنائها أيضا، فالطاولة هي المكان الأفضل للتفاوض والحوار، وفي طرح فعل الكتابة لسؤال من نحن، مؤشر آخر على الرغبة في البحث عن الذات، وهو سؤال لم يجد الإجابة عنه، فنحن منشغلون بالآخر، وهنا يتبدى لنا نقد شمولي لكل الأنا، وهي الأنا الساقطة على الكل سواء كانوا في الشرق أو في الغرب .
هذا الانشغال بالآخر هو ما يريد باموق أن يحيله على القارئ، وعلى الذات والكل والأنا، ولكل من يضع الآخر في المواجهة دون أن يعرف نفسه أولا، قسوة باموق في الفعل الكتابي تبرز في التكنيك الرمزي المبطن الذي يحيله مبدئيا على الكينونة الشاملة للبشرية، ولكنه في المنطقة البعيدة يحيل على الذات التركية، ولعلي أفتح هذا المنظور ليطال الشرق بكل محمولاته .
وفي صراع كليهما- الخوجه والإيطالي- على نيل الحظوة لدى السلطان الشاب بعد أن اكتشف قدرتهما على تفسير الأحلام، يبدو أن فعل المواجهة على الطاولة يصبح مطلبا لدى الإيطالي، فهو يتوق لاسترجاع تلك الأيام والليالي التي كان يقضيانها في محاولة كل منهما كتابة ماضيه، وكتابة نفسه أمام الآخر، ولكن السلطان يبدد هذا النسق التواصلي بفعل المفاضلة، كما نقرأ في هذه الأسطر :
" بين وقت آخر أحاول أن أسحبه مرة أخرى لحياتنا السعيدة السابقة، فأقول حان الوقت لنجلس معا إلى المائدة مرة أخرى، ولضرب مثال على ذلك حاولت مرة أو مرتين أن اكتب، وعندما أتلو عليه الصفحات التي ملأتها بحكايات مبالغ فيها الرعب من الطاعون ... "
وضمن تكتل لغوي حواري بين الشخصيتين نقطع معظم الرواية، حيث يتضح قاسم يجمع بين الشخصيتين من وضع السلطان، الذي يطالب كليهما باختراع سلاح فتاك، وضمن هذا الإطار يبدأ التعاون بين الشبيهين في محاولة لابتكاره، وهنا تبدو السلطة مدانة في الفعل المكرس للشقاق والتدمير، إذ يطالب السلطان بهذا السلاح لاستخدامه في إحدى المعارك، فنرى الشخصيتين يرافقان الجيش شمالا للاستيلاء على القلعة البيضاء، وخلال الرحلة يقوم الإيطالي باستعادة ماضيه الجميل في بلاده و أوروبا على شكل تداعٍ ، وهو يتجه ضمن هذا المسار نحو الأثر الرجعي، ولكن المستقبل لا يلبث أن يتمظهر مرة أخرى باعتباره الهدف المنشود في تغيير مجرى النهر الذي يشتغل في النص الروائي ككناية عن حركة التاريخ المُستعر بالصراع، وهذا يدل على تبصّر نافذ في العمل الروائي لدى باموق، إذ يجعل على لسان لشاب الإيطالي هذا الحلم بالتغيير، وإفناء مانوية الصراع بين (نحن) و(هم):
" عاد يكرر نفس القصة القديمة عن " نحن" و "هم" وعن النصر القادم، لكن ثمة حزناً يشوب صوته لم أسمعه منه من قبل، كان حزناً مصاحباً لقصصه كنغمة شجية، كما لو كان يتحدث عن ذكريات الطفولة التي يعرفها جيدا كلانا عشنا حياة مشتركة، لم يعترض حين أمسكت بعودي ولا حين رحت أضبط أوتاره بطريقة خرقاء تصدر نشازاً، كان يتحدث عن المستقبل، وعن الأيام الرائعة التي سنتمتع بها بعدما نغير مجرى في الاتجاه الذي نشاؤه ".
القلعة التي هي هدف هذه الحملة تقرأ في سياقها العلاماتي، ونعني هنا البعد اللوني الذي يحتفي به كثيرا باموق في أعماله الروائية، فالقلعة البيضاء النقية والمثالية تُستدرج لفعل القتل و التدمير، وهكذا تتبدى الرغبة الملحة لدى باموق للعمل على الدلالات اللونية في مجمل العمل الروائي، الذي يتعمق أيضا من خلال وصف الغابة بالسواد، وهي دلالة مناقضة للبياض، والغابة بوح واضح للتعبير عن واقع الإنسان المتخم بالعبثية والتدمير والفناء، ولنقرأ وصفا للقلعة يشي بجدلية ثنائية بين اللونين الأبيض والأسود، وقد جاء على لسان الإيطالي القائم بمهمة السرد:
" كل شيء مثالي و كامل مثل القلعة نقية البياض، والطيور تحلق فوق أبراجها، مثالي وكامل مثل المنحدر الصخري القاتم والغابة السوداء الساكنة، أعرف الآن أن كثيرا من الأشياء التي خبرتها لمدة سنوات كأحداث مرت بي كانت محتومة ولا مفر منها ".
في الفصل العاشر يكون اللقاء الأخير بين الرجلين، حين يقص الإيطالي على الخوجه تفاصيل حياته، وموقع منزله ويحدثه عن أسرته وخطيبته، وذلك بعد أن تأكد الخوجه من فشل السلاح وفشل الاستيلاء على القلعة ومعرفة عواقب ذلك عليه، لذا تتم مبادلة الملابس بين الاثنين، ولكن التبادل لا يأتي على المستوى المادي أو الشكلي، إنما يتسع ليشمل المنظور الكلي لمفهوم الإنسان والتاريخ والصراع، هو إبراز لحقيقة مفادها إن الاختلاف لا يعني شيئا، وهذا ما يكسر أدبيات الخطاب ما بعد الكولونيالي التي جعلت من الاختلاف والتمايز إحدى سماتها المميزة، كما جاء لدى المنظر الهندي " هومي ك بابا " في كتابه " موقع الثقافة " فباموق يخلق موقعا يتسم بالتجاذب عند تناوله لهذا الاختلاف... هل هو فعليا يقضي عليه ضمن مستوى معين، أم أنه يقوم بتثبيته نصيا وثقافياً باعتباره واقعا مفروضا ؟!
في الفصل الحادي عشر، وهو الفصل الأخير تنتهي الرواية بذكر ما آلت إليه حياة الإيطالي في مكان اغترابه وعبوديته وقد هرب إلى مدينة أخرى بعد أن عمل سنوات في خدمة السلطان، مما سمح له بشيء من الهدوء والسكينة بعد أن تزوج وأنجب أطفالا. والطريف أن تبادل الهوية بين الشخصيتين، قد كفل لكل منهما الأمن والسلامة، حيث يقول الإيطالي:
" فأنا الآن أخجل تماما عندما أتعرض لأسئلة عن هويتي التي كانت في البداية تعمل على حمايتي : إلى أي مدى يمثل المرء من هو ؟
وفي كلمات قليلة تمر في ثنايا الفصل الأخير، ندرك رسالة باموق التي يحملها على لسان الإيطالي حين يقول :
" أنا لا أشبهه ولم أترك عقلي لأولئك السفسطائيين الذين يفرقون بين " نحن " و " هم" كما كان يفعل " .
هذا الفصل يبدو كملخص سريع، ونتيجة للفصول السابقة بما مثلته من أحداث، فكلا الرجلين عبر عن ثقافة نقيضه كما نقرأ، إذ عاش الإيطالي كالأتراك، و مارس طقوسهم وثقافتهم حتى أنه أدى الصلوات الخمس، في حين عاش التركي حياة الإيطالي بعد أن ورث عالمه مضافا لها رؤية ما حملها معه من بلاد الأتراك، حيث كتب عن الآخر أي كتب عن ذاته الجمعية ناقدا لها بعد أن أصبح عالما ومحاضرا في إيطاليا، كما كان يحلم (التركي) ، وقد كتب كتبا يتحدث فيها عن مغامراته التي لا يصدقها عقل بين الأتراك كما أخبرنا الزائر القادم من إيطاليا لرؤية (الإيطالي- التركي) بعد أن أخبره عنه (التركي – الإيطالي)، ولنقرأ المقطع التالي كي نرى من خلاله ربما بصيص إجابة عن تساؤلاتنا التي وضعناه في البداية، وأترك لكم القرار في إكمال ما بدأته عبر دعوتكم للتبصّر الشديد بهذا المقطع الذي يعبر عن رؤية التركي ( الخوجه ) بعد أن عاش في إيطاليا :
" كتب أننا نعيش عصراً منحطاً، ووصف عقولنا كأنها خزانة قذرة مليئة بالنفاية البالية. وقال أننا لن نستطيع إصلاح أنفسنا ليس لدينا بديل آخر سوى الاستسلام في الحال، وبعد هذا لن يكون بمقدورنا أن نفعل أي شيء لقرون قادمة غير تقليد من استسلمنا لهم"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق