تعتقل الشرطة زينب بتهمة الدعارة. تقرّر التوبة لكن الشعور بالذنب يلاحقها. تعتقد أن الزواج سيخلّصها من معاناتها. ولكن زوجها طارق، الضائع بين إمامته الدينية وهوسه بالنساء، لا يساعدها على النسيان. فهو يراها عاهرة ويغريه ماضيها وعلاقاتها بالرجال، ولكنّه في الوقت نفسه يخنقها بغيرته وشكّه واتهاماته لها.
عائلة يمنية تتشابك مصائر أفرادها في مجتمع تنشط فيه تجارة البغاء، وتعدّد الزوجات، والتطرّف الديني.
في "زوج حذاء لعائشة"، روايتها الثانية بعد "إنه جسدي" (دار الساقي)، تقتحم الكاتبة اليمنية نبيلة الزبير منطقة وعرة تنتمي إلى حقل المسكوت عنه، فترصد حياة شريحة اجتماعية موجودة على هامش المجتمعات العربية، تمارس حياة التخفي خلف الأسماء والجلابيب والخطط، وتعيش حياة سرية في مجتمع ذكوري يعاني التطرف الديني وازدواجية المعايير، هي شريحة الداعرات اللواتي أودت بهن ظروف معينة إلى ممارسة "المهنة" الأقدم في التاريخ.
والكاتبة لا تفعل ذلك بهدف الإثارة والشهرة السريعة و"كسر مزراب العين" وفق الكناية اللبنانية المعروفة، ممّا يشكّل هدفاً لأعمال روائية كثيرة تحاول سلوك الطريق الأقصر للشهرة عبر "قادومية" الإثارة وطرق الموضوعات "المحرمة"، متوهّمة بذلك أنها تحقق رواجاً وحضوراً في المشهد الروائي، غير أن التوهّم شيء والواقع شيء آخر.
ما تفعله نبيلة الزبير هو أنها تتناول حياة شريحة اجتماعية موجودة، من منظور اجتماعي، فتصوّر الظروف التي تُضطر البعض إلى تعاطي البغاء، وظروف العمل، ومعاناة البغيّ صنوف الإذلال، واستغلالها ومطاردتها من القوّادين، وموقف المجتمع والسلطة منها، وموقف الأهل، والقلق الدائم على المستقبل، والرغبة في العودة إلى حياة طبيعية. وهي تفعل ذلك من خلال رصد حياة ثلاث نساء صديقات جمعت بينهن ظروف الأسرة الواحدة أو العمل، ومن خلال متابعة مصائر أفراد أسرة يمنية تقيم في صنعاء وجوارها، وتحوّلاتهم خلال مدة تنوف عن العشرين عاماً، غير أن الأحداث المرصودة في الرواية تتناول ثلاثة عشر عاماً فقط من هذه المدة.
بالدخول إلى الرواية من عنوانها، فإن المدلولات التي تعبّر عنها مفردة "حذاء" تتخطى المعنى المعجمي إلى المطية التي يمتطيها الآخرون لتحقيق أغراضهم، والحامي، والفكر، والرؤية، وحسن التدبير، ممّا يحتاجه الإنسان وقت الشدة. وترمز "عائشة" إلى الضحية التي تألّبت عليها الظروف والسلطة والمجتمع، وتركتها لمصيرها.
تختلف الظروف التي أدّت بالفتيات الثلاث إلى ممارسة البغاء من واحدة إلى أخرى، وتتراوح بين النشأة والمال والفراغ (نشوى)، والحاجة (رجاء)، والخوف من الهيئة الاجتماعية (زينب).
فنشوى نشأت في بيت ذي مال، يتحلّل فيه الأب التاجر من الضوابط الاجتماعية، ويعيش حياة متفلّتة منها، فيستضيف في بيته عشيقاته المتنكرات بأزياء رجال، بعلم امرأته، وبحراسة نشوى ابنته الصغرى التي تلعب دور حارس مكاسب أبيها وإخوتها. لعل هذه النشأة، مضافةً إلى امتلاكها المال، ومعطوفة على خواء جسدي تعانيه، تدفع بها إلى ممارسة الجنس وتعدّد علاقاتها ومعاقرة الخمر، مستفيدةً من موقع أبيها المالي والتجاري، وغير خائفة من عواقب أفعالها. وهنا، يغدو عملها نوعاً من "ترف" أقدمت على ممارسته والتمتع به مختارةً بملء إرادتها لتملأ فراغاً ما، لا مضطرةً تحت وطأة الحاجة والضرورة، حتى إذا ما تفاقم أمرها، تتدبر أسرتها النافذة أمر سجنها في سجن خاص، بالتواطؤ مع سلطة فاسدة، مدة مائة وثلاثين يوماً، وما إن تخرج من السجن حتى تبدأ رحلة العودة إلى الحياة الطبيعية بالتدريج، وبالتزامن مع رحلة مماثلة لصديقتيها وزميلتيها رجاء وزينب، فتؤسس شركة طباعة تنضمّان إليها، وتجني المال، وتُكمل دراستها الجامعية، وتُقبل على القراءة، وينتهي بها المطاف بالزواج والإنجاب. خلال هذه الرحلة، تحاول كتابة سيرة عائشة، الطفلة التي ولدت في السجن لأمٍّ سُجنت ظلماً حملت بها في السجن وماتت، ونشأت في كنف السجينات، وسُجنت بتهمة ملفقة، وأُعيدت إلى السجن لأنها رفضت ممارسة الدعارة، ثم هربت ولم يُعرف مصيرها. وكأن هذه "العائشة" تختصر سيرة كثيرات ممّن جنت عليهن الظروف، وتواطأت الهيئة الاجتماعية (المجتمع والأهل) والسلطة (ضباط السجن) عليهن، فتأتي الكتابة لتشكّل فعل تطهّر من ماضٍ عاشته نشوى، ولتكرّس عودتها إلى الحياة الطبيعية.
وعلى النقيض من نشوى، تأتي رجاء إلى الدعارة من موقع مغاير وظروف مختلفة؛ فبعد سقوط أبيها المقاول وكسر ظهره، تدفعها ظروف العائلة إلى ترويض الحيوانات الوحشية واستضافة الزبائن في البيت، وتروح تتدرّج في عملها حتى الاحتراف، وتؤمّن لأسرتها دخلاً دوريّاً وفيلاّ فخمة، وتتعرّض خلال عملها للاغتصاب، والضرب، والسرقة، والشتم والإهانة، والإذلال، والاستغلال، مما تتعرّض له كثيرات ممن مارسن هذه "المهنة". ثم تباشر رحلة التحرر من ماضيها وحاضرها بالتدريج، بمساعدة صديقتيها نشوى وزينب، وبمتابعة الدراسة، وبالعمل. وتعود لتقيم مع أسرتها بعد وفاة أبيها، ويلوح في أفقها مشروع زواج محتمل. ولعل المفارق في حكاية رجاء هو أن الأب الذي كان مجرّد النظر إلى زوجته كافياً للشروع في جريمة قتل يتحوّل بعد كسر ظهره إلى "قوّاد" لابنته، ليغدو ظهره مكسوراً ليس بالمعنى الجسماني فقط بل بالمعنى الاجتماعي أيضاً، ولكنه مع هذا يقيم في الفيلاّ ويستمر في الإنجاب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق