تتشابه إلى حدٍّ ما اغلب كتب القراءة الفكرية العربية، على الرغم من اتساع هذا المفكر على ذاك بثقافته العريضة أو باستشرافه الجريء، ورغم اتساع المشهد الذي تكررت فيه الأعلام التي تختص بمثل هكذا نهج، وهكذا مدرسة. إلا إن كتاب (تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة) يستوقف قارئه كثيرا، فمؤلفه هذا الكتاب علمٌ ؛ ولد عام 1939م. وتلقى تعليمه في (حلب)، وتخرج في جامعة (دمشق) حاملاً الإجازة في اللغة العربية. عمل مدرساً، وصحفياً، وموظفاً، ومديراً في إذاعة دمشق (1963-1964)، ورئيساً لتحرير مجلة )دراسات عربية(. وقد حقق باسمه (جورج طرابيشي) مسيرة نحو الحرية في الفكر، وتجسيد النزعة الإنسانية الرفيعة على مساحة الواقع الثقافي العربي، مؤسساً جدل محتوى العقل العربي، وانتشاره، ثم كاشفا عن سايكلوجية انغلاقه ضمن موروثات بقيت من الصعب تجديدها، ومنطلقا من الفكرة المشاغلة لتفكيرنا العربي المشترك، كونه بن هذه الثقافة، وان اختلفت جغرافيتها إلى حدّ ما؛ وهي أن المجتمعات العربية شهدت النزعة الانتشارية قبل أوروبا بعدة قرون (أيام الفتوحات)، وإنها اليوم تشهد زلازل أخرى أحدثتها مساحة العالم الذي تقلص بالاتصالات الجبارة، و(بان العالم تحول إلى قرية صغيرة)، صارت فيه أشهر جملة يتبادلها مثقفيه دون أن يستشرفوا ما سوف يحصل للإرث الثقافي الضخم الذي أسمونا بسبب كثافته (امة كلام)، وخصوصا بعدما ماتت في العالم نزعة انتشاره بعد القرن الثالث عشر، والدخول في عصور الظلام الطويلة، ومعلوم أن تلك النزعة الإنسانية المؤثرة انطلقت من إيطاليا (الكنيسة) أولاً، ومن ثم إلى عموم أوروبا ثانياً ففي عصر النهضة (القرن السادس عشر)، توسعت بلا توقف حتى يومنا هذا، بينما بقيت تابعة، ولم تكمل مسيرتها، من بعدما ظهرت بين عامي (800م-1100م) أي قبل أوروبا بسبعمائة سنة على الأقل!. وقد بقيت أوروبا متواصلة ومتصاعدة من دون انقطاع منذ القرن السادس عشر، وحتى اليوم، وهذا ليس سرّها في التفوق، حيث يرى (جورج طرابيشي) أن جيل (بن رشد) و(الرازي)، وبقية الفلاسفة والأدباء كانوا ناشطين بين عامي 950- 1020م على الأصعدة والمستويات كافة من أدبية، وتاريخية، وجغرافية، وفلسفية، وكانوا يمزجون بين العلوم الدينية، والعلوم الدنيوية بطريقة ذكية منفتحة، وكانوا أبعد ما يكونون عن التزمت والتعصب، فـ(مسكويه) يستشهد تارة بأرسطو، وتارة أخرى بالنص المقدس من دون أن يعارضه معارض، غايته التأشير فوق التأشير، و(يفسر الماء من بعد جهد بالماء). وكان يفهم الدين فهماً عقلانياً، وسطياً، بعيداً عن التكفير، والانغلاق الفكري أو العقائدي. كذلك الأمر مع (أبي حيان التوحيدي) صاحب الكتب الشهيرة والأسلوب الرائع: (كالمقابسات)، (والإمتاع والمؤانسة)، و(الصداقة والصديق)، فهم أعلام فكر حرّ جدلي قد كانوا مؤمنين وعقلانيين في اعتدال، وليس اعتلال. كون التفكير العقلاني المحايد ذا النزعة الإنسانية، طمس عمدا في ساحة الفكر العربي البديع، الذي كان مبنيا على السجال والردود المفتوحة، (ولا تفسد للود قضية ما مهما بلغت شدة الشد)، وبلغ بالمفكر العربي بعد موت الفلسفة الغمار، وانتصار (الديماغوجية )، كأن يعيد اجترارا مما ورث. فاستمر المنوال طيلة ستمائة سنة أو أكثر، أي حتى مشارف النهضة الحديثة في القرن التاسع عشر، وبقي حبيس بقعة الزيت المحتجزة مع الماء في زجاجة مقفلة، وعلى النقيض لما حصل في أوروبا، أي عندما توقفت فلسفتنا العربية وفكرها العقلاني، راحت تشع من عندهم بازدهار متواتر، وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم ثقافة بناء وليست هدم. وبقيت تندب حضها بما ملكت من ندب، وراحت تعيد بملل، بلا إضافة، بأنها كانت رائدة الدنيا، وحسب (فعندما كنا نحن نغطّ في ظلام العصور الوسطى، أي في القرون الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر وحتى التاسع عشر، كانوا هم يصنعون الحداثة والحضارة درجة فدرجة، ومرحلة فمرحلة. ففي تلك القرون ظهر (دانتي)، (بيترارك)، (كوبرنيكوس)، (غاليليو)، (ديكارت)، (سبينوزا)، (لايبنتز)، (نيوتن)، (كانت)، (هيغل)، (فيخته)، (كيبلنغ)، (هولدرلين)، (ماركس)، (أوغست كونت)، و(فرويد)، الخ )، فتقوم الفكرة لتكمل تلاقحها مع الأفكار الأخرى، حيث الشجرة تنزع قلفها بمرور الوقت لتظهر دورتها الجديدة، (هذا في حين أنه لم يظهر فيلسوف واحد في العالم العربي كله خلال تلك الفترة، وكان (ابن رشد) الذي مات في نهاية القرن الثاني عشر (1198) آخر فيلسوف كبير عرفناه، بعده كان القحط والجدب، ولكن لا ينبغي أن نستثني (ابن خلدون) المؤرخ النقدي الكبير الذي مات عام 1406م ). وعلى العموم تبقى كتب تاريخ العقل العربي ونشأته تجتر في الخلافات المتفق عليها، فما بين المدرسة الكوفية والبصرية خلافات أعرابية قد أدت إلى تفسيرين للنص الواحد ضمن اللغة الواحدة، وصار في الصف الواحد أكثر من شق، وفي الوقت نفسه تجري في أعالي البحار نهضة فكر جديدة تتسلط تدريجيا بفعل الملاحة والتجارة، و(جورج طرابيشي) يستنتجها كمراحل؛ أولاهما المرحلة الكلاسيكية المبدعة (بين القرنين الثامن والعاشر للميلاد)، حيث حصل تفاعل مع الفكر الإغريقي والهندي والفارسي عن طريق الترجمات، وحيث حصلت مصالحة بين الدين والفلسفة على يد كتّاب كبار كـ(الجاحظ)، (التوحيدي)، (مسكويه)، (المتنبي)، (المعري)، (البيروني)، (فخر الدين الرازي)، وعشرات غيرهم، هذا من دون أن يغفل كبار الفلاسفة في المشرق والمغرب، كـ(الكندي)، و(الفارابي)، و(ابن سينا)، و(ابن رشد)، و(ابن باجة)، و(ابن الطفيل)، الخ.. (هذه الفترة امتدت كما قلنا حتى القرن الثالث عشر تقريباً، بل وحتى بداية القرن الخامس عشر إذا ما أردنا أن نشمل بها ابن خلدون- الكتاب ص129)، والتالية هي المرحلة (السكولاستيكية- الاجترارية ) أي التكرارية، وقد استمرت منذ موت ابن خلدون وحتى ظهور رفاعة رافع الطهطاوي في مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر والاحتكاك بالحضارة مرة أخرى من خلال البعثات إلى أوروبا، فطيلة هذه المرحلة اكتفى المسلمون عرباً كانوا أم غير عرب بتكرار واجترار ما أبدعه القدماء أو حتى تقليصه إلى أقصى الحدود ونسيانه، وبالتالي فقد راحوا يكررون المقولات العقائدية والفقهية لهذا المذهب أو ذاك دون أي إبداع أو إضافة تذكر، في تلك الفترة تحجر الفكر والعقل وأصبح الناس يكررون كالببغاوات المقولات والأفكار نفسها، فيصف المرحلة الثالثة بالمرحلة (الليبرالية) أو مرحلة عصر النهضة وقد امتدت من عام 1800م بعد حملة (نابليون بونابرت) على مصر وانتهت عملياً عام 1952، تاريخ ظهور دعاة القومية والتحرر من التبعية الأجنبية، وهي من أكثر المراحل خصوبة في تاريخ الفكر العربي، والرابعة هي مرحلة الثورة القومية العربية الاشتراكية بقيادة جمال عبد الناصر، وقد امتدت من عام 1950 إلى 1970 أي حتى موت عبد الناصر، وقد امتزجت بالماركسية في مرحلتها الثانية. حتى جاءت المرحلة الخامسة، وهي التي لا نزال نعيش فيها حتى الآن، فبعد موت (عبد الناصر) بطل القومية العربية انتشر التيار الديني (حزب الإخوان المسلمين) الذي أسسه (حسن البنا) وتوضح على الساحة الإيديولوجية، ومن ثم ظهرت الثورة (الخمينية) في إيران، و(بقية الحركات الأصولية في مشرق العالم العربي ومغربه). مستشهدا بمقولة اركون (لقد عاب عليّ المستشرقون لأني تحدثت عن النزعة الإنسانية العربية في القرن الرابع الهجري، أو العاشر الميلادي، وقالوا لي إن النزعة الإنسانية غير معروفة في تاريخ العرب والإسلام كله، وإنما ظهرت فقط في أوروبا أثناء عصر النهضة، وبالتالي فلا يحق لك أن تستخدم هذا المصطلح ولا أن تطبقه على تاريخ الفكر العربي فمصطلح هيومانيزم لا علاقة للإسلام به)، فعلى العموم بقي الفكر العربي ذو نزعة إنسانية عقلانية (قد مات بموت (ابن خلدون) في بداية القرن الخامس عشر الميلادي، ولكنه مات كمرحلة واسعة وجماعية بدءاً من القرن الثالث عشر، أي بعد موت (ابن رشد)، وبالتالي فابن خلدون هو استثناء على القاعدة، ليس إلا انه فرد معزول داخل عالم قاحل هجره الفكر إلى حد كبير وغطس في مستنقع التكرار والاجترار العقائدي أو المذهبي الضيق- ص232). ويمضي مستعرضا (طرابيشي) ما كان قد ترجمه العرب من الكتب الفرنسية والإنجليزية في شتى الاختصاصات العلمية والفلسفية، وما لمعت من أسماء في تاريخ الأدب والفكر ك(أحمد مصطفى السيد)، و (حسنين هيكل)، و(طه حسين)، و(توفيق الحكيم)، و(عباس محمود العقاد)، و(ميخائيل نعيمة)، و(جبران خليل جبران)، وعشرات غيرهم، وشكلوا تياراً إنسانياً وعقلانياً رائعاً. و نلاحظ أن (جورج طرابيشي) لا يهمل في كتابه نقد النواقص التي تحيط بالحضارة الإنسانية بشكل عام، و يعترض على (الكولونيالية) في هذه الحضارة، أو تلك، ويعتبرها انحرافاً عن مبادئ عصر النهضة والتنوير وتشويهاً للقيم الأساسية التي بنيت عليها كل حضارة حديثة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق