عصر الشك : دراسات عن الرواية ... لــ ناتالى ساروت
هل هنالك علاقة بين "رواية ما بعد الحداثة" و"أكلة الماكدونالدز؟")
بهذا العنوان الصادم افتتح أحد الصحفيين الفرنسيين مقالة صغيرة ساخرة ومستفهمة عن الشروط المابعد حداثية التي تحكم الواقع الثقافي والأدبي في العالم، وهو محق من وجهة نظري طالما أن "الاصطفائية" هي درجة صفر من ثقافة عامة معاصرة، وعلى حد تعبير جان فرانسوا ليوتار فإن الإنسان المعاصر محاط "بأفلام الويسترن" ويأكل "الماكدونالدز" ويضع "العطر الباريسي" وهو يعيش في طوكيو، ويتخذ من المعرفة مادة للألعاب التلفزيونية، وبمعنى آخر فإنه يعيش في "عصر التراخي". فإذا كان هذا العصر يسم كل شيء تقريبا فما هي آثاره الحصرية على الأنواع الأدبية، وبعبارة أخرى كيف يمكن للرواية وهي نتاج الحداثة الغربية أن تمثل ثقافيا واجتماعيا وسياسيا الشروط المابعد حداثية لهذا العصر؟
المقدمة :
إن الأهمية التى نثيرها المناقشات الدائرة حول الرواية – وبصفة خاصة تلك الأفكار التى يجيء بها رواد ما يسمب بــ " الرواية الجديدة " – جعلت بعض الناس يعتقدون أن هولاء الروائيين هم مجرد تجريبيين بدأوا بوضع نظريات ثم أراداوا ان يطبقوها عمليا في كتبهم , وهكذا أمكننا القول بأن هذه الروايات كانت " تجارب معملية " ومن هنا يمكن الاعتقد بأننى ما إن كونت بعض الأفكار عن الرواية المعاصرة وتطورها ومضمونها وشكلها وحتى أقدمت ذات يوم على تطبيقها بوضع كتابى الأول " انفعالات " والكتب التى تلته .
وما من قول أصدق من مثل هذا الرأى .
إن الموضوعات التى يضمها هذا الكتاب , والتي نشرت ابتداء من عام 1947 , واكبت من بعيد ظهور كتاب " انفعالات " , فلقد شرعت فى كتابة " الانفعالت " عام 1932 , وكانت النصوص التى يتكون منها هذا الكتاب الأول تعبيرا تلقائيا عن انطباعات حية , وكان شكلها تلقائيا وطبيعيا هو الآخر’ تماما مثل الانطباعات التى منحته الحياة .
وقد لاحظت وأنا أكتب أن هذه الأنطباعات كانت نتاج بعض الحركات وبعض الأفعال الداخلية التى تركز عليها انتباهى منذ وقت طويل , ويخيل إلى فى الحقيقة أن ذلك كان منذ طفولتي , وأنها حركات غير محدودة تنزلق بسرعة حتى أعماث الضمير وأنها فى صميم حركاتنا وكلماتنا مشاعر نبديها ونعتقد أننا نعانى منها , وانه من الممكن وصفها , لقد كانت تظهر لى وما زالت على انها أصل وجودنا السري .
وكما انه فى الوقت الذى تستكمل فيه هذه الحركات فإن أية كلمة – حتي كلمات المونولوج الداخلى – لا يمكن ان تعبر عنها , ذلك أنها تتكون في داخلنا وتتفاعل بسرعة فائقة دون أن ندرك بوضوح ماهيتها وهى تثير بداخلنا إحساسات دائما ما تكون حادة ولكنها مكثقة , لم يكن من الممكن نقلها للقاريء إلا بصور تعطي معادلا مضوعيا , وتجعلها تظهر إحساسات مماثلة , وكان لا بد أيضا من تحليل هذه الحركات ونشرها فى ضمير القاريء بطريقة التصوير البطيء , ذلك أن الوقت لم يكن أبدا وقت الحياة الواقعية ولكنه كان وقت الحاضر المتسع تجاوزاً .
إن انتشار هذه الإحساسات تصحبه مآس حقيقية تختفي وراء المناقشات العادية والحركات اليومية , أنها تنفتح فى كل وقت على هذه المظاهر التى تخفيها وتكشف عنها فى الوقت نفسه , هذه المآسي التى تتضمن تلك الافعال غير المعروفى حتي الأن , كانت تجذبني فى حد ذاتها , ولم يكن هناك شىء يستطيع أن يبعد انتباهي عنها , ويجب ألا يكون هناك شىء يبعد عنها انتباه القارىء : لا شخصيات الأبطال ولا عقدة الرواية التى من أجلها تتكون فى العادة هذه الشخصيات , ولا المشاعر المعروفة التى تحمل أسماءه , إن هذه الحركات التى توجد عند الجميع ويمكنهافى كل وقت أن تنشر لدى أى إنسان بل لدي شخصيات غير محددة أو تكاد , يجب أن يساندها عون بسيط , أن كتابي الأول يحتوي كبذرة على كل ما لم أكف فى كتبي التالية عن إنمائه , ولقد ظللت " الانفعالات " هي الجوهر الحي لكل كتبي , غير أنها تنتشر بكثرة فى الحدث الدرامي المتمدد فيها والمعقود أيضا بينها وبين هذه المظاهر وهذه الأماكن المشتركة التى تنفتح عليها من الخارج مناقشاتنا , والشخصية التى يخيل إلينا أننا نراها , وهذه النماذج التى يبدو عليها بعضنا فى عين الآخر.
بيانات الكتاب :
الأسم : عصر الشك – دراسات عن الرواية
تأليف : ناتالى ساروت
الترجمة : فتحى العشرى
الناشر : المجلس الأعلي للقافة
سنة النشر : 2002
الحجم : 3 ميجا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق